قضايا

كورونا والتأويلات الخاطئة لآيات سُورة المُدَّثر

محمود محمد عليمنذ العصور الأولي والإنسان ميال إلي تفسير الوقائع والحوادث بالخرافات والأساطير، فكان للإغريق في كل شاردة إله، ولكل ظاهرة طبيعية متحكم، وكذلك الحضارة المصرية القديمة، وحضارة وادي الرافدين، وحضارة الهنود، والحضارة الصينية، حتي العرب، فالجن في وادي عبقر تُلهم الشعراء، والغول حاضر في كل قصة شعبية، حتي جاء الإسلام، وضبط معايير الحياة، ونقلها من الخيال إلي الواقع، ومن الخرافة إلي الحقيقة، وفسر النص الشرعي كل ظاهرة تفسيراً منطقياً .. لكن بعض العقول عمدت إلي نشر البدع والخرافات، وكثيراً منا يساعدهم بإعادة نشر أفكارهم بغير قصد في مواقع التواصل الاجتماعي .

وبدلاً من سؤالهم للعلم تراهم يعيدون نشر كل ما يستحسنون، ويظنونه صحيحاً، لمجرد أنه قرأ ربطاً ساذجاً بين مستجدات الأحداث وبعض آيات القرآن، فكما ربط بعضهم سورة "التوبة" بتفجير برج التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقالوا سورة "التوبة" في الجزء الحادي عشر، وهو يوم انهيار البرج، ورقم سورة التاسعة وهو التوقيت الذي وقع فيه الانهيار وهكذا..

نفس الموضوع يتكرر الآن مع سورة المدثر وفيروس كورونا، وقبل أن نفند التأويلات التي حاولت الربط بين سورة المدثر وحادث كورونا، فإنه يمكن القول بأن تفسير القرآن لا بد أن يكون معتمداً علي أسس ثابتة، ومن هذه الأسس أن يكون تفسير القرآن بالقرآن، أو يكون مروياً عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، لأنه هو المبين للقرآن لقوله تعال " وأنزلنا إليك الذكر ولتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون "، أو يكون مأثوراً عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، أو التابعين، أو يكون رأياً لأحد علماء الأمة الذين ثبت علمهم وورعهم، ويكون قد استمد هذا التفسير من اللغة العربية ومقاصد الشرع، فهذه أصول التفسير التي تعلمناها وقرأناها ووعيناها: إما المأثور أو الرأي المقبول شرعاً، ولم يُثر هذا التفسير بهذا المعني عند علماء الأمة سلفاً ولا خلفاً، ومادام الأمر كذلك، فإنه من خيانة الدليل، أن نستدل به في غير موضعه، أو أن نفهمه علي غير فهم رجال التفسير العظام، فسورة المدثر تحدثت عن أموراً عامة، مثل الطهارة، والصلاة، والصدقة، وحذرت من الكفر والتكذيب، والخوض في الدين بلا علم، فينبغي فهمها علي عمومها، كما تحدثت السورة كذلك عن أموراً خاصة كالملائكة، فينبغي تفسيرها علي حسب السياق الوارد فيها مع الأخذ في الاعتبار أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذاك لكي لا تفقد الآيات العبرة والعظة المستمرة في القلوب.

وإذا تأملنا تلك التأويلات التي ربطت بين سورة المدثر والفيروس، وجدنا أخطاء وكذب وتقول علي القرآن؛ فمثلاً قالوا: .. في سورة المدثر، قال الله تعالي عليها (لا تبقي ولا تذر، لواحة للبشر، عليها تسعة عشر)، وتعني كما يزعمون إشارة إلي اسم الفيروس covid19 الذي سيظهر في عام 2019 .. وزعموا أيضاً أن" آية (وجعلت له مالًا ممدودًا وبنينا شهودًا)، تشير إلى الصين التي يزيد سكانها على مليار و300 ألف نسمة (بنين شهوداً)، وهي إحدى أقوى اقتصادات العالم (مالًا ممدودًا) .. كما زعموا أن هذا الفيروس يحتاج إلي توعية الناس وانذراهم وهي " قم فأنزر" .. وعلاجه ذكر الله وعي كما في قوله " وربك فكبر" .. وعلي الناس التعقيم والتطهير، وهي كما جاء في قوله " وثيابك فطهر" .. ويجب الهجر الصحي، وهي كما جاء في قوله " والرجز فأهجر" .. لم يكتفوا بذلك، بل زعموا أن سورة المدثر ذكرت أسباب انتشار كورونا، وهي كما في قوله تعالي " ترك الصلاة ومنع الزكاة " ما سلكم في صقر قالوا لم نكن من المصلين ولم نكن نطعم المسكين وكنا نخوص مع الخائضين ... وفيما يتعلق بالألفاظ التي ربطوها بالفيروس؛ قولهم إنّ التسمية الشرعية والحقيقية له هي (الناقور) كما في الآية: (فإذا نقر في الناقور). وأن كلمة (ناقور) مرادفة للفيروس المستجد.. إلي آخر هذه العبث ..

هذا هو باختصار ما ذهب إليه هؤلاء، وهنا نود أن نقول: إن سبب نزول سورة المدثر، يُفهم مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "جاورت بحراءَ، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً...، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني، وصُبُوا عليّ ماءً باردًا . قال: فدثروني وصَبُوا عليّ ماءً باردًا، قال: فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر.

أمّا ما يتعلق بسياق الآيات فقد جاء مرتبًا ترتيباً دقيقاً؛ يتضمن أمرًا بالإنذار وبالصبر، يتبعه الحرص على نقاء السريرة، والاستعداد لمواجهة الأعداء، ثم تحذير هؤلاء الأعداء وتخويفهم، وبعد ذلك يظهر مشهدان:- مشهد أهل النار، ومشهد أهل الجنة، فقد لخصت السورة القصة من أولها إلى آخرها منذ أن قال كلمة (قُم) إلى أن استقرّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار. فلا شيء في السورة مما يزعمون.. وفيما يتعلق بالألفاظ التي ربطوها بالفيروس مثل كلمة (ناقور) المرادفة كما يزعمون للفيروس المستجد .. فلا أدري على أي أساس قالوا بترادف كلمتي ناقور والفيروس، والترادف في اللغة يعني: اتفاق كلمتين أو أكثر في المعنى واختلافهما في المبنى، مثل الجود والسخاء، والنور والضياء.. وكلمة ناقور كما جاء في لسان العرب: "الصُور الذي ينقُر فيه المَلَك، أي ينفخ "، والنَّاقورُ: اسم من أسماء الآلة؛ من نقَرَ على وزن فاعول مثل ساطور. وذكر المفسِّرون أنَّ الناقور هو الصُّور الذي يُنفخ فيه يوم القيامة. فقوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور)، مثل قوله: (فإذا نفخ في الصور). فأين الترادف الذي يدّعون بين الكلمتين؟، فالأولى تدل على بوق، والثانية تدل على مرض، وهي كلمة غير عربية.

كما تحدثت السورة كذلك عن أموراً خاصة كالملائكة، فينبغي تفسيرها علي حسب السياق الوارد فيها مع الأخذ في الاعتبار، أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وذاك لكي لا تفقد الآيات العبرة والعظة المستمرة في القلوب، وإذا تأملنا تلك التأويلات التي ربطت بين سورة المدثر والفيروس، وجدنا أخطاء وكذب وتقول علي القرآن منها قوله: إن السورة تتحدث علي الفيروس سيظهر في عام 2019 في قوله تعالي لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر، وهذا خطأ لأن المقصود بالعدد هنا هم الملائكة خزنة النار، وليس الفيروس المزعوم، كما قال المفسرون .. قال ابن كثير في تفسيره يقول تعالي:" وما جعلنا أصحاب النار "؛ أي: خزنتها، " الملائكة "، أي: (زبانية) غلاظاً شداداً، وذلك رداً علي مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة، فقال أبو جهل يا معشر قريش، أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ .. فقال الله:" وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " .." وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ".. أي: إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس، " ليستيقن الذين أوتوا الكتاب "، أي: يعلمون أن الرسول حق، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة علي الأنبياء قبله. ويزداد الذين أمنوا "، أي: إلي إيمانهم بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلي الله عليه وسلم .. إذن الآية تتحدث عن أمراء خزنة النار من الملائكة لأن عددهم تسعة عشر، أما خزنة النار من الملائكة فعددهم أكثر من أن يحصي .. لكن ضرب الله هذا العدد مثالاً ليكون فتنة للمشركين المعاندين .. ثانياً يربط المدعون أن وجود الفيروس في الصين وبين قوله تعالي " ذرني ومن خلقتك وحيداً وجعلت له مالاً ممدودا وبنين شهودا " المهم أن الآية هنا تتحدث عن بلد هي ثاني قوة اقتصادية في العالم والبلد الأولي عالميا من حيث الكثافة السكانية.. وهنا نتساءل: ماذا لو بدا الفيروس في أمريكا ألا يصدق عليهم هذه الآية أيضاً فأموالهم ممدودة بل هي لقوة الاقتصادية الأولي في العالم، ثم إن الآية لم تتكلم عن كثرة الولد، أي لم تُشر إلي العدد السكاني، بل نصت علي كثرة المال، لكن قالت عن الأولاد وبنين شهودا أي وله بنين حاضرين معه لا يغيبون عنه ولا يسافرون في التجارات وهذا من تمام النعمة علي الإنسان أن يكون أولاده في حضنة مقيمين معه.

وفي نهاية هذا المقال نقول: إن القرآن نزل لسان عربي مبين.. لا نحتاج إلي لي أعناق النصوص .. ولا التنطع.. ولا أن نحمل إلي ألفاظ القرآن، ما لا تحتمل.. وإلا صار القرآن ألعوبة في يد كل جاهل .. يفسره وفق أهوائه وضلالة .. إنه من المفروض لكل من يحاول أن يصل إلي مثل هذا الادعاء أن يردها ويلقي بها عرض الحائط .. ولا يجب نشرها عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي.. وأن ننبه مرسلها إلي خطئه .. فلا تقل ما تفهم ولا تنشر ما لا تعلم وتصدق ما لم تتوثق..  فمتى يعلم هؤلاء المشعوذون والحمقى أن العالم اليوم يسير بالعلم والتخطيط العقلاني للأمور، وهذا لا يتعارض أبدا مع مبادئ ديننا ومقاصده الكبرى.. هذا الدين له أهله وعلمائه .. فأسالوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون!!.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم