قضايا

حول دور الشباب في صناعة الوعي (4): المواجهة والتحدي

عدي عدنان البلداويان وجودنا في اجواء مشحونة بأفكار المواجهة والتحدي، بالقدر الكبير الذي نعيشه اليوم، يضعنا في مواقف حرجة ومربكة الى حدّ ما، فمن الناحية الأمنية  نحن مطالبون بمواجهة الإرهاب والخطر .. ومن الناحية السياسية نحن مطالبون بمواجهة الإخفاقات والفشل والتصدي لهما .. ومن الناحية الصحية مطالبون بمواجهة ومحاربة الأوبئة والتلوث وكثرة الأمراض التي تظهر لأول مرّة وأمراض الحروب ومخلفات الأسلحة التي استخدمت .. ومن الناحية التربوية مطالبون بمواجهة الإخفاق الذي بدا واضحاً في عمل مؤسسات الدولة في رعاية ابناء البلد وتعليمهم وتربيتهم .. ومن الناحية الثقافية مطالبون بمواجهة الإنحرافات الفكرية والتيارات الثقافية المبطنة ..

ان وجودنا في هذه الأجواء بشكل متواصل جعل فكرة المواجهة والحرب والتحدي تصطبغ بصبغة اعتيادية مألوفة في المجتمع، وهذا يجعلنا ندمن حدّة المواجهة حتى في الحوارات التي ينبغي فيها ان يسمع صوت العقل، واذا بالأيدي تتحرك وتشمّر عالياً، والأصوات تعلو ويحتدم النقاش ليتحول الى الأيدي والألسن في مواجهة عضلية أمام الكاميرات في كثير من القنوات الفضائية ..

واخذت هذه الظاهرة تحتل مكانها في نفوس الناس، فما ان يثار احدهم حتى يتنمر سلوكه ويصبح خطراً حقيقياً قد لا يمكن تداركه كما في حالات الشجارات التي تنتهي في المستشفى أحياناً، او في مراكز الشرطة أحياناً اخرى، وامتد هذا الخطر ليصبح سمة جماعية توصف بها هذه العشيرة او تلك، فترى جمعاً من الرجال والشباب يحملون السلاح ويطلقون النار لأمور تجعل المشاهد منذهلاً لما وصل اليه حال القوم ..

ولا ننسى دور العالم الافتراضي في فتح اجواء العنف والتوتر عبر العاب رقمية كـ(البوبجي) التي القت بضلالها على حياة الناس واستقرار الأسرة وخصوصيتها فوقعت مشاكل كثيرة كان ضحيتها الشخصية الانسانية ..

الانسان حريص على ما منع ..

ان تركيز الاهتمام على الممنوعات والمحرمات والمحضورات ودعوة مقاومتها، وترك تركيز الاهتمام بالواجبات والمتطلبات، هو شكل من اشكال العبث الفكري أو المجهود الذي لا جدوى حقيقة منه، فكم حذرت اجهزة الدولة  ومنعت بيع الخمور، واغلقت محال بيعها، والملاهي التي تقدم المشروبات الكحولية، وكم هي منتشرة اليوم .. وكم حاربت اجهزة الدولة بيوت البغاء، وطاردت العاملين في هذا النشاط اللاخلاقي، وهي لا تزال موجودة ولعلها ازدادت وتنوعت متسترة بلباس لا يجلب الشك والريبة ..

وعلى الصعيد السياسي نلاحظ عبر الإعلام، تهكم هذا المسؤول على ذاك، وتركيز هذه الجهة على سقطات تلك الجهة، مبتعدين تماماً عن فكرة المشروع الذي ينبغي العمل عليه والذي ينبغي ان يقوم النقد على اساس الإخلال بذلك المشروع لما يعنيه من أهمية للمجتمع، ومن الطبيعي ان لا يلمس المواطن اي تحسن في الأداء الحكومي ..

ان مناهضة الفشل قد لا تحقق النجاح  بالقدر الذي تحققه مساندة النجاح .. فلكي ننجح علينا ان ندعم النجاح اكثر من وقوفنا بوجه الفشل، و الفارق بين الفكرتين أن مناهضة الفشل تركز على الفشل وقد يضيع قدر كبير من النجاح  جراء هذا التركيز، بينما يركز دعم النجاح على النجاح وحده، وفي هذا التركيز  سينتهي الفشل ..

ومناهضة العنف قد لا تصنع سلاماً بقدر ما تشتغل على توفير امكانات مواجهة العنف وتحديده والقضاء عليه، فمناهضة الفاشلين قد لا تأتي بالناجحين، مثلما هو تركيز الإهتمام بالنجاح ومواصفات الشخصية الإجتماعية الناجحة في مجالات الثقافة والسياسة والتربية وغيرها..

لو اهتمت اجهزة الدولة وركّزت اهتمامها على السلام والخير وعملت على تحفيز الناس للقيام بأعمال وانشطة سلمية ايجابية، فإن ذلك له أثره في انحسار السلبيات، وقد نلاحظ هنا وهناك انشطة من هذا القبيل لأشخاص بجهود فردية أو جماعية محدودة ينتهي ذكرها واثرها بالثناء، أو تسليط الضوء عليها لدقائق عبر احدى القنوات الفضائية، أو كتاب شكر وشهادة تقديرية من احدى الجهات أو الأشخاص ..

في التاريخ  شواهد كثيرة، وفي الواقع شواهد كثيرة ايضاً، فقد رأينا كيف واجه النبي ابراهيم جهل قومه وانصياعهم لأفكار كانت مألوفة لديهم لا مجال لإنتقادها وإعادة التفكير بها، وهيأ لهم الأجواء التي تمكنهم من تغيير طريقة تفكيرهم ..

ورأينا كيف تمكن نبي الرحمة محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من مواجهة عصبية قومه حتى تمرنت عقولهم ونفوسهم لاستيعاب المعنى والهدف ..

كان الخطاب القرآني يقوم على التربية وتدريب النفس، ففي سياق الحديث عن سلوكيات النبي، كان بعض المسلمين يقولون في حديثهم مع النبي (يا محمد) و ( ياابن عبدالله) حتى نزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تجعلوا دعاء النبي بينكم كدعاء بعضكم بعضاً..) فقد دعاهم بالمؤمنين ثم طلب منهم مغادرة هذا النمط السلوكي في مقام النبي وان كانوا يعتادونه بينهم ..

وورث اهل بيت النبي أفكاره صلى الله عليه وآله، فهذا التاريخ يخبرنا عن رجل من اهل الشام اعترض الإمام محمد الباقر عليه السلام في المدينة فسأله: أأنت من يسمونه البقرة !

ردّ عليه الإمام دون توتر بل يسمونني باقر العلم ..

فقال له الرجل: افأنت ابن الطباخة ؟ فردّه الإمام ما يعيبها ذلك .. وتمادى الرجل اكثر فقال له : اذن انت ابن البذية، ردّه الإمام قائلاً: ان كنت صادقاً غفر الله لها، وان كنت كاذباً غفر الله لك ..

ترك هذا النمط من التعامل مع الآخر وقعه واثره، فقد تغيرت طريقة تفكير ذلك الرجل بعد ان وجد النتيجة على غير ما كان يتوقعه، كما حصل مع  رجل  أخذ يسب ويشتم اهل بيت النبي على مسمع من الإمام الصادق عليه السلام، فتقدم اليه الإمام وكان برفقته بعض شباب بني هاشم، فبادره بالقول تبدو غريباً عن الديار، الك حاجة فنقضيها لك، استغرب الرجل ردّة فعل الإمام قائلاً له كان بوسع الفتية الذين معك ان يوسعوني ضرباً على ما قلت بحقك، واذا بك تسألني قضاء حاجتي ..

وقد رأينا في سياق الحياة الاعتيادية لأشخاص، لم تتهيأ لهم مناخات النبوّة والوحي، مثلما تهيأت لهم مناخات الوعي، فقد واجه غاندي الاحتلال البريطاني لبلاده وهو لا يملك عدّة وامكانات الجيش البريطاني، فاختار السلم مقابل العنف،  ما اضطرهم في النهاية الى الانسحاب من الهند ..

في احدى ولايات أمريكا كانت كاميرات المراقبة تسجل خروقات كثيرة للسيارات المارّة في احدى الطرق الخارجية السريعة بحيث لا تتمكن كاميرات المراقبة من رصد رقم السيارة لشدّة سرعتها، فكانت حوادث كثيرة تقع جرّاء ذلك، فدعت الجهات المسؤولة الى ايجاد حل لهذه المشكلة، وكانت الفكرة ان يصار الى لافتة الكترونية  ضوئية كبيرة على جانب الطريق تخبر سائق السيارة انه لو مرّ بقرب الكاميرا  وظهرت علامة الدولار الخضراء على اللوحة الالكترونية، فهذا يعني دخول رقم  سيارته الى القرعة الأسبوعية للفوز بمئة دولار، وفعلاً تم العمل بهذه الفكرة حتى سجلت كاميرات المراقبة انخفاضاً كبيراً في عدد الخروقات ..

لكي نحارب العنف علينا ان نركز اهتمامنا على السلام والامان اكثر من تركيزنا على ملاحقة المجرمين وتكريس كل الجهد والوقت لذلك، لأن اقتصار الجهد على محاربة العنف جعل مساحة الأمان تصغر في قلوب الناس ونفوسهم، وانكمشت فكرة العفو نوعاً ما، واخذ السلام موضع اللفظ في حياة الناس، وما حالات العنف الأسري المعلن عنها، وغير المعلن عنها وهي اكثر، ما هي الا مؤشرات تلزمنا الوقوف عندها لحدّها ومعالجتها ..

لماذا تعتني اجهزة الدولة بنشر ملصقات وارشادات واعلانات تدعو المواطنين  فيها الى التبليغ عن الحالات المشبوهة، اكثر من نشرها لملصقات وارشادات تحثّ على السلام والأمان، الأمر الذي أصّل في الناس مفاهيم التحدّي وجهوزية المواجهة ..  احدى القصص المنشورة على صفحات التواصل تروي خلافاً وقع بين اثنين، تأزم ليصل الى خلاف العائلتين، وتأزم اكثر ليصل الى خلاف العشيرتين، واستنزف الأمر كثيراً من الجهود والإمكانات لإحتوائه..

وامتد هذا النوع من التفكير الى الأوساط السياسية، كما رأينا في تأزم خلاف شخصي بين نائبين في البرلمان تبادلا السباب والتشهير والتصريحات المهينة والسيئة  ما دفع بعشيرة احدهما الى دعوة الأخرى الى الفصل العشائري  ..

لأن تفكيرنا انحصر في حدود مشاعر الغضب والانفعال إزاء ما لايرضينا، فإن أحدنا يلجأ مباشرة الى ضرب ابنه اذا ارتكب خطأً ما، ويعاقبه بحرمانه من المصروف اليومي، او الذهاب في نزهة، أو.. أو..

لقد شغل موضوع العنف الأسري كثيرين في العالم، مؤسسات وافراد .. واقيمت لهذا الأمر محاضرات ومؤتمرات ومحافل وورش عمل ووضعت قوانين، ففي الغرب تعرض شاشات العالم الافتراضي والقنوات الفضائية ومواقع التواصل وشبكة الانترنت عناوين وارقام هواتف تدعو المرأة الى الاتصال اذا عنفها زوجها، وتدعو الطفل الى الاتصال اذا تعرض الى الضرب او سوء المعاملة من قبل ابويه .. اذا كان هذا ما تستطيعه الانظمة الحاكمة، فإن البناء الأسري وحماية الجو الأسري من التلوث هو ما ينبغي ان يترتب على ابناء المجتمع والمؤسسات الثقافية ..

في تقريرها الذي رفعته احدى المسؤولات عن الأقسام الداخلية للبنات في احدى الجامعات الى رئاسة الجامعة، قالت انها سجلت ملاحظتها على بعض البنات  يتصرفن خلاف الطريقة التي يأتين بها من بيوتهن، فهي تأتي من بيت اهلها الى القسم الداخلي محجبة، بينما لا تضع الحجاب حين تذهب الى الكلية ..

وذكر احد الأساتذة موقفاً غريباً لطالبة طردها من المحاضرة بسبب ملابسها الفاضحة، حين ردّت عليه بأنها خرجت بهذا الشكل أمام انظار ابيها ..

ان اقتصار التركيز على فشل الحكومة  في ادارة البلاد، قد لا يسهم في تقديم العون الى الناس بقدر ما يسهم في تلبس الناس بالفشل في حياتهم .. الأولى بالناس ان يركزوا على الأمور الإيجابية  في حياتهم كي لا يفقدوا حلاوة الدنيا في قول الرسول الذي اشرنا اليه اول الحديث، ولكي ينفتح المجال أمامهم لوعي المرحلة القادمة من اعمارهم، وتجنب عثرات المرحلة التي يعيشونها..

يأتي تقاعس البعض وركونهم الى الجانب البارد، من تفكيرهم  بأن التغيير يحتاج الى قوة كبيرة من الخارج تنقذ المجتمع مما هو فيه ومما ابتلي به، لكن اذا تغير التفكير الى قوة الداخل الموجودة في الإنسان الواعي، فإنه سيشعر انه يستطيع ان يحتوي العالم في داخله، كما اخبر الإمام في قوله (وتزعم انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر) ..

بالوعي ندرك ان الخير الذي نقدّمه للآخرين ليس كرماً منّا، وليس بذخاً، كما انه ليس امتناناً بقدر ما هو انعكاس طبيعي للنفس الواعية،  فالخير نتاج وعي ومعرفة في طريق الحق، والشر نتاج فهم محدود موجّه .. (ومن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، مثقال ذرة في كلا الحالين،  يمكن ان يكون خيراً، ويمكن ان يكون شراً، يحدد ذلك الفكرة الجيدة، او النية السليمة، أو الوعي .. 

ان تحديد الانسان في اطار الكائن البشري الحي فقط، يحدده، واذا تحدد نقصت طاقته الايجابية، واذا نقصت طاقته الايجابية، قلّ وعيه، واذا قلّ وعيه، فُسح المجال للطاقة السلبية لتشغل حيزاً في نفسه، واذا سيطرت الطاقة السلبية على النفس، انخفضت فاعلية الرحمة والخير، واذا وقع ذلك تلوثت اجواء التفكير بالسوء، واذا اصيب التفكير بالسوء، اضطربت الشخصية، واضطرب توازنها، واذا اضطرب توازن الشخصية، صعُب على الانسان ان يتعرف عليها، واذا صعُب على الانسان التعرف الى شخصيته، تعثر في اكتشاف ذاته، واذا لم يفلح في اكتشاف ذاته تساوت عنده الأيام، و(من تساوى يوماه فهو مغبون) ..

ان في قوله سبحانه وتعالى (وكرمنا بني آدم).. (وخلقنا الانسان في احسن تقويم) , تصريح الهي للانسان ليصنع وعيه، ويصنع عالمه،  ويتعرف الى ىشخصيته، ويكتشف ذاته ..  

 

البلداوي

 

في المثقف اليوم