قضايا

كيف غيرت كورونا طقوسنا وشعائرنا الدينية؟

محمود محمد علييقترب شهر رمضان المبارك في ظروف يَعيشها جيلُنا للمرّةَ الأولى، وفي وسط الشوارع الخالية، ودُور العبادة المقفَلة، والأسواق المقفِرة، يبدو رمضان وكأنَّه يَهجُرنا، فكيف لنا أن نَعيشه وكلُّ شعائره محجورة، ولا قدرة على التَّبضُّع اليوميِّ لشراء أطايب موائد الإفطار، وممنوع علينا الاجتماع بالأحبّة، وممنوع علينا صلاة التراويح في الجوامع خلال الشهر الفضيل، وممنوع علينا الاحتفال بعيد الفِطر كما اعْتَدْنا، ورُبَّما ممنوع معايدة الأطفال بالعِيديّة الماليّة بسبب ذاك الكائن المجهريّ "كورونا"! .. وكأنه يقول المثل: " مرغم أخاك لا بطل" .. لكن أليست البطولة في درء المرض وشبح الموت مهما كانت الإجراءات؟.. وهل يهتم الدين بالقشور في دور العبادة ولا ينظر إلى جوهر الايمان؟.. وهل العلاقة بالله هي طقوس وتكرار لتلك الطقوس فقط؟

لقد تسبب فيروس كورونا المستجد في معظم دول العالم في تغيير العادات والطقوس، فبعد فترة من الترقب تراوحت بين الانتظار والارتباك، استسلم رجال الدين في العالم كله في نهاية المطاف للأمر الواقع؛ فها هو البابا " فرنسيس الأول " بدأ، في مشهد مثير، وكأنه معلق على أسوار الفاتيكان، وهو يحتفل بالقداس الكاثوليكي الرسمي الوحيد في كل إيطاليا، كما  ألغى البابا فرنسيس سر الاعتراف عند الكاهن، ويقول في عظته أمام الأساقفة:" فلتكن علاقتك مباشرة مع الله، أغمض عينيك بخشوع واعترف أمامه بخطاياك وعبر عن ندمك وتوبتك". فيما ألغى أساقفة الكنسية من مختلف الجنسيات المؤتمرات واللقاءات التي كانت مبرمجة قبيل انتشار الفيروس، كما أعلنت دولة الفاتيكان إغلاق كاتدرائية وساحة القديس بطرس أمام السياح حتى إشعار آخر من أبريل الجاري، إضافة الى الاحتفالات  التي كانت مقررة في بازيليك القديسة مريم،التي بنيت كنذر لانتهاء الطاعون الذي اجتاح المنطقة في القرن السابع عشر لكن أحد أساقفة ميلانو رأى في ذلك كمن ينظر إلى صورة موقد بدل من أن يجلس قربه، وذلك في إطار الاجراءات الهادفة إلى وقف انتشار فيروس كورونا المستجد.. لم يكن قرار الغاء الطقوس الدينية والاحتفالات بسيدة البشارة خياراً سهلاً، لكنه الوحيد لإنقاذ البلاد من انتشار الفيروس أو الموت المحتم.

وفي الشرق قررت الكنيسة القبطية في مصر بقيادة البابا تواضروس الثاني غلق جميع الكنائس وإيقاف الخدمات الطقسية والقداسات والأنشطة منعاً للتجمعات التي هي سبب رئيسي في انتشار فيروس كورونا.

وفي المملكة العربية السعودية تم لأول مرة تعليق الدخول إلى المملكة لأغراض العمرة وزيارة المسجد النبوى الشريف مؤقتاً، لتوفير أقصى درجات الحماية من فيروس كورونا المستجد لسلامة المواطنين والمقيمين وكل من ينوى أن يفد إلى أراضى المملكة، كما قررت السعودية أيضاً تعليق الدخول إلى المملكة بالتأشيرات السياحية للقادمين من الدول التى يشكل انتشار فيروس كورونا منها خطراً، وفق المعايير التى تحددها الجهات الصحية المختصة بالمملكة.

أما في إيران، فباتت مدينة قم، وهي أهم مركز للدراسات الشيعية في البلاد، مصدراً لإصابة الآلاف بالفيروس. كما رفض الكثير من آيات الله والقيادات الدينية الأخرى مبدأ الحجر الصحي، والنتيجة هي أن البلاد بأسرها وجدت نفسها في حالة حرب ضد المرض؛ فاضطرت إلي إلغاء صلاة الجمعة اليوم لنفس الأسباب، ويمثل هذا تقدماً فى الفهم، وتعاملاً حداثياً مع النصوص، وجسارة فى مواجهة الآراء السلفية المتدروشة التى تصر على الحرفية وإلقاء البشر فى التهلكة بأيديهم وعن طيب خاطر.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية أقفلت عديد الكنائس والمعابد اليهودية أبوابها، وذهبت كنائس كبرى في نفس المنحى، إذ قيدت كاتدرائية سانت ستيفن في فيينا عدد زوارها بشكل كبير .. وفي كوريا الجنوبية تجاهلت الطائفة المسيحية مناشدات متكررة للحكومة بتعليق التجمعات الدينية.. وفي إسرائيل فرضت الحكومة تقليل الزائرين على جميع معابد البلاد ومنعت تقبيل الأدوات المستعملة في طقوس العبادة، كما ألغى اليهود إحياء عيد المساخر "بوريم" الذي يشبه إلى حد كبير احتفالات الكرنفال. نفس القيود شملت مهرجان "هولي" الهندوسي للألوان الذي ألغي هذا العام لنفس السبب.

علاوة علي أن تفشي فيروس كورونا المستجد دفع اليهود والمسلمين إلى تغيير طقوس الدفن والحداد ؛ فقد وأوضحت وكالة "رويترز"، إنه في تل أبيب عادة ما يوارى المتوفي من اليهود الثرى في ثوب فضفاض وكفن دون نعش. أما الآن فيتم نقل جثة الميت بسبب مرض "كوفيد 19" لكي يقوم بتغسيلها أفراد يرتدون ملابس وقاية كاملة، ويتم بعد ذلك لفها بغطاء بلاستيكي محكم... وقبل الدفن تُلف الجثة بالبلاستيك مرة أخرى، ونقلت وكالة الأنباء "رويترز" عن ياكوف كيرتس أحد العاملين في منظمة شيفرا كاديشا، وهي الجماعة الرئيسية التي تشرف على دفن اليهود في إسرائيل: "المشاعر متباينة جدا.. لا ندري ماذا نتوقع. ولا نعرف كم عدد الموتى الذين سنتولاهم. المخاوف كثيرة"، بحسب رويترز.

أما فيما يخص دفن ضحايا فيروس كورونا عند المسلمين، فقد صدرت فتاوى جديدة صدرت للتعامل مع المتوفين من مرضى كورونا عند الدفن، وهو الأمر فرضته الضرورة والضرورات تبيح المحظورات ومن ثم لا يتم تغسيل الميت أو لفه بالكفن، ويدفن في كيس بلاستيكي".

وإذا كان كورونا قد غير من شعائرنا وطقوسنا الدينية، فلا نملك إلا أن نسلم بهذا الأمر، وذلك لأن الشعائر والطقوس: هي تعبير خارجي عما يجول بالقلب من تعبير عميق جدا للاهوت معين أو مفهومية معينة  أو عقيدة معينة، وعندما تتواجد عوائق مجبرة تمس بصحة أو كرامة الانسان، لا نستطيع أن نجرب الله كما قال السيد يسوع المسيح:" لا تجرب الرب الهك. الرب يستطيع أن يشفينا لكننا لا نقوم بخطوة مؤذية فنتحمل مسؤولية الأذى". وهو ما يعرف بالمسيحية بصراع الريتوس والميتوس (كلمتان يونانياتان قديمتان تشيران إلى الطقوس والخرافة).

وفي شريعتنا الإسلامية الغراء، نجد أن ديننا الحنيف يتعاطى مع المسائل المستجدة والاحداث الطارئة كالنكبات والزلازل والمشاكل الصحية والبيئية نظرة متميزة. وبالتالي ليس من المستغرب اقفال المساجد حتى على مستوى الصلاة الفردية؛ فضلاً عن الجماعة والجمعة، حيث إن تغيير الطقوس أو الشعائر الدينية مثل صلاة الجمعة أو الذهاب الى الكنائس، يرتبط بأمرين. الأمر الأول هو  المناخ العام الموجود في المجتمع، هناك مناخ عام من الخوف، من التجمعات ومن اللقاءات وبالتالي هذا القرار لا يثير أي استنكار أو أي استغراب. والأمر الثانية، هناك تبديل في الأولويات وهذا القرار هو تكيف مرن وواع ومنطقي مع هذا التبديل، فالأولوية أصبحت لصحة الإنسان. فإذا كان إنسان ندرك تماماً أن صلاة الجمعة تقضي إلى إصابته بأمراض تقتل، صلاته لا قيمة لها إذا استمر بها. نفس الأمر لأماكن العبادة الأخرى كالكنائس. الإنسان هو الأولوية والشعائر هي في خدمته. ما جرى في لبنان وفي السعودية أو إيران أو إيطاليا هو تكيف مع الأولويات، علاوة علي أنه حين تتضارب مصلحة المجتمع، ومصلحة الدين، كانت مصلحة المجتمع هي الفاصل في النزاع.

ولذلك أري أنه على القادة العرب مهمة لا تقل أهمية عن التوجيه والإرشاد الديني حول ما يتعلق بفيروس كورونا، ألا وهي توجيه كافة أشكال الدعم المطلوب للمراكز العلمية والبحثية التي تسعى لإيجاد علاج لهذا المرض الخطير، كون مواجهة فيروس كورونا وغيره من الأوبئة يعتمد في الأساس على البحث العلمي والطبي، فضلًا عن زيادة الوعي للوقاية من الفيروس.

هذا بالإضافة إلى ضرورة أن يقوم رجال الدين والحكمة من مختلف الأديان والمذاهب في كل المجتمعات على إبراز أهمية دعم القرارات والإجراءات المحلية والإقليمية والدولية الرامية إلى الحد من انتشار الفيروس، وأن يحثوا أتباعهم بما لهم من ثقة واحترام بين الناس على ضرورة الالتزام بجميع الإرشادات والنصائح التي تصدر عن الجهات الطبية والإدارية في دولهم، وأيضاً تعزيز التضامن الإنساني عبر مساعدة مَنْ هم بحاجة إليها، لا سيما المجموعات المهمَّشة والفقيرة مع أخذ تدابير الوقاية والتقيُّد بتعليمات الحماية الذاتية، من أجل انحصار هذه الأزمة التي أرهقت العالم أجمع... وللحديث بقية في موضوعات أخري عن كورونا إن شاء الله..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- خالد منتصر : كورونا والحج ودفع الضرر (مقال).

2- سناء الخوري: العبادة في زمن الكورونا: لماذا لا يصدّق المؤمنون أنّهم عرضة للعدوى؟ (مقال).

3- محمد البحيري: كيف غير فيروس كورونا من طقوس الدفن عن المسلمين واليهود؟ (مقال).

4- عوض غرّة : الشعائر الدينيّة في زمن الكورونا (مقال).

5- ديانا الزين: كوفيد 19: الفيروس الذي أعاد ترتيب الطقوس الدينية (مقال).

6- مسرور اسود: دور القادة الدينيين في مواجهة الكوارث العالمية .... وباء كورونا نموذجاً (مقال).

 

 

في المثقف اليوم