قضايا

جائحة كورونا والدروس الخصوصية

محمود محمد عليمن يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية لا تساعد علي تحقيق الأهداف الأساسية للعملية التربوية، ولا تدفع الطالب للتفكير والابتكار وحل المشكلات، لأن الطالب يحصل في الدروس الخصوصية علي نصوص جاهزة ومتحضرة ومعدة بطريقة تساعده علي الإجابة عن اسئلة الامتحانات، فالطالب يلجأ للحفظ والتكرار وذلك ليتحصل علي درجات تؤهله للنجاح في الامتحان، والعملية التعليمية ليست هدفها مجرد تجميع درجات أو الحصول علي شهادات، إنما هدفها الأساسي تنمية عقول التلاميذ . فالدروس الخصوصية لا تنمي في الطالب إلا مقدرة النجاح في الامتحان ولا تنمي فيه المقدرات والمهارات المهمة مثل: النمو الاجتماعي، الاخلاقي، الجسدي، الروحي والنمو العاطفي ... الخ هذه الأهداف التي تجعل العملية التربوية متكاملة .

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية جعلت أولياء الأمور ينظرون إلي الدروس الخصوصية علي أنها ليست أكثر من رشوة مقنعة للمدرس فالطالب دائما ما يحرص أن يكون المدرس الخصوصي هو نفسه مدرس المادة في المدرسة لمميزات وفوائد كثيرة أقلها ضمان درجات اختبار أعمال السنة كاملة، وبعض الطلاب يلتحق بدروس المدرس الخصوصي رغبة منه لمعرفة الأسئلة أو أسلوب حلها بغض النظر عن الفهم  والاستيعاب.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تساعد علي انتشار ظاهرة التسرب المدرسي وأيضا ظاهرة الهدر التربوي فبعض الطلاب الذين يلتحقون بالدرس الخصوصي لمدرس معين لا يهتمون لشرح المدرس في المادة في الفصل وربما لا ينتظمون في الحضور إلي محاضرات هذا المدرس وبالتالي تنقلب حياتهم المدرسية إلي فوضي ربما تتطور إلي غياب مستمر من المدرسة وفي النهاية ربما يتركون المدرسة كلية .

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية عملية تجارية بحتة، فالدروس الخصوصية أصبحت وسيلة هؤلاء لتحقيق أحلامهم وأمنياتهم في الحياة وهي وسيلة لإقتناء الشقة الفاخرة والسيارة وحساب في البنك . هذه الأشياء التي لا يمكن أن يتحصوا عليها من رواتبهم الشهرية أو من معاشهم التقاعدي.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن المدرسين الذين يلجأون للدروس الخصوصية كان هدفهم أن يشعر التلاميذ بالعجز والقصور ولا يجدون مفرا من الالتجاء إلي الدروس الخصوصية، بل إن بعضهم ربما لجأ إلي ترسيب بعض الطلاب عن قصد ليجبرهم عن الالتحاق بدروسه الخصوصية ولا يستطيع ولي الأمر أو مدير المدرسة أن يوجه اتهاما صريحا للمدرس بالرغم من أن هؤلاء ربما شعروا بأن المدرس ليس نزيها  في أداء واجبه..

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية فيها إضاعة لزمن الطالب، فالطالب ينتظر حضور المدرس إليه، أو يذهب له ويحتمل أن لا يجده، وإن وجده فإنه يستغرق وقتا كبيرا في مذاكرة جزء من المقرر أو جزئية صغيرة من موضوع واحد من المقرر، وبالتالي يضيع علي الطالب زمن كبير في الاهتمام بالجزئيات وفي مراسم توديع المدرسين الخصوصيين أو الذهاب إليهم في منازلهم والرجوع منها، هذا الزمن كان من الممكن استثماره في تعلم مقررات نافعة.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تتطلب مصاريف كثيرة لا تقدر عليها إلا الأسر المقتدرة ماديا هذا الوضع يجعل التعليم حركا علي فئة معينة هم أولاد التجار والمقاولين والأغنياء بصفة عامة، ويصبح هؤلاء قادرين علي شراء النجاح بفلوسهم وليس بقدراتهم العقلية، خاصة أن بعض المدرسين يرفعون ثمن الساعة في الدروس الخصوصية إلي مبلغ ليس في مقدور الأسرة المحدودة الدخل أو الفقيرة . وهذا الوضع يؤثر علي مبدأ ديمقراطية التعليم ويميز طلاب المدرسة علي أساس مادي ويجعل التنافس بين الطلاب غير عادل مما يساعد علي إفرازات سلبية في البيئة المدرسية مثل الحقد والحسد والكراهية.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن من عيوب الدروس الخصوصية أيضا أنها تشجع الطلاب علي التركيز في المذاكرة علي أجزاء معينة من المقرر، خاصة الأجزاء التي يركز عليها المدرس الخصوصي أو التي اعتقد الطلاب أن الدرس ركز عليها أكثر من غيرها .. فيلجأ اطالب إلي تطبيق قاعدة " التهديف" أي مذاكرة وحفظ مناطق معينة من المنهج وترك مناطق أخري، ووفقا لهذه القاعدة تكون النتيجة إما النجاح بتفوق أو الفشل الكبير، حتي ولو كان اطالب محظوظا ونجح بتفوق فإنه حسب الأصول التربوية السليمة يعتبر غير مؤهل لأنه لم يدرس ولا يعرف من المنهج إلا الأجزاء التي درسها أو استهدفها ويكون بالتالي قد حصل علي شهادة تفوق مزورة.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تحول اهتمام الطالب إلي مجرد النجاح في الامتحان ما يدفعه إلي التعامل مع الخبرات التعليمية .في داخل هذا الإطار فقط، وذلك أمر يخل بالهدف الأساسي للعملية التربوية، والمتمثل في بناء الإنسان وتكامل الخبرات واكتساب المعرفة والخبرة والتقليل من اعتماد الطالب علي نفسه واعتماده علي المدرس الخصوصي في تبسيط المعرفة وحل المشكلات التي تعترضه في دراسته بدلا من الاعتماد علي نفسه في حلها، واكتساب الخبرات التي تؤهله لحل ما يواجهه من مشكلات في حياته العملية التالية.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية قد تتسبب في ضياع جزء كبير من وقت الطالب ما يؤثر سلبا في مستواه في بقية المواد إضافة إلي بعض المشكلات الأخلاقية التي قد تنشأ عن الدروس الخصوصية حيث يقوم المدرسون الذكور في بعض الأحيان بتدريس البنات داخل منازلهن في غيبة الأهل أحيانا ما قد ينتج عنه آثار سلبية خطيرة وبخاصة لدي الفتيات المراهقات في المرحلتين الإعدادية والثانوية

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تؤدي إلي إرهاق ميزانية الأسرة حيث يضطر الوالدان إلي اقتطاع جزء كبير من دخل الأسرة للوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه المدرسين الخصوصيين. فلا شك في أنه مع بدء العام الدراسي من كل عام تعلن الأسرة العربية حالة الطوارئ استعدادا لعام دراسي جديد، سواء كان ذلك علي المستوي النفسي أو علي المستوي المادي لتزداد أعباء الأسرة فوق ما تحتمله من أعباء. وتأتي الدروس الخصوصية علي رأس قائمة الأولويات التي تسعي الأسرة العربية إلي تسديد فاتورتها، إذ أصبحت مع الأسف أمرا حتميا.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تعتبر وباءا اجتماعيا انتشر وتفشي في المجتمع وسرطانا ينهش في جسد التعليم والأسرة المصرية. ان الدروس الخصوصية مثلها مثل الهرمونات التي تستخدم في صناعة الدواجن البيضاء والتي نحصل منها علي لحوم صناعية شتان بينها وبين لحوم الدواجن الغير هرمونية. بالمثل فان الدروس الخصوصية قد تحقق، وفي أغلب الأحيان، مستوي وهمي للطالب ينال به النجاح اللحظي والحصول علي الشهادة المرجوة سرعان ما ينحدر هذا المستوي الصناعي ويرجع الطالب الي مستواه الطبيعي. والدليل علي ذلك أن خريجي المدارس الثانوية متعاطي الدروس الخصوصية عندما ينتقلون الي الجامعة قد يظهرون بمستواهم الحقيقي اذا لم يستمروا في تعاطي الدروس الخصوصية. والجامعة بها الأمثلة الكثيرة ممن لم يحققوا حتي مجرد النجاح ببعض الكليات،التي لا تعترف بالمستوي الوهمي، مما أجبرهم علي التحويل الي كليات أخري تتناسب وقدراتهم الحقيقية.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية تؤدي الي عدم تحقيق تكافؤ الفرص، فهناك طلاب ذو قدرات ذهنية فائقة ولكن قدراتهم المالية متواضعة خالت دون انجرافهم في طريق الدروس الخصوصية الأمر الذي ترتب عليه عدم استمرارهم في المنافسة واكتشاف قدراتهم في المراحل المتأخرة من التعليم.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية هي أس مشاكل التعليم التي تحول دون تطوير التعليم واذا تم القضاء عليها لتم القضاء غلي معظم المشاكل التعليمية. فاذا لم يكن هناك دروس خصوصية لم يلجأ الطلاب لاختلاق الحيل والأسباب الواهية في الغياب عن المدرسة وانتظموا في المدرسة وطوال العام الدراسي، كما أن المدرسين ينتظمون ويجدون في شرحهم أثناء الحصة المدرسية، ولذهب الطلاب بشنطة مدرسية حقيقية وليست صورية كما نلاحظ الآن، ولم تظهر المجاميع الصناعية التي تفوق الـ 100%، ولتم اكتشاف قدرات الطلاب الحقيقية، ولم نحتاج الي ما سمي أخيرا بالتعليم المتميز والتعاوني.. ربما يقول قائل بأن الدروس الخصوصية مسألة شخصية والغير قادر لا يتعاطاها ولكن للأسف فرضت علي الفقير قبل الغني وعلي الضعيف قبل القوي ولا مفر من تعاطيها للمنافسة.

من يصدق أن كورونا أثبتت أن الدروس الخصوصية خلقت فجوة بين من يقدر ومن لا يقدر علي الدفع! حتي أصبحت أمرا من أمور المباهاة بين الناس مما يخلق إحساسا بعدم العدالة الاجتماعية لدي من لا يقدر على الدفع من الفقراء ومتوسطي الحال!

فربما كانت كورونا بمثابة طوق انقاذ لطلاب سنوات النقل الذين تم اعفاءهم من الحضور و الدراسة بالامتحانات والاكتفاء بالبحث فقط وهو أمر قوبل باستحسان كبير وتم القضاء بالفعل علي شبح الدروس الخصوصية ودفع هذا الأمر الطلاب إلى الاجتهاد والبحث في المواقع والاطلاع والقراءة وعمل ابحاث والاعتماد علي مصادر كثيرة وتنمية مهارات البحث لديهم وتعظيم الاستفادة من العملية التعليمية الروتينية المملة والتي لم تنتج متعلم قادر ومؤهل علي مواجهة سوق العمل.!.. وذلك كما قال د. فتحي حسين في مقاله كورونا والدروس الخصوصية!

لذا فقد نجحت كورونا فيما فشلت فيه أنظمة تعليمية وحكومات وهو إنهاء عصر الدروس الخصوصية أو الحد منها بشكل كبير، أدخل الفرحة والسعادة النسبية على قلوب الأهالي ولكنهم ينتظرون أن يرفع الله هذا الوباء القاتل عن العالم في القريب العاجل..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم