قضايا

قراءة نفسية لوصية إبن مسكويه!!

صادق السامرائيهذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد، وهو يومئذ آمن في سربه معافى في جسمه، عنده قوت يومه، لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا إستجلاب منفعة ولا دفع مضرة منهم، عاهده على أن يجاهد نفسه ويتفقد أمره، فيعف ويشجع ويحكم، وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه، حتى لا يحمله الشره على ما يضر جسمه أو يهتك مروءته، وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره في شهوة قبيحة ولا غضب من غير موضعه، وعلامة حكمته أن يستبصر في إعتقاداته حتى لا يفوته بقد طاقته شيئ من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولا نفسه ويهذبها ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة، وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها، وهي خمسة عشر بابا:

"يُسمي نفسه في هذه الوصية "أحمد بن محمد"، وقد تعددت أسماءه، ومضى الباحثون والمؤرخون على تلخيصها بإبن مسكويه.

وقد أراد تنزيه نفسه من أي رغبة وغاية ذاتية في مقدمته، التي يريد بها أن يؤهلنا للنظر بصدق ونقاء لما سيوصينا به.

وهي تقع ضمن دعوته الأخلاقية ومجالدته وكدحه لتهذيب النفس بعد أن بلغ من العمر عتيا، إذ يُقال أنه قد ناهز المئة عام.

فهو يقدم نفسه عفيفا شجاعا حكيما، وكلها مهارات قد تمكن منها لمحاربة العدو اللدود الذي يقصده وهو النفس، وأظنه يريد بها النفس الأمّارة بالسوء، وهي من أفحش النفوس وأفلتها، وقد توجهت نحوها رسالات السماء ونداءات المصلحين عبر العصور، وما أفلحت في تهذيبها وتنقيتها من نوازعها الغابية الوحشية العمياء.

وفي الوصية يقدم لنا بيانا صارما يمكّننا من الإنتصار على النفس والقبض على عنقها، وإدارتها وتطويعها للعمل وفقا لما تقتضيه الحكمة والعفة والبصيرة الثاقبة السامية الآفاق".

إيثار الحق على الباطل في الإعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال

"يؤكد في الوصية على ثلاثية الحق والصدق والخير، ووجوب رجحانها على غيرها ومضاداتها، وعدم الإستهانة بها لأن فيها ما يساهم بتأهيل الإنسان لمجابهة نفسه، والتخلص من شوائبها ونوازعها الفتاكة التي تفضي إلى تداعيات سيئة.

 كما أنه يقرن الإعتقاد بالقول والفعل، ولكي يكون الإنسان نقيا ومعبّرا عن إعتقاده، لابد له من الإلتزام الصارم بهذه الثلاثية التربوية الأخلاقية السلوكية النبيلة الساطعة".

وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء وبين نفسه

"ويحثنا على اليقظة والحذر من نوازع النفس، وما فيها من مطمورات الشرور، التي تستوجب المجاهدة النابهة وعدم الغفلة والإهمال، فكأن الإنسان يعيش حربا دائمة هوجاء لا تعرف الفتور، وعليه أن يتأهب لها ويشحذ همته ويموّل قدرته بما يؤهله للفوز بها".

والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها

"ويرى أن التمسك بالشريعة من متطلبات المجاهدة النفسية المقتدرة، وهذا نابع من فهم القرآن وتوجهات العديد من الآيات التي تستهدف النفس الأمّارة بالسوء، وقد وُضِعَتْ لتهذيبها الشرائع والمبادئ اللازمة للتحكم بنوازعها ودوافعها".

وحفظ المواعيد حتى ينجزها وأول ذلك ما بيني وبين الله جل وعزّ

"ويدعونا إلى التهذيب الروحي لأنه من أعمدة القوة والقدرة على المسك بلجام النفس وتطويعها، ويرى أن الصلاة تمنحنا الوسائل الروحية القادرة على نصرنا وتحقيق إرادتنا النقية الصافية، فالحفاظ على المواعيد تمرين جدير بالممارسة لكي نتقوى وتتماسك أواصر كينونتنا الروحية الأبية".

وقلة الثقة بالناس بترك الإسترسال

"وهنا يثير مسألة الثقة بالناس، ويبدو من خبرته الطويلة بالحياة قد توصل إلى أن هذه الغاية بعيدة المنال، ويترتب عليها تداعيات وتفاعلات سلبية مؤسفة، ولهذا يتخذ سلوك التحاشي وعدم إندلاق ما فيه أمام غيره، لأنه سيتخذه سلاحا ضده أو يرهنه بما قال".

ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك

"المحبة الحقيقية النقية تكون لذات المحبوب وحسب وليس لغاية أخرى غير مرئية، فمحبة الجميل لجماله وما يبعثه في النفس من إستغراقات جمالية، تدفع بالمحب إلى التحليق في فضاءات روحية علوية، فتشرق أمامه كلمات ضوئية تقول  - إن الله جميل يحب الجمال - وتلك ثورة الإدراك والوعي الحقيقي اليقيني لمعنى الجمال الذي قد يتخذ توصيفات إلهية مطلقة".

والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل

"الصمت من السلوكيات التي يرتقي إليها الإنسان بالمجاهدة والجد والإجتهاد، فليس من السهل على الإنسان أن لا يتكلم ويركن إلى عقله، ولكي تتعلم الصمت عليك أن تتمرن عليه وتمنح العقل مفردات وعناصر التدبر والتفكر، والإستغراق في المعرفة والإدراك البصير الذي يمنح صاحبه لذة الإشراق واليقين".

وحفظ الحال التي تحصل في شيئ حتى يصير ملكه ولا يفسد بالإسترسال

"يريدنا أن لا نقنط ونيأس، بل أن نتفاءل ونؤمن بأن بعد العسر يسرا، وأن نتدرع بالصبر والمجالدة والقدرة على التحمل، والعمل على أن الحال سيتغير ويأتينا بأفضل منه، ولهذا لابد لنا أن نعدّ العدة لما هو أحسن في جميع الأحوال".

والإقدام على كل ما كان صوابا

"يحثنا على إستعمال العقل في ما نقوم به ونراه، وأن نتعلم كيف نتوصل إلى ما هو صائب ونتخذه سبيلا ونعمل بموجبه.

وعندما نراه صائبا علينا أن نمتلك العزيمة والإقدام على إنجازه، لأنه سيمنحنا قدرة على التطور والنماء والإتيان بما هو أكثر نبلا وروعة وبهاءً، فتزدهي الحياة وترتقي إلى آفاق الرجاء الإنساني المطلق".

والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهم دون غيره

"يعلمنا إقتصاد الوقت، وضرورة الإستثمار فيه، لأن العمر يجري إلى مصبّاته الحتمية، وعلينا أن نغتنم الوقت ونحقق ما نستطيعه فيه، وأن لا نبذّره فيما هو دوني وباهت ومستهلَك، لأن الحياة قصيرة وعلينا أن نكون أهلا لها وطاقة فيها، بدلا أن نتحول إلى عالة عليها".

وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي وترك التواني، وترك الإكتراث لأقوال أهل الشر والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الإنفعال لهم، وحسن إحتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان بجهة وجهة

"ووفقا لما في كتبه ورسائله، فأن مسألة الخوف من الموت لها تداعياتها السلوكية على البشر، وكذلك الرعب من الفقر، ويدعو إلى تركها والعمل بما ينبغي علينا القيام به في الحياة.

كما أنه يحذرنا من الإكتراث لأقوال الأشرار لأنها سلبية وتدميرية، ولا تمنحنا خيرا وقدرة على التمتع بحياة أفضل.

ويعود إلى الصبر والإقتراب الإيجابي من الشدائد والتحديات، والعمل على تحويلها إلى قوة ذات قيمة واضحة ومؤثرة في أيامنا". 

وذكر المرض وقت الصحة، والهم وقت السرور، والرضى عند الغضب، ليقل الطغي والبغي، وقوة الأمل،

 "ويمضي في وضع أسس ومراسيم وتعاليم التفكير الإيجابي، الذي علينا أن نتحلى به في أشد الظروف وأقساها، فهو طوق نجاتنا وسفينة رجائنا التي ستوصلنا إلى مرافئ السعادة والبهجة والسرور".

وحسن الرجاء والثقة بالله عز وجل، وصرف جميع البال إليه

"ويختم وصيته بالتوكل على الله وعدم القنوط من رحمته فهو الذي يبعث فينا الرجاء والأمل، ويعيننا على التصدي للملمات والإنتصار على القاسيات، فالثقة بالله تزيدنا عزيمة وإصرارا على الخير، وترفعنا درجات في فضاءات المسرات، فما خاب مَن إعتمد على الله القادر القدير".

والخلاصة أن هذه الوصية ذات قيمة سلوكية فاضلة وتهذيب نفسي جميل، يجعل من يتخذها منارا ومرشدا أقرب إلى النقاء والصفاء والشعور بالسعادة الأرضية وما بعدها، لأنها تُفَعِّلُ في الإنسان طاقات الروح والحكمة وتشحذ العقل بالقدرات الكفيلة بإعماله وإشراقه المنير.

وتلك ذخيرة سلوكية من نفائس كنوز أمةٍ سادت بخُلقها الرحيم الكريم!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

في المثقف اليوم