قضايا

صعود الفكرة النفسية العرقية في الحركات القومية الكردية (2-2)

ميثم الجنابيالقضية الكردية: أفق مغلق وبدائل محتملة (8)

لقد حاولت البرهنة في المقال السابق، على أن تقييم مواقف الحركة القومية الكردية من العراق والانتماء الوطني، يكشف عن أنها لا تتعدى في الواقع أكثر من «تكتيك» الرؤية «المعتدلة» والرياء «النفعي» المميزة للنزعة الانفصالية الكردية. وهي نتيجة يمكن رصدها في التربية الدفينة للحركات القومية الكردية وبروزها «السياسي» في عبارات الابتزاز الفارغة التي تملأ مواقف الحركة البرزانية وخطابها السياسي على امتداد عقد من زمن "الرجوع إلى العراق". وتبرز هذه المواقف بوضوح مع كل «انتصار» و«تقدم» صغير في «تجسيد الأحلام الكردية». واكتفي هنا بالإشارة إلى موقف واحد من بين عشرات المواقف المشابهة التي تصب في نفس الاتجاه، ألا وهو القول، بأن ما «يمنع» الأكراد عن الانفصال عن العراق هو «الظروف غير المناسبة»، التي يكررها في "كل مناسبة" غير مناسبة!! فقد قال مسعود بارزاني في لقاء جمعه بعدد من ممثلي الطلبة والشباب بمنتجع صلاح الدين، بأن السبب القائم وراء عدم إقدامه على إعلان الدولة المستقلة هو انتظار ما تفرزه التطورات اللاحقة التي «قد تقلب الموازين والوقائع»! وقال بهذا الصدد «أود أن أبلغكم هنا وكونوا على ثقة بأننا نتطلع إلى اليوم الذي نعلن فيه من داخل البرلمان الكردستاني دولتنا المستقلة ليتحقق حلمكم هذا»! لكنه استدرك لاحقا بالقول «إذا عدنا لما قبل عشر سنوات سنجد أن ما تحقق الآن قد لا يكون الإنسان حلم به، ولا ندري ماذا سيحدث بعد عشر سنوات من الآن من تطورات قد تقلب الموازين والوقائع». و«أن ما تحقق في الدستور العراقي لنا كشعب كردي تعتبر مكاسب كبيرة رغم أنها لا تلبي جميع طموحاتنا. وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». و«أن هذه المكاسب مثبتة في الدستور، وهي أضمن لنا من إعلان دولة مستقلة قد لا تحظى بهذا الدعم الدولي الموجود الآن وبالتالي قد نجازف في أمر نفقد من خلاله ما تحقق لحد الآن من الدعم الدولي». وفي مجال تحالفاته السياسية اللاحقة، فإنه ربط ذلك بما اسماه بموقف «الكتل والقوى من الفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها».

إننا نقف أمام صيغة «كلاسيكية» للنزعة الانفصالية المراوغة والمليئة بنفسية المغامرة والمقامرة والمؤامرة، باختصار بكل الرذائل السياسية التي لا مخرج لها من حيث الجوهر سوى الخيانة الفعلية للفكرة الوطنية. فالعراق بالنسبة لهذا النمط من التفكير السياسي العرقي هو أما مجرد بقرة حلوب، وأما أداة لبلوغ أهداف خاصة وأما «شريك» للسرقة!! وفي مجملها تعكس حقيقة الموقف غير الوطني للتيار البرزاني الذي اتصف تاريخيا بالاستعداد للاتفاق مع مختلف الأطراف الأجنبية والخارجية في صراعها مع العراق وضد مصالحه الوطنية العليا. وذلك لأن القوة الوطنية الحقيقية ينبغي أن تضع على الدوام فرقا بين صراعها وحتى عداءها للسلطة السياسية القائمة وبين المصالح الوطنية الكبرى للدولة والوطن. إلا أن عبارات البرزاني تكشف حقيقة نوايا ونمط تفكير هذا التيار. ففيها نقرأ فقدان الرؤية الوطنية العراقية، بل ومعاداتها في عبارته القائلة:«وما تحقق كان بفضل من دعم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المتحالفة معها وكذلك بدعم الأمم المتحدة». وفيما لو أزلنا كلمة «الأمم المتحدة» بوصفها عبارة دبلوماسية، وكان بإمكانه أن يقول «إسرائيل» لولا الفضيحة، فإن ذلك يعني ليس فقط تجاهل العراقيين العرب وغيرهم في الصراع ضد الأنظمة الدكتاتورية من اجل صنع عراق ديمقراطي يتمتع به الجميع بحقوق متكافئة، بل واستهجان لهم أيضا. ويعبر هذا الاستهجان عن نفسية الغنيمة وليس الشراكة الوطنية. وهي فكرة جلية في ما اسماه باشتراط التحالف مع القوى التي تستجيب لمطالبه «بالفدرالية والديمقراطية والتعددية والمطالب الكردية في المناطق المتنازع عليها مثل كركوك وخانقين والسنجار وغيرها». لكنه لم يوضح مقابل أي شيء؟ وقد تكون الإجابة مقابل «البقاء في العراق»! إذن لماذا كل هذا الضجيج والدعوة لإقامة الدولة المستقلة. أم أن ذلك يفترض الحصول على «الأراضي المتنازع عليها» بوصفه اليوم الذي يمكنه أن يكون «يوم إعلان الدولة المستقلة من داخل البرلمان الكردستاني»! إذن لماذا هذه المطالب؟ أم إننا نقف أمام نموذج "كوردي" متميز في فهمه للاعتدال والنفعية؟ وهو اعتدال ونفعية مهمتها البرهنة «للحلفاء» الجدد (الأمريكيين) بالاستعداد الدائم لخدمة مصالحهم. كما تعكس هذه النفسية طبيعة الذهنية السياسية للحركة البرزانية التي كان اغلب تاريخها السياسي زمناً للارتماء بأحضان القوى الخارجية. ونعثر على هذه النفسية المستبطنة في عبارة البرزاني القائلة «قد تقلب الموازين والوقائع»، التي تجعل من الممكن «إعلان الدولة المستقلة». وهي عبارة تسقط كل معنى «الاعتدال والنفعية» وفكرة «نحن وطنيون عراقيون» وليس «انتحاريين قوميين».

بعبارة أخرى، إننا نقف أمام خليط غير متجانس من الأفكار والمواقف يعكس بمجمله خلل الفكرة الوطنية العراقية في الفكر القومي الكردي المعاصر، والذي تمثله بصورة نموذجية الأبعاد الدفينة لكلمة «قد تقلب الموازين والوقائع». ويمكن فهم المعنى الباطني لهذه العبارة في الفكرة المباشرة التي طرحها البرزاني مرات عديدة في الفترة الأخيرة والقائلة، بأن الأكراد سوف يعلنون استقلالهم في حال نشوب حرب أهلية بين العرب في العراق. وفيما لو أهملنا شرارة «الحرب القبلية» المحترقة تحت غطاء البرزانية والطالبانية بين الأكراد، أي استحالة الاتفاق على «دويلة واحدة» بين الأكراد أنفسهم، دع عنك كل الجوانب الأخرى، فإن مضمونها الفعلي يشير إلى طبيعة النقص الجوهري في الفكرة الوطنية عند الحركات القومية الكردية الحالية.

وتعكس هذه «الفكرة» المزاج الدفين للتيار البرزاني. حقيقة أن ذلك ليس معزولا عن الصراع الدفين بين التيار الطالباني والبرزاني، إلا انه يشير من الناحية الموضوعية إلى طبيعة الخلل الفعلي في الرؤية الوطنية العراقية، وصعود الرؤية العرقية والمزاج القومي المشوه، أي كل ما وجد انعكاسه في الاعتقاد القائل، بإمكانية أن تكون الحرب الأهلية في العراق وسيلة بلوغ «الدولة المستقلة» للأكراد. وهو مزاج يعبر عن طبيعة «الاعتدال والبراجماتيكية» البرزانية بصدد الفكرة الوطنية العراقية.

إن ربط إمكانية ما اسماه بالحرب الأهلية بين الشيعة والسنّة، هو تعبير عن نفسية دفينة تعكس النزعة القبلية السائدة في التيارات القومية الكردية الحالية في العراق. بمعنى إننا نعثر فيها على تحريض ومساومة من نوع فاحش. والقضية هنا ليست فقط في عدم معرفة ماهية وحدود «العراق» و«الاستقلال» و«الدولة الكردية» في عبارة البرزاني، بل ولما فيها من جهل بماهية الحرب الأهلية وخصوصيتها وأثرها المحتمل في العراق والمنطقة، ومن ثم بالنسبة لمصير «الدولة الكردية». فالحرب الأهلية، كما هو معروف، هي أولا وقبل كل شيء حرب بلا قواعد. من هنا يصعب تحديد مداها الزمني وحدودها الجغرافية. كما يصعب تحديد أثرها وأساليبها، وذلك لأن آلية فعلها تفتقد لأية معايير عقلانية وواقعية. أنها محكومة بقواعد الثأر والانتقام. ومن ثم لا تصنع في مجرى اندلاعها سوى قوى همجية غير عقلانية. والحرب تنتهي بالضرورة، ومن ثم فالأكراد بحاجة إلى قوى للاتفاق معها. وعندما تلتقي قوى لا عقلانية من الطرفين فإن النتائج المحتملة هي «حرب حتى الرمق الأخير» وما يرافقه بالضرورة من تدخل خارجي دولي وإقليمي بالأخص. وهو تدخل لا يرحم الأكراد أو أي كيان آخر. فالطبيعة لا تحب الفراغ، والمصالح الاقتصادية والسياسية للدول الإقليمية هي اشد عنفا في الظروف التاريخية الحالية من الطبيعة، لأن الأخيرة لا تعرف الهمجية، لكنها تعرف "الثأر". بينما الدول الإقليمية تعرف الثأر والهمجية بقدر متساو. وهي نتيجة تجعل من المستحيل بالنسبة «للدولة الكردية» المعلنة الابتعاد عن آثارها، بما في ذلك عن آثار الصراع «السني الشيعي». والقضية هنا ليست في ما يسمى بالانتماء السنّي للأكراد، لأنه في الأغلب غطاء دعائي يستعمل عند الحاجة. لكن «الحاجة» في الحرب الأهلية عادة ما تكون لكل شيء. لهذا سوف تستهلك بالضرورة كل شيء بما في ذلك الصواب والخطأ والحقيقي والدعائي. فالحرب الأهلية آلة خشنة لا يمكنها التهام السنّة والشيعة العرب، بل والبرزانيين والطالبانيين "السنّة" الأكراد أيضا. أما النتيجة فهي إشراك الجميع في حروب بلا قاعدة، والقاعدة الوحيدة فيها ستكون لنفسية وذهنية «القاعدة» الزرقاوية سابقا وأشكالها المتنوعة الآن وآخرها "داعش"، أي لهمجية بلا حدود.

إن همجية بلا حدود تعني في ظروف العراق الحالية همجية عراقية عامة، أي حرب أهلية في عموم العراق. ولا يمكن حينها الاختباء وراء خطوط «المناطق الآمنة». إذ لا أمان آنذاك لأي كان، كما انه لا مصدر لتمويل الأمان والميليشيات واحتياجات الناس العاديين للعيش البسيط من «نفط مقابل غداء». وعندما تتلاشى معادلة النفط والغذاء، فإن المعادلة البديلة هنا هي الشحن العنيف للصراع والمواجهة الإقليمية. ولابد وأن ينتهي هذا الصراع بشكل ما من الأشكال. أما بفوز طرف على آخر أو بطريقة «التوافق»، بمعنى الاتفاق. ففي حالة فوز احد على آخر، فإن الفائز يكون بالضرورة مستكبرا وغاضبا ومتلذذا بالانتصار، تحدوه الرغبة الجامحة في القضاء عل كل «خصم» و«غدار» و«خائن» وما إلى ذلك من صور سوف يجري صنعها وتصنيعها وتسويقها بصورة سريعة. وفي حال التوافق والمساومة بين «السنّة والشيعة» العرب، فإن الأكراد سوف يكونوا الطرف الوحيد في «الغدر» و«الخيانة» و«العداء». الأمر الذي يؤدي أما إلى حرب «أهلية» على مستوى قومي، وهو ما لا تعارضه القوى الإقليمية. على العكس قد تكون أكثر استعداد لتشجيعه ودعمه. كما أنها الرغبة التي سوف تتحمس لها اغلب «الأقليات الكردستانية» إن لم يكن جميعها. وسوف تجعل هذه الحالة من الأكراد القوة الأضعف والأكثر محاصرة. فضعفها التاريخي هو الأشد قسوة في الظروف الحالية من كل تاريخهم الحديث. وذلك لأن «التشتت» السابق في المنطقة وصراعاتها الداخلية كان يجعل من الأكراد عموما «ورقة ضغط» أو «ورقة لعب». وتحول بعد الاحتلال الأمريكي للعراق إلى ورقة في أيدي أمريكية أمينة! وهو تحول من الشرذمة في المصالح إلى وحدة متينة في الإستراتيجية. ولا علاقة جوهرية بين المصالح الكردية والأمريكية إلا من حيث استعدادها على خدمة «المصالح الحيوية» للولايات المتحدة. وبما أن القوة الكردية ضعيفة بحد ذاتها، وقوية نسبيا في معترك المصالح الإقليمية المتناحرة، فإن وضعها كاملة في قبضة المصالح الأمريكية كان يعني إضعافها آلاف المرات قياسا بالسابق. فالولايات المتحدة قوة جبارة، وبالتالي فإن ضعف القوى الكردية هو أيضا الوجه الآخر لهذه المعادلة التعيسة.

مما سبق يتضح، بأن الآفاق البعيدة المترتبة على فكرة الحرب الأهلية هي إضعاف شنيع للأكراد وإفقادهم شبه التام لأي إسناد فعلي. مما يجعل منهم قوى قابلة للالتباس بزي «القوى الانفصالية» مع ما يترتب عليه من عنف مركب ضدهم ونشاط إقليمي مشترك للقضاء عليهم. لاسيما وأن الحركات القومية الكردية قد «نجحت» فعلا في استعداء دول المنطقة. ولم يبق في الواقع ملجأ لها غير العراق. وفي العراق حرب أهلية! غير أن هذه الصورة المكثفة أعلاه، أي الأقل دموية ومأساة مما سيجري في الواقع في حال نشوب حرب أهلية، كان ينبغي لها أن تثني رجلا عاديا من الحديث بفكرة مثل تلك التي أطلقها البرزاني. فالعاقل يصاب بالدهشة لتصريحات من هذا القبيل. ومن يسعى لبناء دولة ينبغي أن يكون على الدوام حذرا للغاية في الهواجس والوساوس، دع عنك في الكلام والعبارة. وأن يكون متحررا تماما من ثقل المفاهيم المبشرة بالحرب الأهلية. وهو تحرر يفترض الارتقاء من مقارنات السياسة المبتذلة والأحداث التاريخية القديمة والمعاصرة إلى آفاق المصالح الواقعية والعقلانية الوطنية العامة. وذلك لأن «كردستان» ليس كوسوفو، والعراق ليس يوغسلافيا، والشرق الأوسط ليس وسط أوريا.

إننا نعثر في الأفكار المبشرة بالحرب الأهلية، التي تقدم وقت الضرورة على أنها تحذيرا منها!! هو الوجه الآخر للانحدار والانحطاط العرقي للحركات القومية الكردية. مع ما يترتب عليه من نفسية الابتزاز والحصول على غنيمة. وبالتالي الاضمحلال الفعلي للفكرة الوطنية العراقية فيها.

طبعا أن هذا الانحدار ليس معزولا عن مكونه الذاتي القائم في ضعف التكامل القومي للأكراد. فالأكراد قوم وليس قومية، أي أنهم لم يمروا بعد بتجربة الصيرورة التاريخية المعقدة لفكرة الشعب ثم القومية ومن بعدها للأمة، إضافة إلى غياب أو انعدام الدولة وتاريخها الثقافي المستقل. بمعنى عدم وجود قومية دولتية لها تاريخها الخاص المؤثر والفعال في بلورة تقاليد سياسية وثقافية مستقلة وطويلة الأمد على المستوى الإقليمي. وهو ضعف جلي على خلفية كون الأكراد هم من سكان المنطقة ولهم جذور متداخلة مع الفرس والأتراك وقواسم دينية ولحد ما ثقافية مع العرب. ووجد هذا الضعف انعكاسه أيضا في البنية الاجتماعية القبلية والجهوية الراسخة بما في ذلك في الوعي القومي والسياسي المعاصر. وهو ضعف حصل على امتداده في التجزئة السياسية للأكراد في دول عدة من جهة، وتجذر التجزئة الذاتية في «منظومات» مغلقة من جهة أخرى. مما أدى بدوره إلى بلورة اغلب عناصر الاستلاب الثقافي المميز للحركات القومية الكردية الحالية تجاه ارثهم المشترك مع الفرس والأتراك والعرب. وهو نقص متجذر بصورة عميقة في الوعي القومي السياسي الكردي بهيئة عناصر عرقية تصعب معها الفكرة الثقافية للاندماج السياسي، أو الفكرة السياسية للاندماج الثقافي. وفي هذا تكمن عناصر الخلل في الفكرة الوطنية الكردية تجاه العراق.

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم