قضايا

هنري بوانكارية والبساطة الأداتية

محمود محمد عليشهد القرن العشرين في فلسفة العلم ظهور مجموعة من الفلاسفة والعلماء  ُأطلق عليهم دعاة المذهب "الاصطلاحي"، فقد نظروا إلى القوانين والنظريات والأنساق العلمية بوصفها اصطلاحات للربط بين الظواهر والتنبؤ بها والسيطرة عليها، توصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست تعميمات استقرائية أو قضايا إخبارية ذات محتوى معرفي عن العالم التجريبي لتوصف بالصدق أو الكذب. فتقاس قيمة النظرية العلمية بقدرها على أداء وظائف العلم، وليس بقدرتها على التعبير عن الواقع بصدق.

بمعني أن القوانين العلمية والنظريات والأنساق العلمية ليس صورة عقلية طبق الأصل من الطبيعة، بل الأمر فى مجملة أشبه بصياد رمى بشبكة فى بقعة ما من البحر يريد صيداً، فهل ما تخرج به الشبكة يعبر عن حقيقة ما يوجد فى أعماق البحر، أم أن ذلك يتوقف على المكان الذى اختاره الصياد للصيد ونوع الشباك واتساع فتحاتها وغير ذلك، ولو تغير أحد هذه الأشياء لتغير لذلك الصيد كما   وكيفاً. وهكذا فمفاهيم وقوانين العلم عندهم كشبكة الصياد، أى اصطلاحات متعارف على معانيها بين العلماء، إنها مجرد وسائل مفيدة لفهم الطبيعة. فإذا صادفنا ما هو أفضل منها " وظيفياً "  بادرانا بالتخلص منها كأي شئ استهلاكي عادي. بيد أن هذا لا يعنى أن قوانين الطبيعة هى قرارات عشوائية يتفق عليها العلماء اليوم ليختلفوا غداً.

ونختار ممثلاً لهذه النزعة هنري بوانكاريه ن البساطة، حيث يؤكد في كتاباته أن مبدأ الاختيار بين النظريات هو اختيار أبسط الاصطلاحات الممكنة , ولقد ميز بين الوضع المفرط في التعقيد من جهة، وبين النظريات العلمية البسيطة التي تفرضها عقولنا عليه من الجهة الأخري، فليست الطبيعة هي البسيطة، بل نظرياتنا التي تفرضها عليها هي البسيطة ؛ يقول بوانكارية :"  لنلاحظ – بادي ذي بدء – أن كل تعميم يفترض إلي حد ما الاعتقاد بوحدة الطبيعة وبساطتها. فأما الوحدة فلا إشكال فيها، إذ لو تكن مختلف أجزاء الكون مثل أعضاء الجسد الواحد، لما كان لبعضها أن يفعل في البعض الآخر، وما كان لصلة ما أن تقوم بينها، وأما نحن بالأخص فلن نعرف منها إلا جزءا واحدا، ولذلك لم يكن علينا أن نتساءل عما إذا كانت الطبيعة واحدة بل عن الكيفية التي هي بها واحدة , أما فيما يتعلق بالمسألة الثانية فالأمر ليس علي ذلك اليسر لأنه من غير المتأكد أن الطبيعة بسيطة. فهل لنا – من دون الدوران تعرض للخطر – أن نتصرف وكأنما هي بسيطة ؟".

ثم يؤكد بوانكارية علي أن البساطة مرتبطة – أساساً – بالتغيير التصوري في العلم. وهذا ما يجعلها مبداً مرناً يتلازم مع إتساع المعرفة باستمرار وفي هذا يقول بوانكارية :" لقد ولي الزمن الذي كانت فيه بساطة قانون ماريوت Mariotte حجة تشهد لصحته وكان فيه فرزنيل Fresnel نفسه يظن أنه ملزم بتقديم بعض التفاسير لتحاشي صدام الرأي السائد، وذلك أن قال في حوار مع لابلاس إن الطبيعة لا تعبأ بمصاعب الحساب التحليلي. أما اليوم فقد تغيرت الرؤي. ومع ذلك فإن الذين لا يعتقدون بأن اللازم في القوانين الطبيعية أن تكون بسيطة يجدون أنفسهم مكرهين في كثير من الأحيان علي أن يتصرفون كأنما هم يسلمون بذلك، حيث لا يمكنهم التخلص كليا من تلك الضرورة من دون أن يصيروا كل تعميم وبالتالي كل علم مجالا. فمن الجلي أن واقعة ما يمكن تعميمها بطرق شتي، وأنه علينا أن نختار، وهو اختيار أبسط لا نستأنس فيه إلا باعتبارات تتصل بالبساطة.

وينتهي بوانكارية إلي القول بأن: " كل قانون يعتبر بسيطا حتي يأتي ما يخالف ذلك.تلك عادة فرضت نفسها علي الفيزيائيين للأسباب التي كنت أشرحها.ولكن كيف لنا أن نبرر حيال اكتشافات تبين لنا كل يوم تفاصيل أثري وأعقد ؟ بل كيف لنا حتي أن نوفق بينها وبين الإحساس بوحدة الطبيعة ؟ فإذا ما ترابطت جميع الأشياء، فلا سبيل إلي أن تكون العلاقات بسيطة، وقد لا يكون لعلاقات يتدخل فيها هذا الكم الهائل من الموضوعات أن تكون بسيطة ".

وهنا يريد بوانكارية أن يبين لنا أن  قوة النظرية تكمن في بساطتها، فإن هذا ما يجعل العالم يسعي إلي " تأليف نظام أو نسق مفترضات بحيث يضع في اعتباره أنه لا يظل يتمسك به إلي الأبد وإنما ينبغي أن يتخلي عنه طالما أصبح غير ملائم أو بسيط ويحاول التوصل إلي نسق أخر أبسط منه ليحل محله." فإن نتفق علي ما هو أبسط، أن يكون مفيداً من الناحية العملية.

ويضرب لنا بوانكارية بعض الأمثلة من تاريخ العلم، فيقول :" إذا ما درسنا تاريخ العلم وقفنا علي ظاهرتين متعاكستين تقريبا، فتارة تتخفي البساطة تحت مظاهر معقدة وتارة تتجلي البساطة ظاهريا وتتخفي خلفها وقائع غاية التعقيد. وهل أعقد من الحركات المضطربة لدي الكواكب ؟ وهل أبسط من قانون نيوتن ؟ هاهنا لا تلجأ الطبيعة – في غير التفات إلي مصاعب التحليل كما يقول فرزنيل – إلا إلي وسائل بسيطة تؤلف بينها، فتشكل ما لست أدري من دروب الحبك التي لا فكاك لها. تلك هي البساطة المتخفية وهي التي يجب أن نكتشفها... فنظرية "نيوتن" – مثلاُ – الآن وخصوصاً بعد ظهور النسبية، ليست إلا مظهراً لنظام ميكانيكي معقد- بعد أن كان نتاجاً بسيطاُ لاضطرابات الميكانيكا السماوية والأرضية علي السواء. وقد ظلت بساطتها ردحاً طويلاً متحجبة وراء هذه الاضطرابات المعقدة. فمن أجل هذه البساطة كانت  الدعوة "إلي الخروج علي ما هو مألوف وموروث ". وإذا كانت البساطة قد ارتبطت بالتغير التصوري في العلم، فذلك لأنها لا تنظر إلي المحتوي المعرفي للنظريات من حيث الصدق أو الكذب أو القابلية للتأييد أو التكذيب.

وهنا يبرر  بوانكارية البساطة بالعمومية بمنأي عن كون النظرية تخبرنا بالأكثر أو محتواها المعرفي أو لأنها تخبر بصورة أفضل.فالأبسط تصوريا هو الأنسب لتسهيل المهمة ؛ أي أن بوانكارية يعالج البساطة وكأنها خلقنا الخاص. وعلي الرغم من كل ذلك، أكد بوانكارية أن البساطة علي الرغم من كونها تتعلق بالجانب التصوري، إلا أنها قد تكون ظاهرية أو واقعية. وقد تكون بسبب عاداتنا الفكرية كما هو ماثل في تفضيلنا – مثلا للهندسة الاقليدية عن سواها لأنها الأكثر ملائمة من الهندسات اللا اقليدية فهي بسيطة لأنها تتفق مع خصائص الأجسام الصلبة، الأجسام المألوفة لنا في واقعنا.

وإذا حاولنا أن نرد معيار البساطة في اختيار القوانين والنظريات إلي شئ ما فيما يقوله بوانكارية، فإنما نرده إلي أن هدف العلم في رأيه ليس فهم الطبيعة ذاتها علي غرار التجريبية، بل خلق إطار تصوري مبسط يسعي إلي إدراج الأشياء في منظومته فيكون الإطار الأبسط تصوريا هو الأنسب وهو النافع في ميدان العمل به. لذا كان معيار البساطة (المنفعة عمليا والنسق البسيط والجميل نظريا) من أهم المعايير التي في ضوئها نختار قانونا أو نظرية عند بوانكارية وغيره من الاصطلاحيين ؛ وبالتالي كان الهدف الأساسي لـ" بوانكاريه " من وضع هذا المعيار هو تركيز فلسفته في اختيار " مبادئ " النظرية المحملة بأبسط الاصطلاحات الممكنة دون النظر إلي البراهين التجريبية لنتائج هذه النظرية أو تلك.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم