قضايا

انتشار العرقية (الكردية) السياسية واندثار الأبعاد الوطنية (العراقية) (2)

ميثم الجنابيالقضية الكردية- أفق مغلق وبدائل محتملة (5)

لقد توصلت في المقال السابق، إلى أن دراما «الانفصال الكردي» قد أدت في مسارها السلبي إلى ترسيخ وتعميق ثلاث مكونات (نفسية وذهنية) فاعلة عند الأحزاب القومية الكردية الكبرى وهي كل من:

- نفسية وذهنية الغنيمة،

- والوساطة والوصاية الأجنبية،

- والتجزئة والانعزال.

 وهي مكونات تراكمت فيها ذهنية ونفسية الأحزاب القومية الكردية في مجرى عقد كامل من الزمن، وجدت طريقها وتهذبت جزئيا من خلال المسار العام أو الخارجي (العراقي) كما نراه في اشتراكها الفعال ومساهمتها في أعمال ونتائج «مؤتمرات» المعارضة العراقية حتى سقوط السلطة الصدامية.

طبعا أن الصيغة الأولية للتوجه العراقي، الذي برز بوضوح في الوثيقة التي جرى توقيعها في واشنطن على اثر الاحتراب الدموي الطويل بين الحزبين، لم تكن نتاجا للرؤية العراقية (الوطنية) الكردية، بقدر ما كانت جزء من رؤية الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة، وتركيا من جهة أخرى. وهي رؤية جرى التعبير عنها بوضوح في احد البنود التي تقول، بأن الحزبين يتفهمان «بان الولايات المتحدة تحترم هذه التطلعات لجميع العراقيين». ومن أهم هذه «التطلعات» الواردة في بنود الاتفاقية كل من الإقرار «بسلامة ووحدة الأراضي العراقية، والمحافظات الشمالية الثلاث دهوك، أربيل والسليمانية هي جزء من العراق». و«كل من الحزبين دون استثناء يقبلون بالحدود الدولية العراقية»، و«يسعى كلا الحزبين لخلق عراق موحد، تعددي وديمقراطي الذي يضمن الحقوق الإنسانية والسياسية للأكراد في العراق، وجميع العراقيين وفق أسس سياسية مقررة من قبل الشعب العراقي»، ويطمح «الحزبين بعراق مبني على أسس فيدرالية بشرط أن تصان وحدة أراضيه الإقليمية».

لقد قيدت هذه الوثيقة وغيرها، وواقع وإمكانيات الحركات القومية الكردية في العراق والمنطقة، مكونات النفسية والذهنية المتراكمة فيما أسميته بالمسار السلبي للأحزاب القومية الكردية. ونعثر على هذا التقييد فيما أسميته بالمسار العام (العراقي) أو الخارجي لدراما «الانفصال الكردي»، أي كل ما نعثر على مفاصله في اختلاف وتباعد وتقارب وتمازج وتناقض وتوافق الهمّ الكردي والهمّ العراقي. وهي عملية طبيعية في ظل

- انحطاط الدولة المركزية بعد سلسلة الحروب الداخلية والخارجية التي لازمت كل زمن الدكتاتورية الصدامية،

- وفي ظل تنامي الوعي القومي الكردي المحكوم منذ البدء باختلاف أصوله عن العرب واغترابه عن العراق بالمعنى التاريخي والثقافي.

ومن هذين المكونين (السياسي القومي والتاريخي الثقافي) تراكمت عناصر الفكرة العرقية والانعزالية في أيديولوجيات الأحزاب القومية الكردية. وهي عملية متناقضة يصعب الحكم عليها بصورة وحيدة الجانب، إلا إننا نستطيع تتبع ملامحها الكبرى المتراكمة في وعي ولاوعي الأحزاب القومية الكردية في غضون العقد «الحاسم» من زمن «الحواسم» التوتاليتارية والدكتاتورية.

ففي نص ميثاق العمل الوطني المشترك المنعقد في دمشق نهاية عام 1990 نعثر على فكرة «إنهاء ممارسة الاضطهاد القومي» وكذلك مطلب «إلغاء سياسة التمييز القومي وإزالة الآثار السياسية والسكانية لمحاولة تغيير الواقع القومي والتاريخي لمنطقة كردستان العراق، وحل المشكلة الكردية حلا عادلا، ومنح الكرد حقوقهم القومية والسياسية المشروعة من خلال تطبيق وتطوير بنود اتفاقية 11 آذار سنة 1970 نصا وروحا».

في حين نرى تغير النبرة والصيغة بعد الأحداث الدرامية لعاصفة الصحراء وفشل الانتفاضة وظهور «المنطقة الآمنة» في شمال العراق. ففي البيان الختامي الصادر عن الاجتماع الموسع للمؤتمر الوطني العراقي الموحد المعقود في أربيل عام 1992 نعثر للمرة الأولى على صيغة سياسية عامة وأولية لفكرة الفيدرالية. ففي احد بنود النص المتعلقة بالنظام السياسي البديل في العراق نقرأ ما يلي:«إقامة البديل الذي يستجيب لإرادة الشعب ويتمثل في النظام الدستوري البرلماني الديمقراطي الفيدرالي التعددي، الذي يلغي التمييز والاضطهاد العنصري».

وفي هذه الوثيقة تبرز للمرة الأولى حدود القضية الكردية بصورة مستقلة وقائمة بحد ذاتها. حيث تجري الإشارة في نص الوثيقة إلى أن الاجتماع المذكور أعلاه في مجرى «دراسة القضية الكردية وسبل الحل المنشود أكد حقيقة التنوع والتعدد في تركيبة المجتمع القومية... وأجمع على أهمية تعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية الطوعية والمساواة التامة بين جميع المواطنين، معبرا عن احترامه للشعب الكردي وإرادته الحرة في اختيار الصيغة المناسبة للشراكة مع أبناء الوطن الواحد». أما بصدد الفكرة الفيدرالية، فإننا نعثر على العبارة التالية:«وتوقف عند قرار الاتحاد الفدرالي، وناقش صيغة وتجارب النظام الفدرالي واعتبره يمثل صيغة مستقبلية لحكم العراق ينبغي الاستناد إليها كأساس لحل المشكلة الكردية في أطار المؤسسات الدستورية الشرعية». واستكملها بفكرة أن وحدة العراق والتعايش بين قومياته ينبغي أن تبنى «على أساس الاتحاد الاختياري». كما شدد الاجتماع على «تلبية المطامح المشروعة والعادلة للشعب الكردي وتصفية جميع مظاهر الاضطهاد والقمع العنصري على أساس المبدأ القانوني الذي يقر حقه بتقرير المصير».

أما في البيان الختامي الصادر عن اجتماع المعارضة العراقية في نيويورك 1999 فإننا نعثر على عبارة الإقرار بالحقوق «القومية المشروعة لشعب كردستان العراق على أساس الفدرالية». وهي فكرة أكدت عليها وثيقة البيان السياسي لمؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن نهاية عام 2002.

فمن بين الفقرات المتعلقة بالقضية الفيدرالية نعثر على ما يلي: «العراق دولة ديمقراطية برلمانية تعددية فدرالية (لكل العراق)». وان المؤتمر يعبر عن احترامه لشعب كردستان وإرادته الحرة في اختيار الصيغة المناسبة للشراكة مع أبناء الوطن الواحد. كما «توقف المؤتمر عند تجارب النظام الفدرالي واعتبره يمثل صيغة مناسبة لحكم العراق ينبغي الاستناد إليها كأساس لحل المشكلة الكردية في إطار المؤسسات الدستورية العراقية بعد القضاء على نظام صدام الدكتاتوري وإحداث التغيير المنشود». أما في مجال المشاركة السياسية، فقد أكد المؤتمر على «ضرورة إشراك جميع مكونات الشعب العراقي من العرب والأكراد...». وفي موقفه من سياسة السلطة الصدامية تجاه الأكراد أكد على إدانته لما «يتعرض له شعب كردستان العراقي من تمييز وقهر واضطهاد منظم من قبل نظام صدام العنصري» و«تهجير قسري وتطهير عرقي واستخدام الأسلحة الكيماوية وتغيير الهوية القومية وتغيير في الواقع القومي لمناطق كركوك ومخمور وخانقين وسنجار والشيخان وزمار ومندلي». كما أكدت الوثيقة في موقفها من فكرة حق تقرير المصير على ما أسمته بتلبية «المطامح المشروعة والعادلة لشعب كردستان وتصفية جميع مظاهر الاضطهاد والقمع على أساس المبدأ القانوني الدولي الذي يقر حقه في تقرير المصير».

ولا تخرج جميع الوثائق اللاحقة من حيث المضمون على ما جرى استعراضه بصورة مكثفة لما يمكن دعوته بالمطالب القومية الكردية المتراكمة في مجرى عقد من الزمن. فعندما نقارن بين الوثيقة الأولى الصادرة عن قوى «المعارضة العراقية»، أي «ميثاق العمل الوطني المشترك المنعقد في دمشق بنهاية عام 1990» وبين آخر وثيقة مشتركة كبرى بهذا الصدد، أي وثيقة «البيان السياسي لمؤتمر المعارضة العراقية المنعقد في لندن نهاية عام 2002»، فإننا نقف أمام تغيرات جوهرية فيما يتعلق بالأولويات في مواقف الأحزاب القومية الكردية من النفس ومن العراق. بمعنى التحول من الحد الأقصى آنذاك والقائم في «تطبيق وتطوير بنود اتفاقية 11 آذار سنة 1970 نصا وروحا» إلى فكرة الفيدرالية السياسية والقانونية وحق تقرير المصير وإعادة النظر بتغيير التركيبة القومية لبعض المناطق وكثير غيرها. (يتبع...)

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم