قضايا

انحطاط الهوية الوطنية.. خلل الهوية العراقية

ميثم الجنابيالعراق نقد الواقع وتأسيس البدائل (9)

إن إحدى المفارقات الكبرى للتاريخ العراقي الحديث تقوم في تحول الهوية الوطنية إلى إشكالية مثيرة للجدل النظري والعملي. مع ما يرافق ذلك بالضرورة من شكوك بأكثر وأشد الأمور يقينا. وتجد هذه المفارقة تعبيرها في تحول المرجعية الروحية، المتجسدة تاريخيا وثقافيا في الأفكار والقيم والمشاعر المتعلقة بقضايا الانتماء الوطني والهوية والتاريخ، إلى مصادر تفرقة واختلاف. أما الواقع الفعلي لهذه المفارقة في الظروف الراهنة فيقوم في أن الدولة الأكثر عراقة في التاريخ المدني والحضاري تقف أمام إشكاليات تشير إلى ضعفها الشامل وخللها البنيوي التام. بحيث تضع المرء أمام إمكانية الاعتقاد بوقوفه أمام كيان يظهر للمرة الأولى على حلبة التاريخ. وهي أوصاف تشير إلى واقع، أكثر مما تعبّر عن حقيقة. بمعنى أن العراق المعاصر يعاني من خلل بنيوي وأزمة شاملة وخوار هائل في المكونات الجوهرية لوجوده السياسي والاجتماعي. إذ تجعل هذه الحالة من التاريخ السالف أمرا اقرب إلى الذكريات. ومن ثم تعطي للمرء إمكانية الحكم على انه "كيان هش"، و"تركيبة مصطنعة" وما شابه ذلك. وهو اتهام أكثر مما هو تصوير أو نقد للواقع. لكنه اتهام يرتقي من حيث محصلته الواقعية الظاهرية إلى مستوى اليقين! ولكنه يقين أيديولوجي، بمعنى أن خشونته في قدرته على جعل الوهم شيئا مرئيا، شأن السراب في صحراء القيظ. فما يبدو للباصر فيها هو عين فقدانه للبصيرة. إذ لا سراب في الطبيعة غير سراب الرؤية الباحثة عن أمل ينقذها من وهج الشمس وإرواء الظمأ. وهي عبارة أدبية تعكس مستوى الانحدار الأدبي في الفكر السياسي المتناثر بين أشلاء القوى الطائفية والعرقية والمسحوقة، التي تعتقد بأن خلاصها الفعلي يقوم في الخلاص من العراق!

ونتجت هذه الأشلاء عن التجزئة الفعلية للعراق نتيجة السياسة اللاعقلانية التي ميزت كل النصف الثاني من القرن العشرين حتى سقوط الصدامية المخزي، وانهيار العراق تحت الاحتلال. وتعكس هذه النتيجة طبيعة الترابط العضوي بين الخروج على منطق الدولة العصرية (الشرعية الديمقراطية والمؤسسات) وبين الانهيار، الذي يمثل الاحتلال الخارجي صيغته الأكثر فجاجة.

فقد كانت الصدامية احد النماذج المريعة للاحتلال الداخلي. ومنه وفيه تراكمت كمية الأشلاء المتناثرة في الدولة والمجتمع والفكر والأخلاق، بحيث جعل من الممكن ظهور العبارة القائلة، بأن العراق هو «فسيفساء» لمختلف الأقوام والأعراق والأديان والطوائف والمذاهب. بمعنى الإقرار بالتنوع والتعدد ولكن من خلال رفعه إلى مصاف التجزئة. وهو رفع له أرضيته الواقعية. ومن ثم نصيب من الصحة تماما بالقدر الذي يمكننا القول، بأن العراق ليس تجمع أعراق. وذلك لأنها عبارة تشير إلى واقع التجزئة السياسية الحالية، لا إلى حقيقة كينونته التاريخية والثقافية. ونعثر في هذه الحالة على صدى التاريخ السياسي المعاصر، الذي هز كيانه الثقافي وهويته الوطنية، أكثر مما نعثر على حقائق تاريخه الكلي. الأمر الذي يجعل من التساؤل والاعتراض والشكوك المتعلقة بأغلب جوانب وجوده التاريخي والدولتي ومقوماته الجوهرية، قضايا سياسية ملتهبة لها أبعاد عملية هائلة وحساسة بالنسبة لفكرة البدائل المفترضة. وهي أيضا حالة صحية ما لم تتحول إلى أسلوب للتعامل مع مشاريع البدائل المتعلقة بآفاقه المستقبلية.

فقد كان الاهتزاز الهائل للهوية الوطنية للعراق نتاجا "طبيعيا" للتوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي أدت سياستها للتوحيد الشامل في كل شيء إلى تجزئة شاملة في كل شيء. ويمكن ملاحظة هذه النتيجة بوضوح على حالة القضية القومية والهوية الوطنية. فالتجزئة والانفصال والانفصام والتعصب الضيق والخصام والاختلاف والاحتراب والتنافر وعدم الثقة المتبادلة وغيرها من المظاهر السلبية هي النتاج الطبيعي للذهنية التوتاليتارية والسياسة الدكتاتورية، التي حاولت أن تجعل من نفسها بؤرة الوحدة الصلبة للعراق، بينما لم تؤد في الواقع إلا إلى تدمير حقيقة الوحدة بوصفها كينونة مرنة للقوى الحية والفاعلة في تشكيلها وإعادة هيكلتها وتطويرها الدائم.

وجرى استعادة هذه الحالة بطريقة وأسلوب آخر بعد انهيار السلطة الصدامية عندما أصبح الحديث باسم العراق ليس تماهيا مع الوطنية العامة والجامعة، بقدر ما أصبح مصادرة لها. بمعنى افتقاد دعوى تمثيلها إلى أسس ذاتية عراقية عامة. ومن ثم افتقاد هذه الدعاوي لأي قدر عقلاني بتمثل الفكرة الوطنية العامة استنادا إلى فلسفة واقعية ذات أهداف وقواعد عملية واضحة المعالم ومتجردة عن ارث التوتاليتارية الخرب. كما يمكننا رؤية ملامح هذه الحالة "العملية" في كمية المعارك الطاحنة، التي مازالت تظهر بين الحين والآخر في حروب المدن والأرياف والاغتيالات والتفجير والإرهاب العشوائي والاتهام المتبادل الذي لا تقيده حدود ولا قواعد، أي في كل المظاهر المؤشرة على ضعف أو انعدام وعي الذات بمعايير الوطنية العراقية العامة.

إن كل هذه المظاهر العنيفة لانحطاط الفكرة الوطنية العراقية تفعل بمقدار ما فيها من «مكر إلهي» في توحيد العراق على المدى البعيد، إلا انه توحيد يجري بالضد منها وليس بفعل تأثيرها الواعي. فمعارك النجف وكربلاء والبصرة والعمارة والفلوجة وسامراء والقائم وتلعفر والموصل وتكريت وكركوك وما سيتبعها لاحقا هي مجرد سلسلة في كسر الوعي السياسي الوطني رغم شعاراتها المعلنة. فهي تشترك في التجزئة والابتعاد و«حق التمثيل» لوطنية مأزومة.

 فقد كشفت هذه المعارك عن كمية ونوعية القوى الراديكالية وتنافر بواعثها الداخلية. وكشفت بدورها عن أن الصراخ باسم الوطن لا يصنع وطنية. وذلك لأن فكرة الوطنية العراقية وثيقة الارتباط من حيث إمكانية تنشيطها العملي في الظروف الحالية والمستقبلية بفلسفة ايجابية واضحة المعالم في ما يتعلق بالخروج من مأزق التوتاليتارية. وهو خروج يستحيل تحقيقه دون الخروج من نفسية المعارك الكبرى والصغرى عبر تحويل الطاقة الاجتماعية صوب ترسيخ وتنشيط المرجعيات الثقافية السياسية الكبرى للدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني، بوصفها أسس الوطنية الجديدة.

فعندما ننظر إلى تاريخ العراق بعد سنوات من سقوط الصدامية، ونتأمل كمية ونوعية المعارك الهائلة والدامية التي سقت دماءها كل جزيئة من أراضيه، فإن حصيلتها العامة تشير إلى أنها مجرد الجولة الأولى في معاركه اللاحقة. وهي حالة تشير إلى كمية ونوعية الخراب العميق فيه. فقد تركت الصدامية إرثا لا عقلانيا نادرا ما نعثر عليه في تاريخ الدول والأمم. وهو إرث شوه بصورة لا مثيل له كيان العراق وكينونته الوطنية، وذلك بسبب "ارتقاء" الخراب فيه إلى مصاف المنظومة. بعبارة أخرى، إن تخريب الهوية الوطنية العرقية قد أصبح جزء عضويا وفاعلا في منظومة الخراب والانحطاط الشامل. الأمر الذي جعل وسوف يجعل من مختلف معاركه الدموية والسلمية، وصراعاته الظاهرة والمستترة في مختلف الميادين مجرد مظاهرا لكيفية الخروج من مأزقه التاريخي الحالي. ذلك يعني أن "معارك المدن" والأرياف والأحزاب والمنطقة الخضراء والاهوار والجبال والصحارى ليست إلا المظاهر العامة لمعركته التاريخية الكبرى، إي لمنازلته الوطنية الحقيقة من اجل إعادة امتلاك النفس والعمل بمعاييرها.

إن بقاء واستمرار هذه المعارك ليس نتاجا للوعي الوطني العميق بقيمة التحرر من الاحتلال، أي انه ليس نتاجا للوعي الوطني العقلاني الذي يجمع بين هوية الدولة الشرعية والهوية القومية، بقدر ما هو النتاج الأهوج لشراسة الهمجية السياسية التي صنعها زمن الانحطاط والاستبداد. من هنا استحالة انتهاءها السريع، كما أن طبيعتها ومسارها يبقيان في نهاية المطاف رهينة التطور اللاحق للحركة السياسية والفكرية من جهة، ولكيفية استكمال بناء الدولة والنظام السياسي والمجتمع المدني، من جهة أخرى. وهي المفارقة الأشد إحراجا للعقلانية والواقعية في الفكر والممارسة السياسية العراقية في ما يتعلق بالفكرة الوطنية.

فالفكرة الوطنية من حيث كونها اتفاق وعقد عقلاني يستمد مقوماته وغاياته من إدراك أهمية الماضي والمستقبل، تفترض ألا تكون "رهينة" القوى السياسية المتصارعة و"الغيب" الكامن في نواياها. على العكس أنها تفترض الارتقاء في فكر النخبة المبدعة والقوى السياسية إلى مصاف الحس الوطني، وقواعد العقل السياسي الرزين، وتأملات الحدس الأخلاقي المتسامي، أي المستوى الذي يحررها من أن تكون رهينة لأي شيء. وهو ارتقاء ممكن فقط في حال إدراك وحدة التاريخ الكلي وأهميته العملية بالنسبة لأولويات المصالح "المصيرية" المعاصرة بالنسبة للدولة والمجتمع والقومية.

 فالفكرة الوطنية العامة هي الصيغة الأكثر تجريدا لمنظومة الدولة والمجتمع والقومية، أي لمنظومة الحرية والنظام. ومن ثم لا يمكنها الفعل إلا حالما تصبح مرجعية متغلغلة في إحساس وعقل ووجدان النخبة والقوى السياسية. حينذاك فقط يمكنها أن تصنع حالا قادرا على تحريرها، من حيث كونها فكرة، من الارتهان إلى نزوات النخبة ومتاجرة الأحزاب وابتذال الحثالة الاجتماعية. وعندها فقط يمكن أن تصبح "مرشدا" للعمل و"نذيرا" حقيقيا في تنفيذ مشاريعها الكبرى. إلا أن تجربة السنوات العديدة ما بعد الصدامية ولحد اليوم تشير إلى أن القوى السياسية التقليدية لم ترتق بعد إلى مصاف الإدراك الواقعي لقيمة الفكرة الوطنية العراقية، لأن أي منها لم يقترب بعد من حال تمثيلها الفعلي.

فقد كشفت المعارك الدموية المستمرة في العراق عن طبيعة الأزمة السياسية والاجتماعية والفكرية والأخلاقية للقوى السياسية بشكل عام، ومستوى الخلل البنيوي الهائل في الدولة بشكل خاص. وهو ليس خلل ضعف فقط بل وخلل الهوية الوطنية العراقية عند الأطراف جميعا! بمعنى عدم إدراك حقيقتها بمعايير العقلانية السياسية والواقعية الوطنية. من هنا استحالة تجسيدها في برنامج سياسي واضح المعالم وقادر على صنع إجماع وطني في مرحلة غاية في الخطورة بالنسبة للوطن والدولة.

وعلى العكس من ذلك نقف أمام حالة تشير إلى فقدان أغلب القوى السياسية الفاعلة مسئولية التمسك بمرجعيات عملية قادرة على تجسيد الأفكار القائلة، بأن حقيقة الهوية الوطنية العراقية ينبغي أن تكون أيضا نمط حياة عام يضمن بقاء وديمومة الهوية التاريخية الثقافية للعراق. لاسيما وأن الخروج عليها يعادل الرجوع إلى العرقية والطائفية ومختلف أشكال البنية التقليدية التي تتعارض تعارضا كليا مع مفهوم وحقيقة الدولة العصرية والحداثة. مع ما يترتب عليه من خروج على منطق الهوية الثقافية للعراق والعراقية وعلى مكونات وجودهما الجوهرية. وبالتالي فهو خروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق.

في حين كشفت وتكشف أحداث الصراع الدامي والمستمر في العراق عن ضحالة القوى السياسية القائمة وراءها. وهي ضحالة مرتبطة بدورها بطبيعة وحجم التقاليد الراديكالية المحكومة بوجدان عارم لا يحكمه عقل واقعي ولا رؤية تاريخية. وليس مصادفة أن تحاصر هذه الراديكالية مضمون الهوية الوطنية العراقية في أماكنها «المقدسة»، بحيث جعلت منها المكان النموذجي الوحيد و«العظيم» للمقاومة الوطنية والمواجهة المسلحة ضد الاحتلال والتحدي الشامل للدولة العراقية الجديدة. رغم أن حقيقة الهوية الوطنية وأساليب مواجهتها للاحتلال، والتحدي الممكن للخروق المحتملة من جانب الدولة الجديدة لا يمكن حصره بمكان معين، بقدر ما هي مبادئ وقواعد للعمل السياسي والحقوقي والأخلاقي تسعى لتثبيت مرجعيات تتسامى عن مصالح القوى المتصارعة. إضافة لذلك أنها المبادئ والقواعد التي تكفل إمكانية عمل الجميع بمعايير الشرعية والسياسة العلنية والاجتماعية المقيدة بالدستور وقواعد القانون.

بعبارة أخرى، إن إشكالية الهوية الوطنية لا تنحصر، ومن ثم لا ينبغي محاصرتها في «مكان»، لان الأمكنة قابلة «للاحتلال» والقوى الفاعلة فيها قابلة للانكسار، بينما حقيقة الهوية الوطنية لا تتحطم في مكان. وتستند هذه الفكرة إلى حقيقة تقول بأنه ليس هناك من مكان مقدس بحد ذاته. وبالتالي فإن حقيقة الهوية الوطنية هي الكيان الذي ينبغي أن يتسامى عن كل ما يمكن محاصرته في شرط أو ظرف أو مكان أو قوة عابرة. والقضية هنا ليست فقط في كون الهوية (الوطنية) ليست أسيرة مكان ما معين في العراق، كما أنها اكبر وأوسع وأعمق وأعرق من أي مكان فيه، بل ولأنها الفكرة التي ينبغي تحقيقها في النفس والجسد العراقيين على كافة المستويات (الحقوقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقومية والثقافية).

وتحقيق الهوية الوطنية العراقية في هذه المستويات ليس ادعاء أيديولوجي، بقدر ما هو تجسيد لها في مبادئ عملية واضحة المعالم وملزمة للجميع مثل القول، بأن العراق ليس تجمع أعراق، وانه هوية ثقافية سياسية معقولة ومقبولة عبر وحدة مكوناته الرافدينية – العربية - الإسلامية بوصفها جوهرا ثقافيا. بمعنى الانقياد لجملة مبادئ تشكل من حيث قدرتها الفعلية أساسا واقعيا وعقلانيا لضمان بقاء الجميع ضمن الهوية التاريخية الثقافية للعراق والاحتفاظ بالأصول القومية الذاتية له. وبهذا يمكن تحويل مضمون المبادئ العملية إلى ما يمكنه أن يشكل الحد الأدنى الضروري والعام للوحدة الوطنية. وبدونها يستحيل إرساء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وذلك لأن هذا الثالوث الضروري للدولة العصرية يفترض على الدوام سريان جملة من المرجعيات الكبرى فيه. ولعل مرجعية الهوية الوطنية هي من بين أهمها، خصوصا في مراحل الانتقال العاصفة وضياع البوصلة الواقعية لتوجيه مسار الحركة الاجتماعية والسياسية. بينما كانت وما تزال معارك المدن العراقية غير قادرة على صنع هوية عراقية موحدة. على العكس أنها تتوزعه وتتقاسمه ومن ثم تسهم في تفتيت وحدته وبالتالي هويته الخاصة.

ففي معارك المدن يبرز من حيث الجوهر الضعف البنيوي المميز للوعي السياسي العراقي المتعلق بإدراك خصوصية ومعنى الهوية الوطنية. طبعا إن ذلك لا يخلو من الأثر الهائل للتخريب والتدمير الذي خلّفته التوتاليتارية في العراق، إلا أن ذلك لا يبرر الانسياق وراء ردود الفعل المباشر عليها. والقضية هنا ليست فقط في الخطورة الكامنة وراء فكرة حصر ومحاصرة فكرة الوطنية في مكان معين أو مصادرتها من قبل تيار ما أي كان مصدره وتاريخه ومستوى تمثيله لشرائح اجتماعية أو قومية أو طائفية أو مذهبية عراقية، بل وفي تناقضها الشامل مع حقيقة الفكرة الوطنية.

فالهوية العراقية ليست ملكا لأحد، ولا يمكن لأية قوة سياسية مهما كان تاريخها النضالي ضد الدكتاتورية والتوتاليتارية حق احتكار أو مصادرة تمثيلها. والقضية ليست فقط في أن الجميع لا يمكنهم ادعاء حق القول لأنفسهم فقط بهذه الفضيلة، بل ولأن مجرد الهواجس الخفية وراء هذا الادعاء سوف يضع الحركة السياسية نفسها في تناقض جوهري مع حقيقة الهوية الوطنية العراقية الحالية. وذلك لأن الهوية الوطنية العراقية الحالية هي مجرد مشروع لم يرتق لحد الآن إلى مستوى البرنامج الاستراتيجي عند القوى السياسية والاجتماعية العراقية المعاصرة. بمعنى عدم بلوغ هذه القوى الحد الضروري لما يمكن دعوته بالحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق بشكل عام وتاريخه الحديث بشكل خاص. فهي قوى مازالت بعيدة عن الانخراط الفعال في تأسيس حقيقة الهوية العراقية بالشكل الذي يجعلها مرجعية تاريخية ثقافية مندمجة في نسيج الوعي السياسي والاجتماعي للإفراد والجماعات والحركات والأحزاب.

 ويمكن تلمس هذه الحالة في أحداث المعارك الدامية المستمرة في مختلف مدن العراق. إذ تعكس في جوهرها ضعف الهوية الوطنية العراقية عند القوى جميعا. كما أنها تكشف عن إدراك مشوه للهوية الوطنية واستخفاف تام بمقومات الوطنية ومتطلبات العقلانية السياسية. بمعنى انحدار الراديكاليات المتنوعة والمختلفة من جهة، والسلطة من جهة أخرى في خندق الحرب مع النفس وليس مواجهتها بمعايير إدراك الضرورة التاريخية للوحدة الوطنية. ولا يعني ذلك في ظروف العراق الحالية سوى العمل بدون وعي على إحياء تراث الفرقة والافتراق. وفي أفضل الأحوال لا تعمل إلا على ترسيخ تقاليد القمع السافر والمبطن. بمعنى العمل على إحياء كل القوى التي ساهمت تاريخيا في تخريب العراق وتدمير هويته الخاصة.

إن هذا الانحطاط المادي والمعنوي للفكرة الوطنية في ميدان المواجهة المباشرة والصراع العسكري ليس إلا المظهر الأكثر إثارة للأعماق المتفرقة والمتصارعة لمكونات العراق الحالية. وجرى تفتيت هذه المكونات بطريقة عنيفة في مجرى العقود الخمسة لسيادة النزعة الراديكالية. واتخذت صيغة الصعود المتجزئ والمتحزب والمتحارب لها بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية. إذ نقف الآن أمام ظهور مختلف نماذج ومستويات البحث عن موقع في العراق عوضا عن البحث عن قواسم مشتركة للفكرة الوطنية. وهذه بدورها ليست إلا الصيغة الأنانية لدعوى تمثيل العراق والوطنية العراقية من جانب القوى الراديكالية والمتطرفة. إلا أنها خلافا للأخيرة تتمتع بقدر معقول من «الشرعية» بوصفها ظاهرة جديدة للتمثل الجزئي. وبهذا المعنى فقط يمكن النظر إليها بوصفها ظاهرة صحية.

فقد تعرضت الفكرة القومية والهوية الوطنية في العراق إلى صدع شديد في غضون العقود الأربعة الأخيرة. مما أدى إلى تراكم متنوع المستويات من ردود الفعل، اتخذت بعد سقوط السلطة الصدامية، مظاهر وصيغا ومستويات فكرية وسياسية وعملية متنوعة ومختلفة ومتناقضة ومتضادة. وسوف تتعمق هذه الظاهرة نسبيا وتتطرف في الكثير من جوانبها، وقد تؤدي إلى مواجهات وصراعات حادة ومتنوعة الأشكال والمظاهر، يتوقف مسارها ونتائجها على حدود الرؤية القومية المفترضة في العراق، وحدود الفكرة الوطنية العراقية وهويته العامة.

إننا نرى ظهورا متزايدا ومتنوعا لمختلف الحركات السياسية والاجتماعية القومية غير العربية في العراق مثل الكردية والتركمانية والكلداآشورية، إضافة إلى أجزائها المكونة والمتناثرة من شذرات التاريخ العراقي العرقي والقومي والطائفي والديني مثل الفيلية واليزيدية والصابئة والشبك والأرمن واليهود. ويرافق ذلك تبلور متنام في مواقفها الفكرية وبرامجها السياسية تجاه مختلف القضايا بما في ذلك القضية القومية والهوية الوطنية للعراق. وهي ظاهرة تشير إلى تراكم أولي جدي وفعلي في مسار التطور التلقائي للمجتمع المدني والفكرة السياسية الاجتماعية التي جرى الضغط عليهما عقودا طويلة من الزمن.

وسوف يؤدي هذا التراكم الجديد في مجرى التطور التلقائي للفكرة السياسية والاجتماعية بالضرورة إلى الخصام والاختلاف والمواجهات الحادة أحيانا بسبب غياب تقاليد الديمقراطية السياسية ومؤسسات الدولة الشرعية، وكذلك بسبب حجم الخراب الهائل في البنية الذهنية الثقافية والسياسية والقومية لمكونات العراق جميعا. إلا أنها اختلافات ومواجهات سوف تعمل في حال توجيهها العقلاني والواقعي، إلى ترسيخ منظومة القيم الديمقراطية والمدنية في الموقف من الفكرة القومية. وذلك لأن تنافس القوى جميعا في البحث عن موقع «تحت الشمس» سوف يجبرهم على إدراك الحقيقة البسطة القائلة، بأن العراق يكفي الجميع وهو قادر على احتواء ما هو أكثر في ظل رؤية عقلانية، وتوجه واقعي صوب الحرية والنظام في مواجهة المشاكل الفعلية والإشكاليات الكبرى لمعاصرة المستقبل فيه. إضافة إلى مكونه الرافيديني والعربي والإسلامي بوصفه العمود الفقري للهوية العراقية. وسوف يحدد هذا الإدراك في الأغلب مستوى تكامل المجريات العامة لبناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. وتتوقف الكثير من جوانب هذا التكامل على كيفية حل المسألة القومية. كما أن حل المسألة القومية يتوقف في نهاية المطاف على تحديد ماهية الوطنية العراقية.

وقبل أن يصل الجميع إلى إدراك الحقيقة القائلة بأن حل المسألة القومية يتوقف في نهاية المطاف على تحديد ماهية الوطنية العراقية، فإن الفكرة القومية في العراق وهويته الوطنية سوف تثير الكثير من المواقف المتباينة والمختلفة والجدل الحامي. وهي ظاهرة أخذت تبرز ملامحها الأولى في ظل تبلور متنام ومتصارع يترامى ما بين الرؤية الأسطورية والواقعية العقلانية. وفي هذه الظاهرة يمكن أيضا رؤية حالة الخروج من سجن الدكتاتورية والوحدة المفتعلة إلى فضاء الديمقراطية والتعددية الطبيعية لوجود الأشياء. ولكن قبل أن يبلغ الجميع إدراك قيمة التنوع في الوحدة، أي القومية الجزئية في الوطنية العراقية، فإن ذلك يستلزم المرور بدروب الآلام الكبرى لوعي الذات القومي والسياسي. وهي دروب ليست مأمونة بالضرورة لكنها تبقى في نهاية المطاف جزء من معركة لم تحسم بعد عن ماهية الهوية الوطنية العراقية.

فعندما نتناول الوعي الذاتي القومي بالتشريح، فإننا نقف أمام علامات تدل بمجموعها على ضعفه العام وخلل الكثير من مقوماته، وبالأخص ما يتعلق منه بمستوى ارتقائه من حضيض الرؤية العرقية والقومية الضيقة والطائفية إلى مصاف الرؤية الثقافية. وهو خلل وضعف بنيوي يجد انعكاسه الآن في المواقف النظرية والعملية تجاه الإشكاليات الكبرى التي يواجهها العراق. مما يضعف بالتالي بلورة الفكرة العملية عن الهوية العراقية. ومن الممكن تطبيق ذلك على قضية «الدستور» لما لها من خصوصية واثر بالنسبة لآفاق الهوية الوطنية العراقية. (يتبع....).

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم