قضايا

فيروس كورونا.. التعليم عن بعد خيار إجباري

محمود محمد عليتحدثنا في مقالات سابقة عن الأضرار الجسيمة التي أوقعها فيروس كورونا علي الاتحاد الأوربي وعلي الولايات المتحدة الأمريكية، وتداعيات ذلك علي النظام العالمي الحالي ، ثم تحدثنا في مقال لاحق عن الأضرار الكبيرة، التي أوقعها الفيروس في كل اقتصاديات العالم، ومنها الهلع الذي نشره الفيروس في أوساط البشرية في كل مكان من كوكب الأرض، والخسائر التي أوقعها الفيروس في صحة البشر، وما زال الفيروس يجوب كل دول العالم ويفترس كثيرا من أبنائها.. ولكن في هذا المقال سأتحدث عن الدور الذي لعبه الفيروس في إخراج مشروع التعليم عن بعد Distance Learning من الأدراج إلى التطبيق العملي في كثير من مدارسنا وجامعاتنا، حيث قامت المدارس والكليات الجامعية بإلقاء المحاضرات الافتراضية وتمكين الطلاب من متابعة المحاضرات في بيوتهم عبر أجهزة الكمبيوتر، ولولا هذه الجائحة الوبائية لما قامت مدارسنا وجامعاتنا بممارسة التعليم عن بعد بهذا الثراء.

فبعد تفشى فيروس كورونا أصبح التعليم الرقمي أو التعليم عن بعد مطلباًَ ملحاً للأساتذة والإداريين التربويين والتلاميذ وطلبة الجامعات بمختلف دول العالم ، حيث أرغم هذا الفيروس الجميع على حجر شبه طوعي أو مفروض حسب حالة كل بلد، مما تسبب عنه إغلاق المدارس ووضع وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي وجها لوجه أمام منظومة التعليم عن بعد والاستعانة بالتليفزيون والإذاعة كبدائل أخري ؛ خاصة من المقبلين علي الامتحانات الرسمية للأدوار الثلاث .

زمن كورونا سلط الضوء علي منظومة التعليم عن بعد وجعل من الأرضية الرقمية الديوان الوطني للتكوين عن بعد فرصة للتلاميذ في البقاء في جو التمدرس.. نمط جديد للتعلم لعله يضمن استمرار الدراسة لكافة المتمدرسين ويضع الأسرة التربوية أمام الحتمية.. وفي ظل هذه الظروف الاستثنائية بات التعليم عن بعد واقعاً تقع فيه المسؤولية علي الأولياء لمتابعة مدي تجاوب أبنائهم مع هذه الدروس..

إلا أنه تزايد الحديث عن فكرة التعليم عن بعد في الآونة الأخيرة كإحدى آليات إدارة الأزمات ومدي فاعلياتها والاستعدادات اللازمة لتنفيذها علي نحوا يضمن كفاءاتها واستمرارها وتفاعل الطلاب معها بشكل إيجابي .. وفي الدول العربية تتراوح وتختلف الطريقة المُتّبعة في التعليم عن بعد، حسب إمكانيات كل دولة على حدة، وفي داخل كل دولة، حيث فجوات رقمية قومية ووطنية، وجاهزية بنيتها التقنية التحتية، نظرًا لافتقار الكثير من هذه الدول للمستلزمات، والتجهيزات المتعلقة بالتعليم عن بعد، مع عدم توفر تجارب مسبقة لقياس مدى نجاحها في حال تطبيقها، كإجراء احترازي لمواجهة فيروس كورونا. في هذه المرحلة، أصبحت استمرارية التعليم أكثر تحدياً للطلاب والمعلمين والمؤسسات التربوية، أعني أن لا أحد يعرف حقاً ما سيحدث غداً، وكيف ستكون الأمور في الأسبوع القادم أو الأسبوع الذي يليه، هذه تجربة نحاول جميعاً التكّيف معها، علينا فقط تكريس الكثير من الجهود لتعزيز أساليب العمل والتواصل بين الطلاب والمعلمين بهدف استمرارية العملية التعليمية.

ولذلك وجهت وزارة التعليم العالي تعميماً لرؤساء الجامعات في دول عربية كثيرة لإتخاذ إجراءات عاجلة لتجهيز المساقات المطروحة لتكون من خلال آلية التعليم عن بعد استعدادا لوقف الدراسة وفي فلسطين بدأت جامعاتها بالاستعانة بنظام التعليم عن بعد كبديل مؤقت لناظم التعليم الاعتيادي إلي حين الانتهاء من تفشي أزمة كورونا المستجد وإعلان حالة الطوارئ، وذلك حفاظاً علي صحة الطلاب واستمرارية العمليات التعليمية .. أما في السعودية فقد أعلنت تعلق الدراسة لجميع المدارس ومؤسسات التعليم العام والأهلي والجامعي والفني حتي إشعار آخر.. وفي الإمارات العربية المتحدة أعلنت وزارة التربية والتعليم عن تقديم إجازة الربيع والعمل بمبادرة التعلم عن بعد وتعطيل مؤسسات التعليم العالي ادمة 4 أسابيع وإطلاق برنامج التعقيم للمنشآت التعليمية ..

وتدرس مصر تطبيق التعليم عن بعد وللتعليم عن بعد تاريخ ليس بالطويل ، حيث بدأ أواخر القرن 18  في أمريكا غير أنه يعاني من عدة صعوبات ولم ينتشر بصورة كبيرة ، لكن يبدو ان التعليم عن بعد هو الحل ألمثل للأزمة الأخيرة وعن جاهزية لعملية التعليم عن بعد لا سيما الدول العربية فالبنيية التحتية سواء انترنت او تليفون أو كمبيوتر كل هذا صار متوفرا في معظم المنازل غير أنه في حال التعليم المتزامن نحتاج لجود عالية لشبكة الإنترنت ..

وفي فرنسا قال وزير التربية الفرنسي قبل أيام إنه بإمكان التلاميذ الذين عادوا وكانوا في عطلة  في الصين الشعبية وفي كوريا الجنوبية وفي إيطاليا بإمكانهم التعليم عن بعد عبر  منصات خاصة وضعتها وزارة التربية علي ذمتهم وعلي ذمة الأستاذة وقال إن المركز الوطني الفرنسي للتعلم عن بعد قادر علي مساعدة وزارة التربية في المضي قدما واستيعاب عدد أكبر من التلاميذ الذين تُغلق مدارسهم بسبب الفيروس .. المشكلة أن عدد تلاميذ فرنسا 12 مليون شخص وهذه المنصات الذي استحدثتها وزارة التربية قادرة في حال استخدامها استخداما أقصي مبدأئيا علي تعليم 6 ملايين شخص ولكن المدرسين وكثيرا من خبراء التربية يقول اليوم إنها قادرة علي أقصي حد علي تعليم عشرات الآلاف  لبضعة أسابيع فقط ..

ولكن هذا الفيروس إذا استمر خطره أكثر من أسابيع وأشهر طويلة فإن فرنسا  تجد نفسها فعلا مقصرة أو غير مهيئة للتعامل مع هذا الملف بالرغم من أن مركز التعليم عن بعد أُسس في الحرب العالمية الثانية ، بل إن اليوم طلاب المدارس الإبتدائية في العالم العربي ولا سيما في البلدان التي تشكو من النزاعات ومن الحروب ومن الإرهاب هؤلاء يتعلمون اللغة العربية عبر هذا المركز وأبناء كثير من الدبلوماسيين العرب يتعلمون اللغة العربية عبر هذا المركز الفرنس وحتي الجامعة الفرنسية ليست مهيئة وهي في بداية الطريق في الإنخراط في عملية التعليم عن بعد ؛ بمعني آخر كل البلدان المقدمة وعلي الأقل غالبيتها والبلدان النامية تجد نفسها اليوم في منزلة أن تختار منهج جديد في التعليم عن بعد عبر مثل هذه الكوارث التي تحدث .. ومن المفارقات أن الصين  أظهرت أنها تتكيف أفضل مما هو عليه جامعات العالم في هذا المجال .

وكما تقول الإحصائيات الواردة عن منظمة الأمم المتحدة للعلوم والثقافة (اليونسكو)؛ بأن عدد الطلاب الذين اضطرتهم "كورونا" إلى الانقطاع عن المدارس مليار و344 مليون، و914 ألف طالب وطالبة في 138 دولة حول العالم بنسبة 82.2٪ من الطلاب المقيدين في مدارس، منهم نحو 83 مليون طالب مدرسي في الدول العربية (بالإضافة إلى أعداد المتسربين من التعليم والمتوقفين عنه بفعل الحروب والصراعات الدائرة رحاها). وقالت المديرة العامة لليونسكو، أودرى أزولاى، فى هذا السياق: "لم يسبق لنا أبداً أن شهدنا هذا الحد من الاضطراب في مجال التعليم»، وأضافت قائلة: «إنّ إقامة الشراكات هو سبيلنا الوحيد للمضي قدماً".

وكغيره من استراتيجيات التعليم، يأتي “التعليم عن بعد” مع مجموعة من الإيجابيات والسلبيات، أضف إلى ذلك بالطبع أنه لا يمكننا توقع نتائج مثالية من هذه التجربة نظراً للسرعة الفائقة التي اضطرت فيها المدارس إلى الانتقال إلى هذه الإستراتيجية للحفاظ على استمرارية تعليم الطلبة باعتباره أولوية قصوى في خضم تفشي الفيروس الذي شلّ المنطقة، دون أن يكون هناك أي تحضير أو تدريب مُسبق سواء أكان للإدارة المدرسية، للمعلمين، لأولياء الأمور أو للطلبة على وجه التحديد، دعونا نلقي نظرة على بعض الايجابيات والسلبيات التي ينطوي عليها اعتماد هذه الإستراتيجية.

ويتمتع التعليم عن بُعد بعددٍ من المزايا التي يمكن الإشارة إليها (كما قال د. عامر صالح في مقاله كوفيد ـ 19 والتعليم عن بعد: بين ظروف الاضطرار ومستلزمات النهوض) فيما يلي:

1- سهولة الوصول للمحتوى التعليمي: فالتعلم عبر الإنترنت هو طريقة مناسبة للأغلبية، حيث لم يعد يتعين على الطلاب الانتقال من دولة إلى دولة أخرى للحصول على درجة علمية أو المشاركة في دورة تعليمية معينة، وأصبح كل ما يحتاجون إليه هو توفر إنترنت بسرعة عالية.

2- دعم عملية الاستيعاب: وذلك من خلال إمكانية تسجيل الفصول الدراسية، وقيام الطالب بمشاهدة المحاضرات أكثر من مرة حتى يستوعب المعلومات بشكل كامل، وهذا ما يساعد الطلاب بشكل أكبر خلال فترات التحضير والإعداد للاختبارات الدراسية.

3-توفير الوقت وانخفاض التكلفة: ساهم التعليم عن بُعد في خفض الوقت اللازم للتعلم بنسب كبيرة، كما أنه يُساهم في تخفيض التكاليف المالية بسبب عدم وجود تكلفة للانتقال، وعدم تكبد نفقات الإقامة والانتقال من دولة إلى أخرى.

4- عوائد بيئية إيجابية: نظرًا لأن التعليم عن بعد هو وسيلة غير ورقية للتعلم، فإنه يحمي البيئة من خلال عدم استخدام واستهلاك عدد كبير من الأوراق مقارنةً بأشكال التعليم التقليدي.

5- تعزيز فعالية المعرفة من خلال سهولة الوصول إلى كمية هائلة من المعلومات، فنحن نستخدم الإنترنت الآن لقراءة الأخبار ومشاهدة برامجنا التلفزيونية المفضلة وحجز المواعيد والتسوق وغير ذلك الكثير.

وأيضاً هناك سلبيات للتعلم عن بعد ولعل ابرزها (كما قال د. عامر صالح في مقاله السالف الذكر) ما يأتي:

1- لم يعتد الطالب على استخدام هذا النوع من التعليم الذي يتطلب منه انضباطاً ذاتياً، وذلك نظراً لعدم تقديم برامج توجيهية ودورات تدريبية لإعداد الطلبة قبل البدء بتطبيق هذا النظام.

2- الإنصاف هو أكبر عقبة في “التعلم عن بعد”، بالطبع لا ينطوي التحول من التعليم التقليدي إلى التعليم عن بعد على التحديات التقنية فحسب، بل التحديات الاجتماعية والمادية أيضاً.

3- عدم قدرة أولياء الأمور على المشاركة في تعليم أبنائهم من خلال استخدام هذه الإستراتيجية التي تحتاج تدريباً وإعداداً لأولياء الأمور وذلك لتمكينهم من المشاركة وتفعيل دورهم في استمرارية العملية التربوية قبل تبني تطبيقها.

4- كل طالب يمتلك قدرات تعليمية مختلفة عن الآخر فلكل منهم خصوصيته، وبالتأكيد فإن نجاح العملية التعليمية يعتمد على فهم كيفية تعلم الطالب بشكل أفضل من خلال الأدوات المناسبة له، حيث لا يملك جميع الطلاب في نفس الصف نفس القدرات، لذلك سيكون من الصعب على المعلم الاهتمام بالاختلافات بين الطلاب.

5- تُعد المصداقية تحدياً هاماً في التعليم عن بعد حيث سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، التحكم في السلوكيات السلبية مثل الغش فيمكن لأي شخص القيام بمشروع بدلاً من الطالب الفعلي نفسه.

إن الصعوبات التي قد يواجهها الطلبة في التعامل مع التعليم عن بعد، ستفرز تشوهاً في مستوى المواطنة الرقمية، وهو ما ألاحظه في التعامل مع طلابي حالياً، فالأمر ليس مرتبطاً بمستوى التربية بقدر ما هو مرتبط بالضغط النفسي الناجم عن قلة الإمكانات المادية، وتدني مستوى البنية التحتية للاتصالات والانترنت، ناهيك عن ارتفاع مستوى الأمية الالكترونية في مجال استخدام التطبيقات الالكترونية البسيطة.. إن ما يجري اليوم سيغير وجه التعليم بأي حال من الأحوال، وإن بقيت الجامعات على حالها من حيث معنوية الاهتمام، وخصخصة الكفاءات، والاستثمار في المباني والمساحات الخضراء على حساب الطالب الساعي للتعليم، والأستاذ الكفء المهمش، فستكون معول هدم للإنسان، وليس مصنعاً للموارد وذلك حسب قول د. محمود عبد المجيد عساف في مقاله التعليم عن بعد بين الإمكانيات وأنسنة التربية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم