قضايا

سلطانُ الأمَّة وانتخاب أهل الهِمَّة

عصمت نصارلم يكن من اليسير على قادة الرأى في مصر خلال القرن التاسع عشر، الحديث عن سلطة الشعب وحقوق الأمة في تقرير مصيرها وترديد كتابات الفلاسفة الغربيين عن العقد الاجتماعي والحياة الدستورية وضرورة خضوع الحاكم لإرادة الشعب، وذلك في ظل استبداد الباب العالي العثماني، والحكم الملكي لأبناء محمد على الذين كانوا يعتبرون مصر وسية وميراثًاً شرعيًا ورثوه جيلًا بعد جيل، ولعل الحوار الذى دار بين « أحمد عرابي (1841م -1911م)» و«الخديوى توفيق (1852م -1892م)» يكشف عن تلك الصورة الجائرة التى كانت تعيشها مصر آن ذاك؛ الأمر الذى دفع قادة الفكر من أمثال «رفاعة الطهطاوي» و«على مبارك» و«حسين المرصفي» وغيرهم إلى تصنيف الخطابات المُشَّفرة، إما في صورة كتابات مترجمة أو خطابات مُلغِزة اتقاءً لغضبة العثمانيين أو الجالسين على كرسي الولاية في مصر.

وقد حاول «حسين المرصفي» في كتابه «رسالة الكلم الثمان» إيجاز ما يريد قوله للشباب بشأن المقصود بالحكومة والعدل، والسياسة، والحريّة. متخذًا من الإيجاز والاقتضاب والإلغاز والتشفير أدوات لتوصيل المعانى والمفاهيم المقصودة، وقد اجتهد في ضرب الأمثلة على مقاصده من التراث الإسلامي دون التصريح بتأثره بكتابات التنوريين الأوروبيين، ولعل حديث «جان جاك روسو (1712م - 1778م)» عن سلطة الأمة هو الذى جعله يتجاهل تمامًا السلطة الحاكمة بل يجعلها مجرّد وظيفة لتسييس شئون الشعب، فالحكومة لا تحكم باسم الملك بل إن الملك والحكومة يعملان من أجل خدمة الأمة.

فقد ذهب «المرصفي» إلى أن الحكومة هى الآلية المنظمة بين المنافع العامة والمنفعة الخاصة، وهى التى تنفذ الشرائع والقوانين التى اتفق على صلاحيتها العقل الجمعي، بداية من تصريف الأعمال من صناعة وتجارة إلى تهذيب العوائد والأعراف الاجتماعية والآداب الأخلاقية، وهى كذلك التى تضبط العلاقة بين طبيعة الأعمال والأجور، بشكل يرتضيه القائمون بالأعمال من جهة ويفي باحتياجات العيش من جهة أخرى، «فالحكومة قوة تُحَصِل من اجتماع طائفة من الأمة لإمضاء مقتضيات الطبيعة على وجه يقرب من رضاء الكافة .... فربط قسمة الأرزاق بالأعمال الفكرية والبدنية، وهو معنى الحكومة».

ومن واجبات الحكومة أيضًا حفظ الأمن وتطبيق العدالة التى تمنع سطوة الأغنياء على الفقراء وظلم أصحاب المناصب للعوام واستغلال أرباب النفوذ للشعب، فإنّ مثل هذه الأعمال تتنافى مع ما ينبغي للحكومة فعله حتى لا يثور الشعب عليها ويجحد ولاءه لها، ويأبى الانصياع لأوامرها، ويقول «فإذا فهمنا معنى الحكومة الحقة عرفنا أن الغرض إنما هو حماية الوطن ممّن يريده بسوء وتأمين أهله من تعدى بعضهم على بعض وإعانة كلٍ على حفظ حقه والانتفاع به، حتى يظهر في الجميع السرور والفرح والرضا. وكما قيل أربعة تحتاج لأربعة، السرور للأمن، والحسب للآداب، والعقل للتجربة، والغنا للتدبير، وذلك أمر ظاهر بيّن، والكلام فيه إنما هو لجمع متفرقة، فالحاصل أن أركان حسن اجتماع الأمة التى لا يمكن بفقد واحد منها أن يكون الأربعة، الأمن والأدب والتجربة يعنى المعارف والعلوم، إذ هى نتيجة التجربة والتدبير، فإذا لم يكن أمن ووقع الناس في الفزع والخوف على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ولم يكن أدب، فاحتقر الصغير الكبير، والجاهل العالم، ولم يكن للمعارف تحصيل وعطب العقول وزاد الإسراف والسفه».

والجدير بالإشارة أن مفكرنا قد أكد على ضرورة توخى الحذر في اختيار القائمين على الأمن من رجالات الشرطة، وذلك لخطورة وظائفهم التى تقتضى النزاهة والشدّة والحسم في الفصل بين المتخاصمين بغض النظر عن مكانتهم أو مناصبهم، فرجال الشرطة هم يد المجتمع الباطشة بالعُصاة والمجرمين والفاسدين والخارجين عن القانون، وهم أيضًا اليد الحامية لأصحاب الحقوق من الضعفاء والعوام.

كما أوْصَى بضرورة النظر لرفع رواتبهم لإعانتهم على كريم العيش حتى لا تفسد أخلاقهم من جهة وتأمينًا لهم من المهالك والإخطار التى يتعرضون إليها أثناء أداء عملهم من جهة أخرى، ويقول «أمّا العسكر فالطائفة التى هى بأدل مكان من عناية الأمة، تنتخبها من أهل الشدّة وسلامة الأبدان وتمام الجسامة، لتكون عليها سورًا يقيها طوارئ الأسواء وبينها حجازًا يمنع سفاءها من تعدى بعضهم على بعض ...؛ فإذا تعيّنت الأصول التى بها يتمكن الجميع من وصوله لحصته وبلوغه لحاجته وارتفاق بعضهم بعض، وجب أن يلاحظوا في حركاتهم وأعمالهم ليأمنوا غوائل الحوادث الناجمة فيهم والهاجمة عليهم، وذلك وظيفة طائفة العسكر».

وينتقل إلى القضاة موضحًا أن الأمانة في اختيارهم ليست بالأمر اليسير، وذلك لأنهم دون غيرهم يطبقون ميزان العدل بين جميع أفراد الأمة حكامًا ومحكومين، ومن ثمَّ يجب أن تتوفر فيهم الإحاطة والدراية بأصول القوانين وكيفية تطبيقها، بالإضافة إلى الفطنة والذكاء والحنكة التى تمكنهم من استنباط الحقائق واستقراء الواقعات، وأن يتحلى جميعهم بجميل الفضائل التى تسمو بهم إلى درجة خلفاء الأنبياء والأتقياء الذين لا يخافون في الحق سطوة متجبر ولا حاكم ظالم، ويقول «يملأون العيون جلالة والقلوب مهابة، بحيث تضعف قوة المبطل ويهم بالرجوع عن باطله وتشتد قوة المحق ويزيد أمله في الوصول إليه، لا يكون في مجالسهم لغط ولا صخب ولا حركات فاسدة ولا كلمات باردة».

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم