قضايا

الاقتصاد السياسي للفساد

تعتبر مشكلة الفساد واحدة من اكبر المشاكل التي تواجه التنمية والتقدم في مختلف دول العالم .

والفساد، كما يعرفه معجم أوكسفورد الإنكليزي : انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة.

 وتختلف اساليب مواجهة هذه الظاهرة الاجرامية بين الدول من حيث الطبيعة والشدة. ولايكاد يخلو بلد من بلدان العالم من نوع معين من الفساد، وكذلك تختلف البلدان في درجة انتشار الفساد في جسد الدولة.

بطبيعة الحال، فان موضوع الفساد، بموجب قراءاتي حول الموضوع، يحتوي على الكثير من النقاط التي تستحق الاشارة اليها ولكن المقام لايتحمل الكثير من الشرح والاطالة، لذلك سوف اكون انتقائيا في استعراض بعض النقاط التي اعتقدت بانها تستحق العرض.

الاساليب الوعظية والتوجيهية في مكافحة الفساد:

يتم التعويل في التعامل مع الفساد في بعض الاحيان من خلال الوعظ والتوسل الى الفاسدين بالكف عن فسادهم رحمة ببلدانهم وابناء شعوبهم الفقراء وتذكيرهم بالعذاب في الآخرة او بالقيم الاخلاقية والاجتماعية، وهم يتناسون ان الفاسدين هم مجرمين بلا ضمائر وفي كثير من الاحيان يكون هؤلاء اعضاء في منظمات تستعمل كل الاساليب لحماية مصالحها.

ولم يثبت في التاريخ الحديث ان دولة نجحت في مكافحة الفساد عن طريق هذه الاساليب.

الاساليب العلمية التحليلية في مكافحة الفساد:

في اوائل التسعينيات من القرن الماضي عثرت في مكتبة وزارة التخطيط العراقية على كتاب للاستاذة : روز ايكرمان، عنوانه : الفساد : دراسة في الاقتصاد السياسي (باللغة الانجليزية).

Corruption: a study in political economy (By Rose-Ackerman)

الكتاب ناقش مظاهر مختلفة للفساد لعل اكثرها اهمية وملائمة لاوضاع العراق الحالية، هي تلك الفصول التي تناقش الفساد في الاقتصاد السياسي*(سوف يأتي شرح لمعناه في حاشية هذه المقالة) والتفشي الوظيفي للرشوة . (ويكون تفشي الفساد وظيفيا functional عندما يرسي لنفسه فعاليات خاصة واهداف ومهام خاصة ترتبط كلها بطريقة تنفيذ عمليات الفساد في نشاط مؤسسي الى حد كبير.)

كذلك تناقش العلاقة الاساسية بين المصوّتين والمشرّعين وجماعات المصالح اضافة الى دور البيروقراطية الحكومية في تشكيل الخيارات التشريعية.

وهنالك فساد في القطاع الخاص ايضا ولكن مهمة مكافحته اساسا تقع على اصحاب الاعمال ومن خلال تفعيل حوكمة الشركات. اضافة الى المساندة التي تقدمها التشريعات العامة التي تعاقب وتردع الفاسدين حتى في القطاع الخاص.

الفساد كنشاط اقتصادي:

كما ذكرنا فيما تقدم، ينبغي الفصل الواضح بين الفساد كسلوك اقتصادي وبين الروادع الاخلاقية والدينية  وضرورة التعامل معه كسلوك اقتصادي ينظر القائمون به الى اعتبارات الربح والخسارة كأي مشروع آخر. بمعنى ان معالجته يجب ان لاتكون عن طريق الوعظ والارشاد (مع انها قد تكون مفيدة في بعض الاحيان) بل عن طريق جعل الإقدام على ممارسة الفساد عملية غير مجدية وتسبب خسارة كبيرة لمن يرتكبها.

ولايضاح طبيعة الفساد من وجهة نظر اقتصادية صرفة:

 تعتبر بعض الممارسات اقتصادية تماما طالما كان من يقوم بها عاقلا رشيدا حتى لو كانت ممارسة مثل القمار وفقدان الراتب الشهري في جلسة قمار واحدة. السبب هو ان الشخص العاقل الذي لعب القمار وخسر راتبه في جلسة واحدة لابد وانه كان يتوقع منفعة (لذة) تستحق ان يفقد راتبه من اجلها وبذلك فهو لم يخسر بل حقق واشبع رغبة.

نفس المنطق اعلاه يطبقه الباحثون في موضوع الفساد على الفاسدين وقراراتهم بالاقدام على عملية فساد او الاشتراك فيها ودراسة النتائج المحتملة لتلك العملية سلبا وايجاباً.

فالفاسد يقارن بين العوائد التي يحصل عليها من العملية وبين الخسائر المحتملة في حالة فضحه وتعرضه للمحاسبة.

الاستاذة ايكرمان تستخدم معادلات رياضية للحساب، مثلا : اذا كان العائد من العملية مليون دولار ولكن العقوبة عند القبض عليه ثلاث سنوات، فانه يقارن مجموع رواتبه لثلاث سنوات مع العائد وكذلك يأخذ في الاعتبار اذا ما كان بامكانه العودة لمزاولة عمله او اي عمل آخر او لا بعد خروجه من السجن.

وكانت تستخدم الرسوم البيانية والبيانات الاحصائية والمعادلات الرياضية في شرح وجهات نظرها بعيدا عن الانشاء الوعظي الفارغ.

فترات السجن الطويلة تضيع على الفاسد فرصة التمتع باموال الفساد وتجعله يتردد عندما يعرف انه قد يسجن مدى الحياة .

كذلك فهو ينظر فيما اذا تعتبر جريمة الفساد مدمرة للسمعة والشرف ام هنالك تساهل نسبي في النظر الى الفاسد اجتماعيا وقانونياً ؟

وهنا يصبح تغليض العقوبات واحدة من الادوات التي تجعل الفاسد يتردد في القيام بعملية فاسدة.

الجدية في استرداد المبالغ التي حصل عليها الفاسد وايقاع غرامات كبيرة وسد كل الثغرات وملاحقة كل المستفيدين بشكل مباشر وغير مباشر وتطوير التشريعات بما يتلائم مع تطور آليات الفساد واشكاله مهمة جدا في هذا الصدد.

ان مستوى رواتب موظفي الحكومة يجب ان يكون حاضرا عند تحديد عقوبات وغرامات الفاسدين لان فترات السجن البسيطة والفصل من الوظيفة قد لاتردع الفاسدين لان رواتبهم متواضعة وعوائد الفساد تعوضهم عن عمل سنين.

بعض الدول المتقدمة يسود فيها نوع خطير من الفساد وهو العلاقات بين جماعات المصالح والشركات وبين المشرعين الذي يصدرون او يعيقون صدور تشريعات بما يتلائم مع مصالح تلك الجماعات لقاء منافع يحصلون عليها.

وهنالك ارتباط بين الفساد وبين هيكل مؤسسات الدولة وطبيعة الترابط فيما بينها وطبيعة الصلاحيات والتفويض وآليات اتخاذ القرارات.

وقد لوحظ تفشي الفساد في البلدان التي انتقلت من النظام الاقتصادي الاشتراكي الى نظام السوق الحرة (البلدان التي تمر في مرحلة الانتقال) نتيجة سقوط الهياكل القديمة ونشوء هياكل جديدة لم تكن واضحة ومعروفة سابقا ولم تكن العلاقات واضحة ومتقنة بين مختلف المستويات وكذلك غموض وعدم شفافية تفويض السلطات واتخاذ القرارات.

عدم قبول الثقافة السائدة لفكرة ان الفساد نشاط اقتصادي:

من خلال تجربتي في تدريس كوادر الدولة المتقدمة في الثمانينيات والتسعينيات (مدراء عموم ومحافظين ووكلاء وزارات) في مركز التخطيط والتطوير الاداري في وزارة التخطيط، كنت اواجه اعتراضات من قبل بعض المشاركين في تلك البرامج  التدريبية على الفصل بين الروادع الاخلاقية والوعظية وبين التشريعات والعقوبات وسد الثغرات امام الفاسدين.

كما كانوا يعترضون على اعتبار الفساد ممارسة اقتصادية تحكمها قواعد ويمكن الحد منها عن طريق استخدام تلك القواعد.

يعتقدون ان تصنيفها كممارسة اقتصادية يعد بمثابة مدح او شرعنة لها، في حين انها هي كذلك شئنا ام ابينا. كما يعتقد البعض ان المقاربة الدينية هي الافضل من حيث أثرها الردعي مع ان الكثير من الناس لايكترثون بالوعظ الديني وقد يكونون ملحدين او من ديانات مختلفة . فاي شريعة سوف تستخدم لردعهم واخافتهم؟؟ بطبيعة الحال فان القانون المدني هو الكفيل بذلك لانه لديه قوة ردع  لكن الدين ليس فيه اكراه بل وعظ.

ليس من السهل اقناع هؤلاء الناس بمفهوم التجريد في البحث العلمي وفصل المؤثرات عن بعضها افتراضيا ليسهل التعامل معها بشكل سليم وواقعي.

العقل الاختزالي المتخلف يرفض القبول بوجود علم اقتصاد وعلم سياسة وعلم فقه وشريعة وعلم قانون وتشريع. ويرغب في تناول هذه القضايا الخطيرة بخطاب انشائي شامل ليست له قيمة تطبيقية.

- يعتبر انتونيودي مونت كريتين اول من اخترع تعبير الاقتصاد السياسي في عام 1615 عندما وضع كتابه المعنون : مقالة في الاقتصاد السياسي .ويعتقد آخرون ان مصطلح الاقتصاد السياسي قد استخدم في وقت سابق من قبل لويس دي ميرنيه عام 1611 وكان يناقش العلاقة بين علم الاقتصاد والدولة.كما انه استخدم المصطلح عندما كان يبحث واجبات السلطة السيادية تجاه مواطني الدولة. وكانت الضرائب هي القضية الاساسية التي حاول هؤلاء المفكرون تنظيم اسس تحديدها وفرضها وجبايتها وبيان مخاطر سوء استخدامها كحق سيادي للدولة على الرعايا. ومن هنا تأتي العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، فالسياسة تأتي من الكلمة اليونانية(polis)  التي تعني المدينة واصبحت دلالة رمزية للدولة او الحكم خاصة وان اليونان القديمة كانت تحكم من قبل عدد من مما يسمى (الدولة - المدينة)   City-state

 

د. صلاح حزام

 

في المثقف اليوم