قضايا

صعود الفكرة العرقية الكردية في العراق

ميثم الجنابيالعراق- نقد الواقع وتأسيس البدائل (14)

لقد حاولت البرهنة في الفصل السابق، على أن خراب الفكرة الوطنية (العامة) في العراق، أي خراب الهوية الوطنية العراقية، يستتبع بالضرورة خرابا في مختلف مكوناتها الأخرى. وبما أن العراق بلد عربي متعدد القوميات، من هنا كانت وما تزال وسوف تبقى حالة الأقليات القومية فيه متأثرة بحالة القومية العربية. وذلك بسبب طبيعة الارتباط العضوي بين العرب والعراق، والهوية العراقية والهوية العربية. ويستمد هذا الارتباط مقوماته من طبيعة الهوية العراقية بوصفها كينونة تاريخية تشكل المصادر الرافيدينية العربية الإسلامية جوهرها الثقافي. فانحدار أو انحطاط الفكرة القومية العربية، كما هو جلي في ظروفه الحالية، يستتبع بالضرورة انحدارا وانحطاطا في مكوناته الأخرى. ولا يعني ذلك أن الأقليات القومية أفلاكا دائرة في الكينونة العربية، بقدر ما يعني تلقائية التأثير الضروري الذي يفرضه منطق الكل على أجزائه. ولا يمكن للهوية الوطنية العراقية أن تتكامل من دون تكامل القومية العربية فيه. بينما هي مجزأة الآن بأوهام الرؤية الطائفية والجهوية. وهي أوهام صلبة وصلدة بسبب تغلغلها العميق في البنية السياسية والاجتماعية والنفسية لعرب العراق، باعتبارها النتيجة الملازمة للتجزئة التي أدت إليها الدكتاتورية الصدامية. وهو واقع يجد انعكاسه في صعود الفكرة العرقية عند مختلف الأقليات القومية وعند القومية الكردية بشكل خاص.

إن «صعود» الفكرة القومية الكردية في ظروف العراق قبيل وبعد سقوط الدكتاتورية الصدامية لم يكن في الواقع سوى صعودا للفكرة العرقية، أي سقوطا غير مباشرا. وتلازم هذه النتيجة بدورها الانحراف الذي ميز تاريخ الدولة العراقية الحديثة. لكنه يعكس في الوقت نفسه واقع الانحطاط الفعلي في مواقف الحركات القومية الكردية من الوطنية العراقية. بعبارة أخرى، إن صعود الفكرة العرقية هو الوجه الآخر لسقوط الفكرة القومية الكردية. ويجد هذا الانحدار تعبيره وانعكاسه في ضعف أو انحطاط الفكرة الوطنية (العراقية) فيها. وتشير هذه الحالة إلى طبيعة ومستوى الخلل الفعلي في الفكرة الوطنية العراقية بشكل عام والفكرة القومية للأقليات غير العربية فيه بشكل خاص.

إن «ارتقاء» الفكرة القومية الكردية صوب المكونات والنماذج العرقية هو أيضا النتاج الملازم للجهل بطبيعة الفكرة الثقافية في الفكرة الوطنية العراقية. من هنا ليس بإمكان الفكرة العرقية القومية أن تؤدي بعد مائة سنة من «النضال المرير» إلا إلى مرارة شبيهة بتلك التي تذوقها عرب العراق من صدامية «ثورية» «علمانية» «قومية» «تحررية» «وحدوية». وهي نتيجة يصعب الآن تصورها من جانب أولئك الذين يمرون بمرحلة الطفولة أو المراهقة القومية. إلا أن التاريخ يجبر بما في ذلك اشد الناس جرأة وحرية على الخضوع للفكرة القائلة، بان من الممكن تجاهل التاريخ ونتائجه والشك بإمكانية التعلم من عبره، لكنه سوف يعاقبهم على فعلتهم هذه بالضرورة!! ولا تعني استعادة تجارب الفشل أو إعادة تجربتها من جديد سوى عدم الاستفادة من تجارب الماضي وهو عين الغباء، أو الاستفادة منها لمصالح جزئية وعابرة وهو عين الحماقة. أما البقاء ضمن دوامة الغباء والحماقة، فإنه لا يصنع حكمة!! ويمكننا العثور على هذه الحالة عند اغلب القوى السياسية بأشكال ومستويات متباينة. مما يشير بدوره إلى عدم النضج السياسي والوطني. وعموما يمكننا القول، بان كثرة الغباء ليست مؤشرا على أصالة، لكنها تحتوي دون شك على بلادة متأصلة. وهي البلادة الناتئة في جهل مختلف القوى القومية لطبيعة الهوية العراقية وقيمتها الفعلية بالنسبة لرقي القوميات فيه جميعا، بما في ذلك بالنسبة للأكراد.

غير أن دراما القضية الكردية في العراق، هي اعرق من ذلك بسبب لا عراقيتها من جهة، وبسبب ضعفها الذاتي من جهة أخرى. وفيهما تراكمت تاريخيا مقدمات الانحراف صوب العرقية، وكذلك بفعل السياسية الهمجية التي اتبعتها السلطات المركزية على امتداد عقود طويلة تجاه الأقليات القومية، وبالأخص في زمن التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وإذا كان نصيب الأقلية الكردية أكثر شهرة فلأنها مازالت الأكبر من بين الأقليات القومية في العراق. فعندما نقوم باستقراء تاريخ العراق الحديث، فإننا نرى بأن «القضية الكردية» كانت إحدى قضاياه الملتهبة وقت السلم والحرب والصعود والهبوط. إلا أنها تستفحل بشكل أشد مع كل انعطاف حاد وانقلاب مفاجئ في تاريخ الدولة والمجتمع. وتشير هذه الظاهرة إلى أن القضية الكردية اقرب إلى «المرض» منها إلى قضية حيوية بالنسبة لتنشيط الدولة ومؤسساتها. غير أن ذلك لا يعني مسئولية الأكراد الذين جرى حشر بعض منهم بصورة اصطناعية (واقصد بذلك الجزء الشرقي من شهرزور التاريخية، أي منطقة السليمانية) في بلد لا علاقة لهم به بالمعنى التاريخي والثقافي والقومي. لكن هذا الحشر الذي شكل بمعنى ما التعبير الطبيعي عن ضعف الأكراد التاريخي والقومي قد أدى إلى نتائج إيجابية كبرى بالنسبة لهم في مجال الحياة القومية والمدنية. بمعنى الاشتراك النشط نسبيا في الحياة المدنية، ومن ثم الانتقال من ثقافة الجبل إلى ثقافة السهل، ومن البداوة إلى المدينة. ويمكن مشاهدة نتائجها العديدة في مختلف مجالات الحياة، بما في ذلك انتشارهم في المدن العراقية حتى أقصاها جنوبا، وارتقائهم التدريجي من مهن الفئات الرثة إلى مختلف المهن الرفيعة ومراكز الدولة. ويعكس هذا الانتقال والتحول أولا وقبل كل شيء الاندماج التدريجي والصعب لسكان الجبل بالحياة المدنية المعاصرة. وهو اندماج يعود الفضل التاريخي فيه للعراق كدولة وللعرب كقومية. وهو أمر جلي في حال إجراء مقارنة سريعة بين واقع الأكراد قبل «دخول» الدولة العراقية والآن، وبين حالهم في العراق من حيث مستوى الرقي الثقافي والمدني وتطور الوعي القومي مقارنة بمناطق سكنهم الأصلي في كل من تركيا وإيران.

ولا يفترض هذا الواقع مطالبة الأكراد بتعويض يقابله، انطلاقا من أن كل ما جرى في تاريخ العراق الحديث هو جزء من تاريخ الدولة. لاسيما وأن تاريخهم في العراق الحديث لم يكن سلسلة انتصارات، بل وهزائم أيضا، وليس مجرد كتلة هائلة من السعادة، بل ومن التعاسة أيضا، كما انه يحتوي على قدر كبير من العزة القومية والمهانة التي تماثلها. وتعكس هذه الحالة واقع وتاريخ العراق الحديث يوصفهم جزء من مكوناته. إلا أن هناك جملة من الوقائع المتكررة في هذا التاريخ توصلنا إلى ما يمكنه أن يكون حقيقة من حيث أبعادها السياسية، ألا وهي «انتفاض» و«مشاكسة» القوى القومية الكردية مع كل انعطاف أو ضعف في الدولة العراقية. كما تشير إلى أن الأكراد لم يندمجوا في بنية الدولة العراقية. ويرتق هذا التكرار إلى مصاف «القانون». ولعل الأحداث التي لازمت انهيار التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي فسحت المجال للمرة الأولى في تاريخ العراق المعاصر أمام إمكانية بناء أسس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي بوصفهما الضمانة الكبرى لحل كافة المشاكل على أسس اجتماعية سياسية، تبرهن من جديد على طبيعة الخلل الوطني (العراقي) في الحركة القومية الكردية. ويبرز هذا الخلل بوضوح في سياسة المغامرة والمؤامرة والابتزاز، التي بلغت ذروتها في سيادة نفسية الغنيمة والاستيلاء على الأرض، مع أن مضمون الحركة الاجتماعية الديمقراطية يفترض الارتقاء إلى مصاف تأسيس فكرة الشرعية والمواطنة. فهي الفكرة التي تضمن للجميع حقوقا متساوية، باعتبارها الغاية النهائية من كل نضال حقيقي وإنساني. والسبب وراء غنيمة الارض يعكس كونها بلا ارض قومية في العراق. اذ لا توجد في العراق أرض كردية، بل أكراد فقط. كما ان فقدان البؤرة الجغرافية السياسية الثابتة والمستقرة والمركزية للأكراد جعل من مهمة التمركز في أي مكان المهمة الاكثر حساسية بالنسبة لهم. الامر الذي شوه ويشوه لحد الان مضمون الفكرة القومية الكردية. دعك عن استحالتها بالمعنى الدقيق للكلمة. 

لكننا نقف أمام ظاهرة بقاء الحركة القومية الكردية في العراق ضمن شروط تكونها التاريخي الضيق، الذي يدفعها أكثر فأكثر صوب التجوهر العرقي. إذ يشير إلى قضيتين، الأولى وهي سيادة البقايا العرقية في الفكرة القومية الكردية، والثانية هي ضعف الاندماج السياسي والثقافي والاجتماعي بالعراق. وقد تكون الأساليب التي جرى تجريبها في انتخابات 2004 واستعمال نتائجها كما هو جلي في «قائمة المطالب» الكردية تعكس تفاعل هاتين القضيتين في «تكتيك» و«إستراتيجية» النخب القومية الكردية. فعوضا عن العمل بمعايير الدولة الشرعية الديمقراطية والمجتمع المدني، نرى «إنذار» المطالب «التي لا يمكن التنازل عنها» مثل تقاسم الثروة والحصول على مدن عراقية وأراضي وما شابه ذلك، بمعنى بروز المضمون الفعلي والدفين لنفسية الغنيمة. وهي مواقف اقرب ما تكون إلى نفسية الشحاذين منها إلى سلوك سياسي لنخبة وطنية. وبالأخص حالما يجري الحديث عن «مناصفة» بالثروة!! بين 13%  (او أقل من ذلك) مع البقية الباقية 87%. (أو أكثر). ولا يقبل بهذه المناصفة عقل سليم ولا فطرة سليمة ولا ما دعاه البارازاني في «مقالته» المنشورة بعد أشهر من ذلك في الواشنطن بوسط من «أن الأكراد براغماتيون ومعتدلون»!! إذ تتسم هذه الصيغة بقدر كبير من الفجاجة في التعبير عن «روح» الاعتدال والنفعية للأكراد جميعا، كما لو أننا نقف أمام شعب فوق التاريخ ومتوحد ومتكامل في كل شيء!! أما في الواقع فإنها تشير إلى نفسية «أهل الجبل»، بمعنى الطيران بعيدا عن سهول الدولة ومدنها، ومن إشكاليات وتعقيدات المسار التاريخي للحياة فيها. إضافة إلى ما فيها من ابتعاد عن ابسط مقومات الاعتدال والنفعية اللتين تفترضان ليس «المطالبة» و«الأخذ» بل والعطاء أيضا. أما العبارة التي قالها بهذا الصدد «نحن نعلم بان لدينا حقوقا، ولكننا نفهم أيضا بان لدينا مسؤوليات. نحن وطنيون، ولسنا قوميين انتحاريين»، وأن اتهامهم بالانفصال هو نتاج «النظرة الشوفينية التي ترى الشرق الأوسط منطقة متجانسة، و ترفض قبول التنوع الموروث»، فإنها لا تعني شيئا بمعايير الرؤية الوطنية العراقية الفعلية، وذلك لأنها جزء من ممارسة اللعبة «البراجماتيكية»، التي ستظهر لاحقا في ما يسمى بالاستفتاء على الاستقلال.

إن الرؤية الوطنية الحقيقية هي من طراز ارفع وأسمى مما في مقاييس الرؤية النفعية أيا كان مستواها. وذلك لأن المعايير النفعية تبقى في أفضل الأحوال جزء من معترك الصراع السياسي الجزئي وليس الوطني. ولا معنى لفكرة البارازاني مما اسماه «بإعادة ربط كردستان بالعراق» بوصفه دليلا على هذه الرؤية الوطنية. فقد كانت «كردستان» مكبلة بالعراق وليس مربوطة به، كما أنها كانت ثقلا اقتصاديا مريرا عليه. بمعنى إن «استقلالها» كان مربوطا بالحبل السري العراقي. وفيما لو تركنا الجدل العلمي الدقيق حول مضمون هذه العبارات وغيرها مثل ما اسماه البارازاني بضرورة أن يستوعب «الشرق الأوسط جميع سكانه ولغاته وأديانه»، بوصفها مغازلة خفية لإسرائيل، فإننا نقف أمام تضخيم يتصف بالسذاجة للدور الكردي في المنطقة. وتحدد هذه السذاجة اغلب مقوماتها بالضعف الفعلي للأبعاد الوطنية العراقية في الفكرة القومية الكردية المعاصرة وسلوكها العملي. كما نراها في قوله «لقد اخترنا طريق الالتزام بالتعهدات لأننا، مثل الولايات المتحدة، نريد أن ينجح العراق في تجنب عودة رعب الماضي. لذلك كنا منهمكين في السياسات الوطنية العراقية». أو أن يقول بان «رؤية بوش للديمقراطية» التي تعطي للجميع «الكرامة والحرية» هي الفكرة والطريقة التي «يشاطره فيها الأكراد». وان «الولايات المتحدة لم تتردد أبدا في مساعيها لمساعدة العراقيين على بناء ديمقراطية تؤدي إلى الاتفاق في الرأي والإجماع. لقد دفع الشعب الأمريكي السخي دوما ثمنا مأساويا، حياة أفضل رجالهم ونسائهم، من اجل رفع راية الحرية والديمقراطية، وهي التضحية التي نشعر بامتنان عميق لها». هكذا وبكل اختصار!! إننا نقف أمام تجاهل مطلق للشعب العراقي وتضحياته، بما في ذلك من سياسة اللعبة الأمريكية على امتداد عقود طويلة، والحرب العراقية الإيرانية، والعراقية الكويتية، وقمع الانتفاضة الشعبانية والحصار والغزو الأخير، التي جلبت للعراق وبنيته التحتية والروحية خرابا مأساويا. لقد تحولت الولايات المتحدة بين ليلة وضحاها من شيطان مارد إلى مصدر الحرية والكرامة والديمقراطية والنزاهة وتقديم أغلى أرواح أبناءها من اجل حرية العراقيين والديمقراطية والكرامة فقط! ولا شيء آخر!! وهي رؤية «معتدلة وبراجماتيكية» تتصف بقدر هائل من الرياء السياسي والعبودية المجانية. والقضية هنا ليست فقط في أن الإمبراطوريات لا تحب المنافسين ولا الأكفاء فحسب، بل ولا تمنح حبها للآخرين إلا بوصفهم تابعين أو عبيدا، أي تبدي الكرم الممزوج بالازدراء! والإمبراطوريات عموما لا تحب ولا تحترم غير نفسها ومصالحها. بما في ذلك أكثرها وأكبرها ديمقراطية. وان مجرد إلقاء نظرة على تاريخ الولايات المتحدة وسياستها الواقعية يوصلنا إلى إدراك هذه الحقيقة. أما الارتقاء إلى مصاف «الحليف»، فانه يفترض الارتقاء إلى مصاف القدرة العلمية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية القادرة على جعل الدولة تقول أحيانا كلمة «لا» أو «كلا» أو حتى «نعم». أما الحركة القومية الكردية فان ما يراد منها هو مجرد الإيماء بآيات الإجلال والتعظيم. وهو شيء يشم المرء رائحته «الزكية» من هذا السيل العارم لكلمات المديح والإطراء المتناثرة في «اعتدال وبراجماتيكية» الأكراد الذين يمثلهم خطاب البارازاني.(يتبع....).

***

ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم