قضايا

نيتشه.. الفيلسوفُ الذي يحيا بفكره

محمد الورداشييُعدُّ نيتشه فيلسوفا منَ الفلاسفة القلائلِ الذين أثروا في العالمِ المعاصرِ بأفكارهمُ الجرّيئة، والتي تقومُ على النقد، والتقييمِ قبل التقويمِ وإعادةِ البناء. لهذا نَجدنا، ونحن نحاولُ الوقوفَ عند هذا الفيلسوف، مُطالبين بطرحِ سؤالين أساسَيْن:

- ما الغايةُ من العودة إلى نيتشه في هذه الظرفية؟

- وهل يمكننا الحديثُ عنْ تجربةٍ صوفيةٍ في فكره الفلسفيِّ المتأخرِ؟

إنّ ما يجعلنا نعودُ إلى فلسفة نيتشه، في الوقت الراهن، هو كونُنا في أَمَسّ الحاجةِ إلى إنسانٍ متفوقٍ عقليا، وجسديا، وروحيا، ومتسلحا بالعلم، ومتحررا من قيود وأغلالِ التفكيرِ العقلانيِّ، قديما وحديثا. وحتى نتبينَ معالمَ الطريق، فإننا سنقفُ عند الجانبِ الصوفيِّ لديه، مُحاولين مقارنتَه بالتجربة الصوفيةِ الإسلامية.

فمن خلالِ تأملِنا لفكرِ نيتشه المتأخر، نجدُ أن ثمةَ حسا صوفيا ظاهرا فيه. ويعزى هذا الزعمُ إلى أن المتصوفةَ المسلمين قدْ بدأوا رحلتَهمُ الصوفيةَ بتحليلِ أوضاعِ المجتمعِ الذي عاشوا فيه، فضلا عن قياسهم لدرجة التدينِ في نفوس الأفراد. ولمّا وجدوا أن هنالك غاياتٍ دنيويةً كثيرةً قد شغلتِ القلوبَ عنِ الإيمانِ الحقيقيِّ، قرروا الفرارَ بأنفسهم إلى الخلوة، تاركين وراءهم كلَّ ملذاتِ وشهواتِ الحياة، زاهدين في المجتمعِ بأناسه وغاياته، وذلك طلبا للمعرفة الإلهية والارتقاءِ إلى الملكوت الأعلى عن طريق التجربة. وفي هذه النقطة، نجد أن نيتشه، أيضا، قد حلل وضعيةَ المجتمع الذي عاش فيه، ودرجةَ الانحطاطِ التي تسببت فيها أزماتٌ كثيرةٌ، فقرر الخلوةَ واعتزالَ أناسِ عصرِه باعتبارهم مرضى الحداثة، وجبناءَ خاضعين مستعبَدين من قبلِ نظامٍ أخلاقيّ للعالَمِ تتساوى فيه فئاتُ المجتمع، ويقومُ على إرادةٍ إلهية، حسب الكنيسةِ المسيحية، ما دفع به إلى تقديمِ نقدٍ للنظم الأخلاقية المسيحية. بيد أن غايتَهُ لم تكن غايةً دينيةً بالدرجةِ الأساس، بل كانت غايةً فرديةً وإنسانيةً في الآن.

أما الغايةُ الفرديةُ، فإنها تتجلى في التشكيكِ في كلّ المعتقداتِ والتقاليدِ من أجل بناءِ عقيدةٍ ذاتيةٍ راسخةٍ قائمةٍ على الشّكّ المُتحرر المُدقق، ولن يبلغَ الفردُ هذه الدرجةَ من القوة والنقد والتقييم، إلا عن طريقِ الانتصارِ على الذات، وتعويضِ إرادةِ الحق بإرادة القوة المبدعةِ لقيمٍ جديدة.

في حين أن الغايةَ الإنسانيةَ تظهرُ في خلقِ مجتمعٍ متفوق، حيث يحتلُّ فيه المسيطرون عقليا المكانةَ الأولى، ثم يليهم أولئك المتصفون بالرجولة الجسدية، وفي الأخير، تأتي عامةُ الناسِ الذين لا ينتمون لأيّ من الصنفين الأولين؛ لأنهم يألفون الاستكانةَ إلى القيم السائدة، قيم العبيد، ولا يسْعَون إلى بلوغ القيم الأرستقراطية، أي قيم السادة.

إذن، فالغايةُ التي يصبو إليها نيتشه ليست هي نفسها التي سعى إليها المتصوفة؛ لأنه كان يهدف إلى خلق إنسانٍ أعلى متفوقٍ مبدعٍ لقيمٍ جديدةٍ خاصةٍ به، وهم، أي المتصوفة، كانوا يهدفون إلى بلوغ المعرفة الإلهية. كما أنهم يَروْن أن السفرَ الروحيَّ العرفانيَّ يبدأ من الزهد في ملذات وشهوات الحياة، وترفها سواء أكان في المأكل أم الملبس أم المسكن، في حين أن نيتشه يدعو إلى ترسيخ كلّ القيم التي تشجعُ الفردَ على الحياة، وتُعلي من قيمة الجسدِ الذي هُمِّشَ طويلا في التعاليم المسيحية. لذلك فإن نقصَ التغذيةِ (التقشف والشظف في العيش)، واعتبار الجسد عدوا وشيطانا وغواية، مجردُ تعذيبٍ للجسد وحطّ من شأنه، حسب نيتشه. والمرحلةُ الثانية، عند المتصوفة، هي التحلي ومجاهدةُ النفسِ رياضيا ووجدانيا، لكن هذا خلاف لما نجده عند نيتشه، حيث إنه يدعو إلى التحلي بإرادة القوة المبدعة. وبعد التخلي والتحلي، تأتي مرحلة التجلي، بحيث يتجلى للمتصوفة الوصالُ والتجلي الرباني. بيد أن ما يلي المرحلتين الأوليين، لدى نيتشه، هو تجلي وبلوغُ الإنسان الراقي الذي ستكون مهمتُه هي إبداع وخلق قيم جديدة، إنه الإنسان التوّاق إلى المستقبل؛ لأن الماضي لا يعود ولن يعود، لذلك فإن طاقتَه ستتوجه صوبَ الإبداع، فضلا عن الثورة على كل قديم بال.

لقد وضع نيتشه تصورا للبشرية يراه هدفا مستقبليا لها، وهو أن تتفوق الإنسانية على ذاتها عبر ذاتها؛ لأنها مطالبةٌ بإعادة إبداع قيمها الجديدة في كل الأزمنة. وهذه مهمةُ العقولِ الحرة التي تأبى السلاسلَ والأغلال، أي الواجبات القديمة. وأصحابُ هذه العقولِ سيأتون في العصور القادمة، مُشهرين مطرقتَهم في وجه السائد، وداعين إلى القيم الجديدة التي سيبدعونها. كما أن المجتمعَ هو الذي سيفسح المجالَ لظهور هذه العقولِ المتفوقة، وذلك من خلال الفصل بين طبقاته، مما ينتج عنه ظهورُ أفراد راقيين واستثنائيين.

بناء على ما سبق، يمكن القولُ إن نيتشه كان يحمل همّ المجتمع الألماني أكثرَ منِ اهتمامه بالإنسانية جمعاء، ومن ثم فإننا مطالبون، في مجتمعاتنا العربية، بتشجيع المبادرة الفردية، وإفساح المجال لذوي الكفاءة حتى يثبتوا كفاءاتِهم ويطوروا أنفسَهم، ثم الأخذ بيد الذين يأتون بعدهم من حيث الذكاءُ؛ لأن رُقي المجتمع لا يأتي إلا بالعمل على ارتقاء أفراده. وهكذا نصل إلى أن ما جعلنا نعود إلى نيتشه هو كون فلسفته مشدودةً إلى المستقبل؛ لأن العودة إلى الماضي دون تجاوزه تحجب علينا النظرَ إلى الحاضر، وبالتالي إلى المستقبل، فضلا عن استحضاره لمصلحة الأجيال التي ستأتي بعده، وستنهض بمجتمعها بناء على الأسس التي وضعها في فكره الفلسفي. كما أن الخلقَ والإبداعَ يبقيان عملا فرديا، وضرورةً مجتمعيةً تراعي المصلحةَ العامة.

أما التصوفُ، فإنه السبيلُ الفعّالُ لإعادة بعث روح الإيمان في الفرد العربي؛ لأن ما يُلاحظ من تَدين، في عصرنا الحالي، هو تدينٌ شكليٌّ أكثر منه روحاني. ولعل هذا التراجعَ يُعزى إلى إبداعنا في الشكليات وممارسةِ الطقوس التعبدية على حساب الروحانيات، كما أن للتصوف الإسلامي قيما إنسانيةً نبيلة، كالتعايش بين الأديان، وحب الآخر باعتباره إنسانا، وغيرها من القيم التي تجعل عودتنا إليها محاولةً لإقامة جسرٍ بينها وبين القيم التي تطمحُ الإنسانيةُ إلى بلوغها.

 

  محمد الورداشي - باحث وناقد

 

 

في المثقف اليوم