قضايا

مُحَاوَرَاتٌ حَوْلَ تَمْكِينِ العَقْلِ وعِرْفَانِهِ

بليغ حمدي اسماعيللا تزال فكرة مواجهة التطرف الفكري والديني تؤرق الأنظمة السياسية ومن بينها النظام المصري بالضرورة، لأن ظاهرة التطرف كما تفطنها أصغر بناتي تشكل معضلة وعائقا أمام عجلات التنمية والاقتصاد والحلااك الاجتماعي الإيجابي، ولهذا فكرت مصر في تشكيل لجنة وطنية لمواجهة التطرف الفكري لاسيما في جنوب مصر، والحق أقول إنني شاركت في إحدى جلساتها بمقر صندوق التنمية الثقافية منذ أكثر من شهر وقدمت خطة لا أدعي أنها تتسم بالتكامل والشمول لمواجهة الظاهرة لكنها على الأقل تفي بمواجهة التطرف الفكري في الجامعات لا عن طريق قمع الحريات أو استلاب الآراء الطلابية بقدر ما هي تسعى لتفعيل واستغلال طاقات ومهارات الطالب الجامعي بغرض إشراكه في تحريك تلك العجلات التنموية والاقتصادية والاجتماعية .

وخطورة ظاهرة التطرف الفكري تتمثل في كونها مهادًا للإرهاب الذي يعصف بالأخضر واليابس، وظاهرة الإرهاب هي بالفعل التي تقوض المجتمعات المدنية التي ترنو إلى التقدم أو التطور فيأتيها هذا الوحش الكاسر ليقضي بآمالها وأحلامها .

ولعل أبرز أسباب انتشار الراديكالية قهر الحوار وقمع الحريات، لذلك ارتبط التطرف الفكر بالعنف السياسي، وبدا إن أية محاولة للإفراط في التفكير الجانح هي خطوة رئيسة للتطرف ومن ثم الإرهاب الذي تجاوز تخوم الكلمة وحدودها إلى إرهاب الجسد والإيذاء البدني .

ولا شك أن هناك علاقة وطيدة بين التطرف الفكري وتمكين العقل، حيث إن المتطرف غالبا كما تشير كافة الدراسات النفسية والاجتماعية المتأصلة في هذا المجال إلى أنه لا يتسم بسعة الأفق بل بالضيق، وهذا ما يجعله فريسة سهلة القنص للتيارات الراديكالية التي تسعى إلى إحداث حالة من الفوضى والتمزق السياسي تحت ستار الدين غالبا، واستغلال الصراعات السياسية . والكارثة أن مجتمعا كالذي نعيش في كنفه يتسم بالثقافة والتنوير إلا أن دور المثقف نفسه صوب إحداثيات التطرف والعنف والإرهاب بات باهتا وأضعف من أن يشار نحوه بقليل من الضوء .

فالمثقف المصري لا يمتلك قدرة على استشراف الخطر بصفة عامة، وعادة ما أتعجب من أمر الذين يصرون على إلصاق أسمائهم بلقب المفكر لاسيما وأنهم تنتابهم فجأة ظهور مثل هذه الحركات والتنظيمات في الوقت الذي كان أمامهم متسع من الزمن يسمح لهم بتجديد خطابهم الثقافي وتهيئة العقل العربي لاستقبال التنوير، وظل المثقف المصري ينتظر أية إحداثيات جديدة في المشهد السياسي والديني دون أن يبدأ في حركة التثوير المرتقبة والمنتظرة منهم فكانت النتيجة ظهور تيارات مناوئة تستهدف تقويض المنطقة كلها تحت رعاية أمريكية بعدما اقتنعت الإدارة الأمريكية بعدم جدوى التدخل المباشر وخصوصاً المكابدات التي لحقت بالقوات الأمريكية في العراق وكذلك ما تكبدته من خسائر اقتصادية أرهقت ميزانيتها عقب نجاح الثورات العربية تحديداً في مصر وتونس فكان من الأفضل لديهم الالتجاء إلى تدعيم فصائل قصيرة العمر تاريخياً من أجل زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي وتفتيت القوى التي يمكن أن تناهض الكيان الصهيوني ومصالح الإدارة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

كما أن أصحاب الفكر الراديكالي بحاجة ماسة إلى مراجعات فقهية وأخرى مجتمعية، فإن أدوار المثقف والمفكر العربي اليوم أصبحت بحاجة إلى ثمة مراجعات فقهية من زاوية إعادة النظر إلى أحداث المشهد السياسي المعاصر، وليس الاكتفاء بالتعليق على الأحداث، وعلى سبيل المثال إذا كان تنظيم الدولة الإسلامية قد فكر وخطط ودبر فإن رهان نجاح هذا التنظيم مشروط بمدى مشاركة المثقفين الوطنيين في تجديد الخطاب الديني ومواجهة الفكر المتطرف بواقعية، والبقاء في حالة مشاركة مستدامة مع الحدث وليس الاقتناع بمقعد المشاهد السلبي.

وإذا حاولنا رصد الفكر المتطرف وأسباب انتشاره المتسارع فإن الرائي يدرك على الفور شيوع فكرة نظرية المؤامرة المتأصلة لدى أولئك معتنقي الفكر المتشدد، وأصحاب النظرية أنفسهم يرون ضرورة السخط على كافة الأوضاع في المجتمع بدءًا برئيس الدولة انتهاءً بأصغر موظف في الدولة يحمل بطاقة تموينية .

وما أخطر على الدولة المصرية التي تبادر إلى تثبيت أركانها بثبات المواطن نفسه من الرفد الغربي لصناعة الكيانات السرية المتطرفة، والهدف الأساسي لهذا الرفد الغربي هو تفتيت الداخل وتقويضه وزعزعة أركانه . وبمراجعة فكر بعض المتطرفين وفقا لتصريحاتهم الصحافية ولقاءاتهم الفضائية وجدت أنهم تعرضوا لمبادرات موجهة من قبل أمراء التيارات المتطرفة كان سعيها التشكيك في نصوص الفقهاء المعتدلين المتقدمين والمتأخرين على السواء، وصولا بهم إلى الاقتناع بفكرة التعالي عن كل النظريات والفلسفات والتيارات الفكرية المتباينة .

ومخطئ من يظن أن الأمم حينما تنكسر أو تنحدر قيمها الفكرية والاجتماعية وتنحسر في قوقعة الأفول يبزغ التطرف وينتشر الإرهاب والعنف، بل إن معظم الحضارات المشرقة والمتقدمة يكثر أعداؤها بصور محمومة، وتاريخنا الإسلامي كفيل بسرد حقائق تفيد أن معظم التيارات والطوائف المتطرفة تسارعت في انتشارها وقت الصعود الحضاري .

ومن أجمل وأمتع ما قرأته من توصيف لأصحاب الفكر المتطرف هو ما قدمه الدكتور طريف شوقي في مقالته الماتعة التي استهدفت بناء استراتيجية لمواجهة التطرف الفكري، فلقد قدم توصيفا لمحددات الفكر المتطرف يمكن من خلالها فعلا مواجهة هذا الفكر لآليات ومحددات واقعية فعالة . فلقد قدم ثمة محددات لأصحاب الفكر المتطرف منها ضعف التحكم الانفعالي، ونقص المهارات النقدية، وبزوغ المفهوم غير الواقعي عن الذات، وضعف الارتباط الوجداني والعاطفي، والغياب النسبي للتنشئة النقدية في الأسرة . وغير ذلك من محددات أراها وربما يراها غيري أيضا كفيلة بوضع استراتيجية لمواجهة التطرف الفكري والديني .

لكن الأهم من هذا كله ما قدمه الدكتور طريف من أساليب واقعية لمواجهة التطرف يمكن إجمالها في الانفتاح على الخبرات المتنوعة وتحليلها، وحث الفرد على البحث عن أصل المسائل الفقهية، وتدريب المواطن على عمليات المحاججة . وفي الأخيرة لقد قدمت بحثا في نهايات 2015 استهدف تدريب الطلاب الجامعيين على استخدام تقنيات الكتابة الحجاجية الإقناعية وهي نمط ضروري ومهم لمواجهة أصحاب الفكر الأحادي الذي لا يقبل الحوار ولا يعترف بالاجتهاد ولا يفطن لحقيقة الحجاجية .

والأجدى من كل هذا أيضا أطمح أن تسعى اللجنة المشكلة لمواجهة التطرف الفكري إلى تركيز الخطاب الديني الذي لم يجدد حتى لحظة الكتابة الآنية على إبراز الدور النقدي الإيجابي لدى الفرد . ولذلك هناك ضرورة لتمكين العقل وتنمية مهاراته لدى الأفراد وحث الجامعات على استحداث مقررات للتفكير الناقد والإبداعي وصولا إلى ما نسعى إليه من خلال عنوان باب المقالة الشهرية لصاحب هذه السطور ألا وهي إدراك وفطنة ما بين السطور .

 

د. بليغ حمدي إسماعيل

 

 

في المثقف اليوم