قضايا
البذاءة بين الأخلاق والقانون
البذاءة، لغةً واصطلاحاً، هي القول الفاحش. وهى مجرّمة أخلاقياً ودينياً، ففي الحديث الشريف "ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء".
غير أن البذاءة لا تخضع لقانون العقوبات المصري، لأنها لا تتضمن إسناد واقعة محددة تستوجب عقاب من تُنسب إليه أو احتقاره إسناداً علنياً، حتى نعتبرها قذفاً، و لا تنطوي على خدش شرف شخص واعتباره عمداً، حتى نعتبرها سباً.
وربما يمكن محاصرتها والإيقاع بها تحت طائلة المسئولية القانونية باعتبارها سلوكاً يمثل إخلالاً بالنظام والآداب العامة للمجتمع، غير أن الفن من ناحية، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى، قد أفرزا صوراً جديدة، و مراوغة للبذاءة بحيث يصعب تجريمها من الناحية القانونية، بل ومن الناحية الأخلاقية في كثير من الأحيان.
وفى هذا السياق، نذكر عبارة الفنان أحمد حلمي فى فيلم (ألف مبروك) "مجازين أمك"، ومن قبلها ردد الفنان محمد نجم في مسرحية (عش المجانين) عبارات على نفس الشاكلة من قبيل "بيت أمك" و"بيت أبوك". والحيلة الماكرة هنا واضحة، ولا تحتاج إلى قدرات خاصة فى الفهم، بل إن سهولة الفهم هي الرهان الذى يلعب عليه الفنان من أجل توصيل المعنى المستهجن في صورة مقبولة.
وهذا النوع من البذاءة له مشتقات كثيرة، لا تنتهى، لأننا في مجتمعاتنا الشرقية اعتدنا فى شتائمنا أن نوجّه السباب للأم وللأب بدلاً من الشخص الذي أثار غضبنا ودفعنا إلى شتمه والنيل من شخصه. يتضح ذلك حتى في التعبيرات التي لا تنطوي في ذاتها على أى مآخذ أخلاقية، بل ويفترض أنها تحمل معان سامية مثل "روح أمك".
وحيّل الاستخدام البذيء للألفاظ لا تنتهى، فى الفن أو الواقع، حتى وصل الأمر إلى سب "الديك" في إشارة واضحة إلى "الدين". وقد حكي لي صديق عن واقعة تشاجر فيها أحد الموظفين العموميين مع سائق سيارة الهيئة التى يعملان بها، فقام هذا الموظف بسب "دين أم العربية "، وعندما أحيل إلى التحقيق استند فى دفاعه إلى أن "العربية" جماد وليس لها "أم" أو"دين". والغريب أن جهة التحقيق حفظت الموضوع بالرغم من إمكانية محاسبة الموظف بناء على ارتكابه لمخالفة الإخلال بهيبة الوظيفة العامة.
وفى الفن، برع الفنانان عادل إمام ومحمد صبحي في ابتكار الحيّل لترويج البذاءات، اعتماداً على ذكائهما وخفة ظلهما من ناحية وحب الناس لهما من ناحية أخرى. غير أن هذين النجمين قطعا خطوة أبعد، فلم يعتمدا على الألفاظ المباشرة، وميل المجتمعات الشرقية لاستخدام نوع من السباب يدخل في بنيته ألفاظ "الأم" و"الأب"، وإنما اعتمدا على الهوس الجنسي الذى يهيمن على وعى هذه المجتمعات بسبب الكبت والحرمان، بالإضافة لتدني مستويات التعليم والأخلاق فى الوقت نفسه.
وفى هذا الصدد، أذكر عبارة عادل إمام التى أطلقها فى سبعينيات القرن الماضي فى مسرحية (مدرسة المشاغبين)، وهى "كل واحد يخلي باله من لغلوغه" التي أثارت عاصفة من الضحك مازال صداها يتردد حتى الآن، خاصة أن إمام قدم تنويعات مختلفة لهذه العبارة جعلت المشاهدين يستشعرون أن ثمة معنى إباحي يختبئ وراءها.
والحقيقة أن صبحي كان أكثر جرأة ودهاءً عندما وقف فى واحدة من مسرحياته يسأل فنانة شابة، على ما أذكر" هو فين لباسك الأحمر؟!" وهنا أسقط فى يد الفنانة والجمهور على السواء، لأن العبارة كانت صادمة وغير مسبوقة، أو متوقّعة بالمرة.
غير أن صبحي عاد ليوضح الأمر، بروح الدعابة التي يجيدها، مذكراً الجميع بأن "اللباس" كلمة عربية فصحى، مستدعياً عبارات الإذاعي الراحل على زيور: " نادي الأهلي نازل الملعب بلباسه الأحمر، ونادي الزمالك نازل بلباسه الأبيض"، وهنا ضجت الصالة بالضحك، وابتسمت الممثلة الشابة بعد أن غابت عن وجهها حمرة الخجل، ونجح صبحي فى تمرير المعنى الجنسي الذى قصده من العبارة في البداية!
وإذا كان الأمر قد بدأ في الواقع وفى الفن، فقد امتد هذه الأيام إلى السياسة والإعلام، بحيث تصدرت كلمة " التعريض" المشهد، وصارت هي اللفظة الأكثر استخداماً، خاصة لدى أصحاب الآراء المعارضة. وواضح أنها تشير إلى معنى مفهوم جداً، وهو التستر على الفاحشة، وإن بشكل مجازي، فكثيراً ما وصف الفكر بالدعارة، والسياسة بالعهر.
لكن الغريب أن اللفظة، من فرط استخدامها، باتت هي والكلمة الأصلية، المخفية، سواء. وهى مسألة تفرغ التورية من معناها، ولا أجد مبرراً للاستمرار فيها سوى الخوف من المساءلة القانونية أو الأخلاقية، وهى منعدمة كما ذكرنا، بل والمفارقة أن الكلمة الأصلية، بالسين، معناها "الزواج"، وبالصاد، معناها النشاط أو الاضطراب، أو المساحات الواسعة بين الدور، وكلها معان لا غبار عليها من الناحية الأخلاقية، غير أن البعض يروج لمقولة أنها، تاريخياً، ترتبط بوظيفة الشرطة التي كانت تراقب أداء دور الدعارة من الناحية القانونية فى العصر الملكي فى مصر.
وفى كل الأحوال، يُلاحظ أن هناك توتراً بين الألفاظ ومعانيها، خاصة فى الفن والإعلام، بحيث يُقال شيء ويُقصد شيء آخر. غير أن انتشار قنوات اليوتيوب، و اقتحام الكثيرين لهذه القنوات، ممن لا يميزون بين الأخلاقي وغير الأخلاقي، أدى إلى كسر هذا التوتر، ما أدى إلى إشاعة الفوضى، واندفاع سيل من البذاءات لا يمكن إيقافه بالرغم من الجهود النبيلة، التي يقوم بها البعض، من أجل تطهير هذه المواقع بنقل الصراع إلى ساحات القضاء.
فقد كشفت البذاءة المخفية، بفعل هؤلاء، عن وجهها القبيح، وصارت المعاني الفاحشة تفصح عن نفسها في ألفاظ وعبارات فاحشة كذلك. وللأسف وجد هؤلاء مسوغاً شرعياً لبذاءاتهم عندما تم استخدامهم سياسياً للرد على الخصوم الذين يستخدمون السلاح نفسه، ما أدى إلى تدني مستوى الحوار السياسي والمجتمعي.
ويبقى السؤال، ألا يمكن التعبير عن الواقع الرديء بألفاظ أقل رداءة؟!
د. ماهر عبد المحسن