قضايا

"العلمانية" العراقية ودنيوية المستقبل

ميثم الجنابيإن التجارب الناجحة للدنيوية (العلمانية) في كل مكان تبرهن على أن إمكانية تحقيق نموذجها الوطني أو القومي لا يمكن أن يكون نتاجا لإغراءات أيديولوجية أو عقائدية أيا كان نوعها. وذلك لأن الدنيوية منظومة. ومن ثم فإنها وحدة متراكمة ومتكاملة في بناء الدولة والأمة والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والثقافة والقيم. وبالتالي فإن تحويل شعار العلمانية (الدنيوية) إلى جزء من مؤامرات السياسة الحزبية ومغامراتها، لن يؤدي إلى إلا نتائج معاكسة. وفي التجربة الصدامية خير مثال. فقد تحولت "العلمانية" المتطرفة إلى سلفية متطرفة. وذلك لأنها لم تكن "علمانية"! والشيء نفسه يمكن قوله عن شعار الحركات والأحزاب التي تحاول توظيف هذه الفكرة المتسامية إلى جزء من مغامرات الحياة السياسية المتخلفة.

وقد كشفت بضعة أشهر من تشكيل اول حكومة تحت الاحتلال، عن خواء هذا الإعلان الذي ارتفع عاليا في سماء الصخب الأيديولوجي الذي رافق صراع "القوى العلمانية" (من شيوعيين وديمقراطيين وبعثيين منشقين ووطنيين عراقيين وقوميين أكراد) ضد "التيار الديني" (الائتلاف الشيعي)، أي حلفاء الأمس "الإستراتيجيين" في "النضال" ضد الدكتاتورية الصدامية، والشركاء في "مجلس الحكم الانتقالي" و"الحكومات المؤقتة"!! ويكشف هذا التحول عن أن الفكرة الدنيوية بين هذه الاتجاهات هي مجرد غطاء أيديولوجي أو شعار سياسي مزيف، أي انه لم يكن أكثر من طعم الاصطياد في الماء العكر. من هنا انفراط عقد الاتفاق بين هذه "القوى العلمانية" في مواجهة "التيار غير العلماني" (الائتلاف الشيعي). والسبب بسيط للغاية، وهو أن "العلمانية" كانت شعارا محكوما بنفسية الغنيمة. وقد كشف الصراع الخفي والعلني للحصول على مكاسب في وزارة ما بعد الجعفري مضمونه الفعلي!

إن هذه النتيجة ليست "خاتمة" التعرية الفعلية للادعاءات الأيديولوجية والمغامرة السياسية، وذلك بسبب كمية ونوعية الخراب الهائل في بنية الدولة والمجتمع والثقافة والعلاقات الاقتصادية والقيم، وانعكاس كل ذلك في بنية الأحزاب وطبيعة العلاقة بين قيمها الخاصة (الحزبية) والعامة (الوطنية). إذ لا توجد في ظروف العراق الحالية أحزابا وطنية عامة بالمعنى الدقيق للكلمة. فهي مازالت جميعها مؤدلجة بمعاييرها الحزبية الخاصة أو العرقية أو القومية الضيقة أو الطائفية أو الجهوية. ولا يمكن لهذه الصفات أن ترتقي بالحزب والحركة السياسية إلى مصاف الدنيوية الفعلية. وذلك لأن حقيقة الدنيوية هي منظومة متكاملة للحرية والعقلانية في بنية الدولة والمجتمع والثقافة.

إن لهذه الظاهرة تعقيداتها الكثيرة والكبيرة في تاريخ العراق الحديث. لكن اتجاهها العام يسير صوب الإقرار بضحالة القيمة الأيديولوجية للشعار السياسي ما لم يختمر في مجرى المعاناة التاريخية، وما لم تسنده الأغلبية الاجتماعية.

إن العراق بحاجة جوهرية للفكرة الدنيوية! غير أن المهمة النظرية (والإستراتيجية) الكبرى تقوم في رؤية آفاقها وكيفية تأسيسها والقوى القادرة على تحقيقها الفعلي في ظروف الانتقال إلى الديمقراطية. ويمكن رؤية مكونات هذه الآفاق واتجاهها المجرد في التجارب الناجحة للأمم الراقية بهذا الصدد. والقضية هنا ليست في رقي الأمم أو نجاحها، بقدر ما أنها جزء من تطور المجتمع والقومية وتكامل الأمم في العالم المعاصر ومستقبله. ومع أن التجارب التاريخية الكبرى للأمم هي تجارب خاصة، أي ذاتية، إلا أنها تتمتع بقدر ضروري من القيمة المعنوية والمجردة بالنسبة لتأمل المستقبل. وضمن هذا السياق يمكن فهم أهمية وقيمة التجارب الأوربية بالنسبة للعالم العربي والعراق في الحالة المعنية. وتشير هذه التجارب إلى أن تحقيق الدنيوية هي عملية شاقة ونتاج صراع اجتماعي وسياسي وفكري تحققه الأغلبية الاجتماعية من خلال فرض شروط تصوراتها وأحكامها. بمعنى "إجبار" الجميع على العمل والتفكير بقواعد الأغلبية. فهي العملية الوحيدة القادرة على تحويل مختلف بواعث الصراع وقواه السياسية إلى مكونات فاعلة في تعميق وتوسيع الرؤية الاجتماعية.

بعبارة أخرى، إن تحقيق الدنيوية يقترض، كما هو الحال بالنسبة للديمقراطية والعقلانية وغيرها، تذليل نفسية وذهنية الأقلية المغلقة. ويمكن رؤية البراعم الأولية لهذه العملية في مجرى الصراع العنيف ما بعد سقوط الصدامية وحتى اليوم. فقد كانت بدايتها زوبعة من هجوم الأقليات القومية والدينية والسياسية المتشكلة حديثا على السلطة و"مركز القرار". لكنه هجوم كان يحدده في الواقع، وبصورة غير مرئية، ثقل الأغلبية العراقية المغيبة لعقود طويلة. فقد أفرزت هذه العملية في بدايتها صعود التكتل الشيعي والكردي. ولاحقا جرى "استدراج" "السنة" إلى "العملية السياسية". كما أنها العملية التي أرجعت القوة الكردية خطوة إلى الوراء، تماما بالقدر الذي استثارت الطائفية السياسية السنيّة وفعّلت قوتها. كما أنها أهلكت القوى الصغيرة المتشكلة في عالم "الانتعاش الديمقراطي". وظهرت قوة هذا التفعيل في مجرى الصراع من اجل "إسقاط الجعفري" وتشكيل الوزارة الجديدة. وسوف تستمر هذه الصيغة الدائمة الوحيدة للمغامرات والمؤامرات. حيث نرى طبيعة ونوعية الاستقطابات المتجددة، والتي ترمي كل مرة بركلة قاسية "الاستحقاق الانتخابي" ليستعيض عنه "بالاستحقاق الوطني". وهو شعار أيديولوجي لا يمكنه الفعل بصورة واقعية وعقلانية، لأنه لا يمكنه الامتلاء بالواقعية والعقلانية ما لم يختمر في نفسية وذهنية التجارب المتراكمة للأغلبية.

فقد كان شعار "الاستحقاق الوطني" الصيغة الموازية لشعار "العلمانية"، لأنه حاول أن يجعل منه شعارا في الصراع من اجل "المحاصصة". وهنا تكون القوى قد قطعت الشوط الضروري الأول للإقرار بواقع الأغلبية والأقلية، رغم بعض مظاهرها المشوهة. من هنا انفراط "الوحدة المبدئية الصلبة" بين القوى العرقية الكردية و"القومية العربية" والشيوعيين! لقد اجتمعوا بمعايير نفسية وذهنية الأقلية وافترقوا بها أيضا. وبها أيضا يحاولون كل مرة الدخول من جديد إلى الوزارة! وهي التجربة التاريخية الأولى والكبرى لتذليل نفسية الاستعمال الأيديولوجي للأفكار الكبرى. وفيها يمكن رؤية آفاق العملية الفعلية للاستقطاب الاجتماعي اللاحق وتحقيق الأفكار الكبرى بما في ذلك فكرة الدنيوية.

فاتجاهها العام سوف يسير عبر إرجاع الأقليات القومية والطائفية والجهوية ومختلف نماذجها التقليدية إلى حدودها الطبيعية باعتبارها أقليات قومية أو طائفية أو جهوية. من خلال ذلك سوف تدرك هذه القوى حدود إمكاناتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وسوف تكشف هذه العملية عن قوة الأغلبية باعتبارها قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية وليست شيئا آخرا. فالصفات الأخرى العالقة بالأغلبية هي صفات عارضة في مجرى بناء الدولة الشرعية. إذ يكفل هذا الطريق للجميع إمكانية تذليل فكرة الأقلية الضيقة والأغلبية المستبدة. بمعنى الطريق الواقعي والعقلاني لبناء الواقعية والعقلانية، ومن ثم الطريق الوحيد لتأسيس الدنيوية الثقافية والشرعية وليس الأيديولوجية المزيفة.

من هنا فإن مفارقة الدنيوية في ظروف العراق المعاصر تقوم في أن حملتها الفعليين من وجهة نظر التاريخ والمستقبل ليست "القوى العلمانية" المدعية، بل "القوى الإسلامية" (الشيعية)!! إذ لا عِلم حقيقي ولا عَلم عراقي عند أدعياء "العلمانية"، بسبب طبيعة الخراب الشامل للدولة والمجتمع والثقافة، وطبيعة الأزمة المرّكبة في الفكرة الوطنية (العراقية) والقومية (الجزئية). وفي ظل ظروف من هذا القبيل لا يمكن لأية قوة سياسية ادعاء تمثيل الفكرة الدنيوية أو غيرها من الأفكار الكبرى. وذلك لأن جميع الأفكار الكبرى في ظروف العراق الحالية هي في صيرورة جديدة. لهذا لا يمكنها أن تكون حكرا لأحد، كما انه لا معنى للادعاء بتمثيلها التام والشامل. أما تمّثلها الحقيقي فهو تجسيدها في منظومة متكاملة للدولة والمجتمع والثقافة والعلم. وهي عملية ترتبط من الناحية التاريخية بانجاز مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية والنظام الشرعي، ومن الناحية الاجتماعية بصيرورة الأغلبية القادرة على الاندماج الطبيعي بالعملية التاريخية المذكورة أعلاه. فهي العملية الوحيدة القادرة على تذليل الأبعاد الجزئية (العرقية والطائفية والجهوية) في الصراع من خلال رفعها إلى مصاف العام (الوطني العراقي).

إن الارتقاء إلى مصاف الوطنية العراقية الحقيقية هي إحدى المقدمات الضرورية والأولية في ظروف العراق الحالية لتأسيس الدنيوية. وفي مجراها فقط يمكن إيجاد النسبة المعقولة والمقبولة بين الدين والدنيا. ويمكن لهذه العملية أن تتكون عند القوى الاجتماعية الناشئة في ظل النظام الديمقراطي ومؤسسات الدولة الشرعية، أي القوى المتكونة في مجرى الاستقطاب التدريجي للقوى العقلانية عند الجميع من اجل صنع أغلبية تعي قيمة الدنيوية، بوصفها الصيغة التي تحفظ تكامل الجميع بمعايير المستقبل. أما الطرق الأخرى فإن مصيرها التقهقر والفشل. وذلك لأنها ليست فقط ضد واقع وديناميكية التحول التاريخي المعاصر في العراق وعلى الصعيد العالمي، بل ولأنها ضد منطق العقلانية والحرية بوصفه أسلوب الاستقرار والتقدم الاجتماعي الشامل. وهي عملية تتصف بقدر هائل من التعقيد، كما نرى ملامحه ومضمونه لحد الآن. لكنها مع ذلك يتبقى ظاهرة انتقالية لا تخلو من دموية واحتراب لا عقلاني بسبب تخلف الجميع وانهيار قيم الواقعية والعقلانية والنزعة الوطنية العراقية.

***

ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم