قضايا

فلسفة الكذب ومواجهة الشائعات في مكتبة الإسكندرية

عصمت نصارسألني الكثيرون من القراء والأصدقاء عن دلالة مصطلح «فلسفة الكذب». لذا اجتهدتُ فى البحث عن تأصيل ذلك المصطلح، فاهتديُت إلى أن ذلك المصطلح قد وَرد فى شذرات عديدة من تعاليم حكماء الشرق فى مصر وبابل وفارس والهند. بالدلالة والمعنى وليس اللفظ.

وجاء فيما رويَ عن فلاسفة اليونان ومحاوراتهم ولاسيّما في مساجلات (السفسطائيين، حوارات سقراط، أفلاطون، وكتابات أرسطو). وكان مصطلح الكذب يعنى نقيض الحق والصدق والمنطقي والموجود، الأمر الذى جعلهم يخرجون الفن وعلم الجمال من دائرة التعبير عن الحقيقة. أما فلاسفة العصر الوسيط ولاسيّما «القديس أوغسطين (٣٥٤م-٤٣٠م)» فقد ذكر الكذب في إحدى رسائلِه بيّن فيها أنه من أبشع الرذائل وهو ضد الإيمان، وذلك لأن من يردد الأكاذيب دون تحقق يصبح مضللًا وخائنًا لأمانة الصدق.

وفى الفكر الفلسفي الحديث ربط الفلاسفة بين مصطلحيِ التجديف والكذب، فكلاهما ادعاء مخالف للحقيقة والواقع، سواءٍ في دائرة المقدس أو ميدان العلم، كما ذهب «كانط (١٧٢٤م-١٨٠٤م)» إلى اعتبار الكذب أسوأ الموبِقات التي يتجاوز شرها الرذائل الخُلقية إلى الجنايات والجرائم الإنسانية، ووضح ذلك في مقولتِه «إن أبشع أنواع الكذب هو الذى تمارسه الذات مع الآخرين، والأبشع منه هو الذى تُقنِع به ذاتها، لأن الكذب الممنهج يغتال الضمير».

ولم يُفرق «كانط» بين ما نُطلق عليه الكذب الأبيض مثل المجاملة والمداهنة، أو الكذب الأسود المُتعَمد.

أما في الثقافة العربية فقد تناول متكلمو الإسلام وفلاسفة المشرق والمغرب الكذب بمعنيين، أولهما أخلاقي يستند إلى قائمة المَنهِى عنه في القول والسلوك، والثاني فلسفى وهو ضد المعقول والمتسق والمنطقي والمُثبت بالتجريب والبرهان. وقد استثنوا الفن، وخالفوا بذلك نظرية المُحاكاة. وذلك كله بمنائ تمامًا عما يحدث في ميدان الشعر والأدب والقصص الخيالي.

وفى الثقافة العربية الحديثة لا نكاد نجد أشهر من كتاب «فلسفة الكذب» لمحمد مهدى علام (١٩٠٠م-١٩٩١م)، ذلك المفكر التربوي واللغوي المخضرم. الذى ناقش فيه معنى مصطلح «فلسفة الكذب» وعلتِه ومقَاصدِه وأشكالِه وأثارِه وتباعِته وبنيتِه ولغتِه.

والطريف أن «فلسفة الكذب» قد أضَحى من المصطلحات الشائعة فى كتابات الفلاسفة وعلماء النفس والتربية والاجتماع والتاريخ في الفكر المعاصر. وذلك منذ أخريات الستينيات من القرن الماضي (نحو ١٩٦٥م)، في الثقافتين العربية والأوروبية.

ها هو الفيلسوف الألماني «فريدريك نيتشه» (١٨٤٤م-١٩٠٠م) يقول «الحق إنه لا يسيرني اكتشافي أنك كذوب، ولكن كل أسفى على عدم استطاعتي تصديقك بعد ذلك».

وهنا يُشير «نيتشه» إلى انعدام الثقة، الذى يحدثه الكذب المُمنهج. فما أبشع الشك والارتياب إذا ما وقع بين الرأي العام القائد والرأي العام التابع، فذلك يؤدى حتمًا إلى تفكيك المجتمع وانقسامه.

بينما ذهبت الفيلسوفة الأمريكية «حنة آرندت» (١٩٠٦م-١٩٧٥م) إلى اعتبار الأخبار المغلوطة (Fake News) في ميدان العلم والسياسة والإعلام والتاريخ والأخلاق كيانًا واحدًا يحوى الزيّف والخداع.

وبالجملة «ففلسفة الكذب» عندها هى ذلك الخطاب والنسق والسياق الذى يُنقل من المتكلم إلى المُتلقي بُغية تضليله عن قصد أو غير قصد، إذا كان مُخالفًا للحقيقة.

أما «جاك دريدا» (١٩٣٠م-٢٠٠٤م) فقد ربط بين الكذب باعتباره فعلاً مخادعًا ومضللاً للآخرين وألاعيب الساسة والمزيفين للوقائع، وهو فى كل صورة يحمل بين طياته الشر، وهو بطبيعة الحال نقيض الخير المصاحب دومًا للصدق والحقيقة.

ويؤكد «دريدا» أن أخطر أشكال الكذب ودروبِه وأنواعِه، هو الذى يسلكه الساسة وتجار الكلمة فى خطابتهم ومبرراتهم وحججهم ووعودهم، وذلك لأنه فى مقدورهم تزيِّيف الواقع وطَمس الحقائق إذا حاول المُتلقى البحث عن مصداقية أقوالهم بالطرق التحليلية التقليدية. وعليه فهو يدعو إلى استخدام ضروب (التفكير الناقد) لكشف زيّف أكاذيب الساسة، أولئك الذين نجحوا إلى حد كبير فى ابتداع وتطوير نسقية للكذب حتى تبدو في عيون وأذهان ومسامع المُتلقين على أنها الحقيقة.

وقد أسعدني كثيرًا تلبية العديد من الجامعات المصرية والمنابر الثقافية، لدعوتي لعقد حلقات نقاشية تجمع بين أكابر المتخصصين والمعنيين بحروب الجيل الثالث والرابع. التي اتخذت من الشائعات والاخبار المضللة أسلحة لها، لتفكيك المجتمعات وتدمير الدول وتبديد الأمن فيها - وذلك لتثقيف الطلاب والرأى العام بأقوى المضادات لهذه الحرب الشرسة.

فلبيت دعوة جامعة أسيوط وذلك في الندوة التي عقدتها بتاريخ (١٠\١٠\٢٠١٩). تلك التي تحدثت فيها عن فلسفة الكذب وكيفية تحليل أنساقها، والكشف عن المغالطات التى يتعمد مبتدعوها وضعها على نحو حرفي وتقنى عالِ المستوى لخداع العقل الجمعي، الأمر الذى يستوجب التدريب على التفكير الناقد لفضح المستور وكشف التدليس وتبيّان الحقيقة.

وقد سُعدت أيضًا بالدعوة الكريمة التي أرسلت إلى من قِبل المفكر السياسي المخضرم «الأستاذ الدكتور مصطفى الفقي، مدير مكتبة الإسكندرية»، وذلك لحضور إحدى الحلقات البحثية الراقية التي عُقدت يوم الخميس الموافق (٧\١١\٢٠١٩) وذلك فى صورة ندوة ثقافية بعنوان «مواجهة الشائعات وتماسك الدولة»، لإيجاد السُبل لدعم وطننا لمواجهة حرب الشائعات الممنهجة التي يقودها العديد من الجهات المعادية.

وفى الندوة التقيت بكوكبة من المتخصصين في محاربة الشائعات والأفكار الجانحة والحملات الرانيّة لتزييّف الوعي. (إعلاميين، دبلوماسيين، أدباء ومؤرخين، علماء نفس واجتماع وسياسة، ومتحدثين رسميين عن مؤسسات الدولة ولم يكن هناك غيرى من المعنيين بالدراسات الفلسفية وتحليل الخطابات).

وقد استهلها «الدكتور مصطفى الفقي» - بمفاده - يخطئ من يعتقد بأن رسالة المكتبة التثقفية التنويرية بمعزل عن قضايا الرأي العام، فرسالة المكتبة وبرامجها التي ترمى إلى: إحياء النفيس وإبرازه وتجديد الخطابات وتفعيلها، وتطوير المشروعات وتحديثها ولا يمكن أن ينسيها أو يبعدها عن مقصدها وغايتها الرئيسية، ألا وهى تثقيف العقل الجمعي وتوعيته ونقض كل الآراء الجانحة والجامحة، التى تهدد أو تضلل أو تزيّف مشخصاتنا وهويتنا، وفى هذا السبيل دأبت المكتبة على عقد الندوات الفكرية مع صفوة الخبراء والعلماء والمفكرين والمعنيين بالقضايا المطروحة. وها نحن اليوم نناقش قضية الشائعات التي أضحت سلاحًا تستخدمه أعداء البلاد للنيّل منا ومن استقرارنا وأمان أمتنا وتحول بيننا واستكمال السير إلى الأمام نحو الإصلاح، وإعادة البناء والنهوض بالمجتمع ورقيه. علمًا بأن الكذب الممنهج أضحى نهجًا له أسس وقواعد، يجب التعرف عليه ودراسته، الأمر الذى يمكننا من التصدى إليه ومجابهته، وهذا ما سوف يُستمع إليه بشيء من الإيجاز في كلمات الأساتذة الحضور.

والحق أنى استفدت الكثير من الكلمات التي تناولت حرب الشائعات والأكاذيب الدائرة.

*   *   *

قلت إن الندوة كانت ثرية بمتحدثيها ومعارفهم وتعقيباتهم، فحَدثنا أحد الحضور عن مدى خطورة الأكاذيب التي تُحَاك لتبديد استقرار وأمن وتماسك المجتمع المصري، وذكر أن قوتها تفوق الحرب التقليدية بعشرات المرات، وذلك لسرعة الوصول إلى مراميها بخطوات علمية وتقنية ممنهجة، قد تدربت عليها أجهزة المخابرات المعادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطالما استخدمها ساسة الغرب في منافستهم الانتخابية، فقد قيل على «باراك أوباما(١٩٦١م- إلى الآن)» من قبِل خصومه السياسيين أنه ليس أمريكي المولد، وبالتالي لا يحق له الترشح لمنصب الرئاسة الأمريكية، وأشُيع أن الطائر الغارق في لُجة من البترول الذى ظهر على شاشات القنوات التليفزيونية وصفحات الجرائد والمجلات أثناء حرب الخليج -غزو العراق للكويت-، تلك الصورة التي علق عليها المحررون أنها من جراء إشعال «صدام حسين (١٩٣٧م-٢٠٠٦م)» لآبار البترول في الكويت.

(وقد ثُبت بالبرهان أنها مجرد Fake News) شأنها شأن الصور والتسجيلات المزيفة التي طالما أذاعتها القنوات المغرضة لتهييج الرأي العام وإحداث الفوضى، وذلك بتقنيات (الفيديولوجيا) والناطق الآلي.

ثم تَفضّل عالمٌ آخر فبيّن لنا الفارق بين الكذب النسقي الممنهج، والشائعة والأحداث المفتعلة والوثائق المزورة والصحف الصفراء والأخبار الموجهة المُصاغة على نحوٍ مثير للريبة والشك. فلم يعد الكذب رذيلة أو جريمة أخلاقية، بل أضحى جناية معرفية ترمى إلى طَمس الحقائق وتزيّيف الواقعات، وإيهام الذهن وخداع الحواس، متخذةً من المنطق سبيل لوضع المغالطات (مقدمة صحيحة يحمل عليها أخبار مغلوطة وإجراء عملية إخراج سينمائي مصحوب بقراءة، خاصة للخبر أو الحدث أو الواقعة)، وبيّن بأن نحو ٥٠٪ من هذه الأكاذيب تَنتشر على صفحات قنوات ومواقع التواصل الاجتماعي، وأن أيّسَر السُبل للتصدي لها هو إعداد فريق متخصص لتحليلها وفضحِها فيما لا يزيد على ثلاثين دقيقة من نشرها، وإلا فقدت مصداقية الرد أو التصدي، أما تجاهلها أو ارتجال الرد عليها سوف يُزيد من انتشارها ويؤكد حدوثها.

وأكد عالم ثالث، أن الإعلام في إمكانه أن يُبادر لتحصين الرأي العام ضد هذه الحرب، وذلك عن طريق المصارحة والإعلان عن كل ما يدور من مشروعات وقرارات وأزمات وإخفاقات وأحداث وواقعات ونجاحات واحتياجات، وذلك في مُتَنفس من الصدق والحرية، الأمر الذى يَسِد كل المنافذ أمام هذه المخططات. ذلك فضلًا عن تطهير أجهزة الدولة ذات الصلة للأمور الحياتية للرأي العام من الأبواق التي تردد الشائعات أو تُسهم في صناعة الأحداث الكاذبة أو الوقائع المُلفقة. والتزام الحكومة بالنهج العلمي في الرد على الأخبار الكاذبة، وليس مصادرة الصحيفة أو إقصاء المتحدث، فمثل ذلك القمع أو الحل الأمني يشكك الرأي العام في مصداقية أصحاب القرار.

وأخيرًا، قَدمت العديد من الخبيرات المعنيات بالتخطيط والمتابعة، وإدارة الأزمات أكثر من تصور لمخاطبة الرأي العام التابع بمختلف طبقاته لمحاربة الشائعات والتصدي لفلسفة الكذب الممنهج، بداية من الخطابات المباشرة من المسئولين، إلى القوة الناعمة التي يلعبها الفن بكل أشكاله، أضف إلى ذلك الاهتمام بإصلاح أحوال الأسرة باعتبارها اللَبنة الأولى للمجتمع تلك التي لا يستقيم البناء دون سلامتها ورفع المعاناة عن كاهل المعوزين، كما أكد أن ذلك الغزو الثقافي لا يمكن محاربتِه بالمنع أو الحجر؛ فإن كل من يفكر في ذلك يدعم هذه الأكاذيب والشائعات، بل ويؤكدها شأنه في ذلك شأن الذى يُهمل أو يتقاعس في الرد عليها. واجتمع الحضور على أن توعية الرأي العام السبيل الأرشد لإحباطها، وأن ذلك لن يتحقق إلا بتعاون كل أصحاب الرأي والمثقفين الغيورين على بلدنا، وذلك بإعادة حبل الثقة، وتنقية نهر الحب المتدفق بين الرأي العام القائد والرأي العام التابع.

ولا يؤخذ على هذا الملتقى سوىَ أمرين: أولهما غيبة الحديث عن الكتائب الإلكترونية ودورها والتشريعات المزمعة لعقوباتٍ رادعة لكل من يسهم بطريق مباشر أو غير مباشر للترويج لهذه الشائعات أو اصطناعها.

وثانيها خلط بعض المعلقين بين الخطاب الديني الذى لا يخلو من الاجتهادات الخاطئة والخطاب الإلهى الذى نطق به الوحى، وأخطأ بعض المجتهدين في تفسيره أو تأويله أو استنباط الأحكام منه، شأن الذين ادعوا «بأن الخليفة أو الحاكم هو ظل الله على الأرض وأن طاعته مطلقة وفرضٍ على العباد وأن المسلمين المعاصرين يحتاجون للفرقة الناجية التي تقوّم سلوكهم».

والجدير بالذكر، في هذا السياق أن جميع تلك الرؤى والمعلومات والبيانات كانت تُلقى على الحضور باللغة التي طالما افتقدنها في مؤتمراتنا وندواتنا، أعنى الدقة والوضوح في العرض والحرية والصدق في شرح وجهات النظر والرؤي.

ما أتمناه، أن تَكثر هذه اللقاءات فى شتى أنحاء مؤسستنا المعنية بالتثقيف والتوجيه

 

د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم