قضايا

تحليل ونقد الظاهرة الكردية في العراق

ميثم الجنابيالقضية الكردية: أفق مغلق وبدائل محتملة (1)

إن المفارقة الجلية الكبرى بل الجوهرية بالنسبة لمصير الحركة القومية الكردية في العراق وسوريا تقوم في جمعها بين "التحرر" من جهة، والعمالة للأجنبي والخيانة الوطنية الدائمة، من جهة أخرى. وهي حالة تعكس احد النماذج الأكثر غرابة واغترابا في فكرة الحرية بشكل عام والقومية بشكل خاص. بل يمكننا القول، بأنها الصفة الجوهرية للحركات القومية الكردية جميعا في عوالم انتشار الأكراد، والمقصود بذلك إيران (موطنهم الأصلي) والمواقع التي نزحوا اليها بأوقات متقطعة في كل من تركيا المعاصرة والعراق وسوريا.

إن سر هذه المفارقة يكمن في تأثير أربعة أسباب جوهرية وهي:

أولا: فقدان البؤرة المركزية التاريخية الثابتة (انعدام تاريخ الدولة)، وذلك لأنهم لم ينتقلوا لحد الآن من بنية القبيلة الى المجتمع؛

ثانيا: التشوه الذاتي للفكرة القومية في ظل انعدام قومية بالمعنى الدقيق للكلمة، الأمر الذي طبع صيرورتها السياسية المعاصرة بطابع وجداني، انحسر بأثر كل هزيمة وتجمد بهيئة أصداف عرقية؛

ثالثا: انتشار الأفكار السياسية والأيديولوجية "المتطورة" في واقع متخلف وبدائي، مما افرغها من مضمونها الفعلي وجعلها مجرد قشور سرعان ما تيبس ويجري رميها كما لو أن شيئا لم يكن. الأمر الذي افقدها ويفقدها من كل ثبات في المواقف والرؤية. بحيث جعل منها قشة سريعة الطيران في عالم الخرافة والابتذال. وترتب على ذلك صعوبة، بل استحالة الرؤية الاستراتيجية للاندماج والتكامل في العوالم التي نشئوا فيها ونزحوا إليها.

رابعا: إنها قوى قبلية جبلية، أقرب إلى المعاشر منها إلى أقوام. وبالتالي، فإن ما يفصلها عن القومية بالمعنى الواقعي هو مسار الانتقال من المعشر إلى القوم، ومنه الى الشعب، ومنه إلى القومية، أي مسار ثلاثة أجيال تاريخية ثقافية. وفي ظل انعدام الدولة، تصبح هذه المهمة شبه مستحيلة. أما التمسك بما يسمى بالتحرر والسعي بأي شكل للحصول على "بقعة أرض" لإنشاء "دويلة"، فإنه مؤشر على انه إنها قوى دخيلة وليست أصيلة ومن ثم ليست مستعدة بعد وقابلة للاندماج الاجتماعي الوطني، بوصفه اسلوب الصيرورة التاريخية المستقبلية للأكراد في كيان موحد ضمن عالم أكثر توحدا وأوسع، وأقصد بذلك العالم العربي الإيراني التركي.

وقد حدد كل ذلك سبب اندفاع القوى القومية الكردية صوب القوى القائمة خارج الوجود العربي التركي الإيراني والعمل معه بكل الوسائل والسبل لبلوغ "الغاية المنشودة". وهو أسلوب يتسم بقدر كبير من الغباء والمغامرة من جهة، وانعدام الاستراتيجية البعيدة المدى بالنسبة للقوى الكردية "القومية"، من جهة أخرى. كما جعل منها، وبأثر هذين الجانبين، أن تكون اكثر استعدادا للخيانة الوطنية. وهو امر جلي كما نراه في العراق وسوريا. فالانبطاح المطلق للقوى الأمريكية الغازية (وهي مؤقتة بالضرورة) والتعامل المبطن في الماضي، والعلني مع الكيان الصهيوني، وكل المراكز الامبريالية السابقة التي لم تتعض بعد من هزيمتها المحتومة في المنطقة، يكشف عن طبيعة الخلل الجوهري في الحركات "القومية" الكردية، التي جعلت من نفسها ومن الأكراد قوة مكروهة ومنبوذة في المنطقة، بحيث انتقل ذلك من مستوى النخب السياسية والدولة إلى مستوى الشعوب و"الشارع". وهذا منزلق ليس له مثيل في تاريخ "حركات التحرر" الوطني والقومي. مع ما يترتب عليه في الأفق المنظور من نتائج يصعب للذهنية الكردية الحالية تصوره.

لقد استعدت القوى القومية الكردية الشعوب الكبرى للمنطقة، أي تلك التي تتمتع بتاريخ وارث هائل في مجال الثقافة والحضارة والدولة. وهو سلوك يشير أولا وقبل كل شيئ إلى ضعف الذهنية والعقلية الكردية في إدراك ابسط مقومات الرؤية التاريخية والمستقبلية والاستراتيجية. وهي جوانب ومستويات يصعب إدراك حقيقتها بالنسبة لأقوام الجبل. وبالتالي، فإن زج الأكراد في ما لا حول لهم به ولا قوة من جهة، والاعتماد على قوى تمثل بالنسبة للوعي العربي والإيراني والتركي قوى غازية واستعمارية، من جهة اخرى، قد ادخل القوى القومية الكردية في مأزق تاريخي، يصبح الخروج منه اشد تعقيدا مع مرور الزمن. بمعنى انه يمكن أن يؤدي الى نوع من القطيعة الكبرى التي تضع ليس الفكرة القومية الكردية بالمعنى السياسي، بل ووجود الأكراد أنفسهم بالمعنى الوجودي، في مهب الريح.

وقد يكون مثال "السياسة" الكردية لما يسمى بقسد في سوريا احد النماذج الفاقعة والسخيفة أيضا بهذا الصدد (وقبلها وما تزال في العراق). اننا نقف أمام قوى تدعي النضال من اجل الحصول على حقوق قومية واستقلال ذاتي وما شابه ذلك، وفي الوقت نفسه تعمل بهيئة مرتزقة منهمكة في سرقة النفط السوري وتهريبه ومكافئة الولايات المتحدة اياهم بالسلاح والعتاد.

إننا نقف أمام قوى لا علاقة لها بسوريا. وهو كذلك بالمعنى الحرف والمجازي للكلمة. استنادا الى أن اغلب هذه القوى هي من وراء الحدود السورية (ايرانية تركية وعراقية)، كما انها تعمل بإمرة القوى الغازية لسوريا.

وهي حالة كانت وما تزال مميزة لجميع الحركات القومية الكردية على مدار القرن العشرين. بمعنى أنها على الدوام أما ورقة أو أداة في لعبة الشطرنج الدولية. وهو أمر طبيعي، وذلك بفعل الأسباب التي اشرت إليها سابقا. الأمر الذي يضع بقدر واحد مهمة نقد الحركات القومية الكردية بالشكل الذي يجعلها قادرة على التمكن من قيمة الرؤية النقدية. وكذلك تأسيس الرؤية البديلة، أو اعادة النظر بالرؤية القومية الكردية صوب تأسيس استراتيجية مستقبلية بديلة تخرجها من هذا المأزق التاريخي الفعلي. ومن بين أهم مقومات هذه الاستراتيجية، الاعتماد على النفس أولا وقبل كل شيئ، وبما يتوافق مع إدراك امكانياتها الذاتية، وموقعها الفعلي في المثلث العربي الإيراني التركي الهائل. وهو ما سأقوم به في مجرى اللحلقات العديدة المخصصة لهذا الشأن.

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

 

في المثقف اليوم