قضايا

الحكام العرب وجنون الكرسي!!

صادق السامرائيالتشبث بكرسي الحكم عاهة سلوكية عربية، لا مثيل لها إلا في المجتمعات الغائرة بالتاخر والإنحطاط، والتي تفوّقت على العديد منها بعض الدول العربية.

فالحاكم العربي يتمسك بالسلطة ولا يمكنه أن يتصور نفسه خارج تابوت الكرسي، مما جعله ينتهي إلى مصير مشين ومذل.

والصورة تتضح في بعضها أكثر من غيرها، ففي العراق إنطلقت هذه المتوالية الدامية منذ إبادة الحكم الملكي عن بكرة أبيه، وتواصلت بعنفوان رهيب، حتى أن أحد رؤساء العراق طُلب منه التنحي مؤقتا للحفاظ على العراق وشعبه، فما كان منه إلا أن أعدم صاحب الإقتراح وهو وزير ورفيق نضال، وإنتهى به المآل إلى أفظع إذلال.

وفي ليبيا حصل الذي حصل وإنتهى قائدها الهمام في مأساة وهوان ما بعده هوان، وما جرى لحاكم اليمن بعد عقود من الإستبداد، وكيف أنه خرّب البلاد ودمّر العباد وتمرّغ بنهايته المشينة، وقبلها مصر التي ما تزحزح عن كرسي الحكم فيها الرئيس الذي آل إلى ذلك الحال.

وفي تونس حصل الذي حصل، وأخيرا ما إنتهى إليه الكرسي في السودان، والبقية ستأتي وقد آن الأوان.

ترى لماذا يتشبث الحاكم العربي بالكرسي؟

أولا: فوق الدستور والقانون

ربما ينفرد الحاكم العربي بهذه الصفة فهو الدستور والقانون بل فوقهما، وفي عرفه أن القانون عبارة عن كلمات يمكنه أن يكتبها أو يمحقها أنّى يشاء ويرغب، وهذه المتعة التحكمية اللذائذية المهيمنة على ما فيه من المطمورات، تدفعه إلى إحكام قبضته على الكرسي والإمعان الشرس في الإقامة فيه رغم التحديات، لأنه يربط مصيره بالكرسي، الذي يتساوى مع حياته وروحه، فلا معنى لوجوده دون الكرسي.

ثانيا: الإمتيازات المطلقة

الحاكم العربي يعيش في فضاءات المطلق، ولا يمكنه أن يقارن نفسه بأحدٍ سواه، وبما أنه في كينونة مطلقة فأنه سيعبّر عن المطلق في كل شيئ، وسلوكه سيدلل على ذلك ويبرهنه بالفعل الملموس والمتكرر،  لكي يتحسس إرادته المطلقة ويده التي لا يمنعها أي شيئ من الوصول إلى ما تريد، أي أنه يعيش في حالة إنفلات رغبوي يسوّغ له ما لا يسوّغه لغيره، ومما يساهم في ذلك المراسيم والبروتوكولات اليومية للحاكم التي توهمه بأنه هو ولا غيره.

ثالثا: التحرر من الرقابة والمحاسبة

الرئاسة أو السلطة مسؤولية محكومة بضوابط وقوانين وتخضع للرقابة والمحاسبة، لأنها أمانة وتفويض للحفاظ على حقوق الوطن والمواطنين، لكنها في العُرف العربي، أن الحاكم هو الذي يُحاسب فهو المنزه وما عداه يكون مسؤولا أمامه وليس أمام القانون، فهو الذي عليه أن يُراقب وفقا لمعايير رؤيته، وما تمليه عليه تصوراته للحكم وأجندات البقاء في الكرسي.

رابعا: وهم العظمة

هذا الوهم الفاعل في الكرسي يغذيه المداحون والمتملقون ووعاظ الكراسي من المدعين بالدين، والمنتفعين من الحاكم الذي يهبهم مما لا يملك، فهناك نزعة منحرفة عند المواطنين بأنهم يسقطون ما فيهم على الحاكم، فكلما زاد حرمانهم وإستعبادهم تنامت آليات تعظيمهم للحاكم، وكأنهم يسقطون عليه ما فيهم من الأحلام الفنتازية والتصورات الرغبوية النابعة من شدة القهر، ولهذا يتطوأس عليهم الحكام، ولا يشعرون بمرارة ما يعانونه ويتضورون منه.

خامسا: وهم الإنجاز

الحاكم العربي عموما يتميز بضيق الأفق وعدم الإطلاع على ما يحصل في الدنيا من تطورات ومستجدات على جميع الأصعدة، فهو منغمس بالدونية والتبعية والإستهلاكية والإستجداء، ولا تجد عنده همة العمل والثقة بالوطن والشعب، وإنما يعتاش على الآخرين، ووفقا لهذا المنظور فأن ما ينجزه من مشاريع محدودة تبدو في وسائل إعلامه على أنها عظيمة، وما هي إلا ضحك على الذقون وخداع للشعب المسكين المبتلى بالغارقين في كرسي مشؤوم.

سادسا: الحاشية

هي الحلقة التي تحوم حول الكرسي، وما يهمها مصالحها ومنافعها بأنواعها، ولهذا فأنها ذات أساليب خداعية وتضليلية تغذي الحاكم بما يعزز منافعها وتبعد عن وعيه ما يتعارض معها، والعجيب في الأمر أن معظم الحكام العرب يتوهمون المعرفة ولا يستشيرون ذوي الكفاءة والخبرة، وإنما يريدون الجهلة والمخادعين الذين يصفقون لكل عبارة يقولونها، ويوهمونهم بأنهم لا ينطقون عن الهوى، وأن ما يقولونه يجب أن يكون مشاريع للعمل ومنطلقات للقوة والرقاء.

سابعا: الشعب

الشعب يساهم بقوة في إدامة الحاكم في السلطة، وذلك بإستكانته وإستلطافه للصعاب والإرتهان بالحاجات والتلذذ بالمكابدات الأليمة، وفي عرفه إنها تعبّد له طريق الوصول إلى جنات النعيم، والسعادة الأبدية، فالدنيا دار شقاء وعناء وبلاء، ولا يمكنها أن تكون غير ذلك.

ومن الظواهر التي يصعب تفسيرها أن الشعب المصري إستكان للحاكم ثلاثين عاما، وكأنه في سبات حتى إستيقظ بغتة وإستفاق من نومة العدم والضياع والألم.

ثامنا: المصالح

أعمار الحكام العرب تتناسب طرديا مع قدرتهم على إدامة المصالح الإقليمية والعالمية، وكلما كانوا أوفياء لها ومنفذين ماهرين طالت أعمارهم التسلطية، وحالما تنتهي المهمة يتساقطون وينسفون من مواقعهم، التي تألهوا فيها وتضخموا حتى أصابهم الغرور القاتل، والنرجسية النكراء، وإذا بهم يتهالكون كالعصف المأكول، وهم في ذهول.

تاسعا: الغيبية

الحاكم يشعر أنه موجود بإرادة ربانية، وربما يعتقد بأنه الذي يعمل على تطبيق شريعة ربه، وهو المصطفى لتنفيذ مهمات السماء، فتراه يقدم على الفتك بالآخر ويحسب ذلك غضب الله على الضحية، التي لا مناص من تنفيذه وإحلاله بها، لكي يتوافق مع إرادة ربه الذي لا يعرفه حقا.

عاشرا: التملكية

التيقن بأن الوطن بما فيه وعليه ملك صرف للحاكم يبدو واضحا في سلوكه وخطاباته، وكيف ينظر للناس من حوله، فهو المالك وبيده مصير البلاد والعباد، وعليهم أن ينفذوا ويترجموا منطق " السمع والطاعة"، وإلا فأن الذي لا يتبع ولا يخنع يكون ضد الوطن ومن الخونة والمتآمرين.

حادي عشر: الأمية

والمقصود بها الأمية السياسية والسلوكية والفكرية، وعدم القدرة على إستيعاب ما يتصوره الآخرون ويرونه ويترجمونه في أجنداتهم التفاعلية مع الدول، وهذه الأمية توهم الحاكم بأنه يدري ومتمكن، وأن ما يدور من حوله لا يستحق فهمه، فهو فوق الجميع، لأن الأمية تدفعه إلى تصور المعرفة المطلقة، فيتلذذ بها ويتمسك بما يعززها وهو الكرسي.

ثاني عشر: إنتفاء قيمة الإنسان

الواقع العربي بدلائله وأوضاعه العامة يبرهن على أن الإنسان بلا قيمة وهو رقم وحسب، ولهذا فأن الحاكم لا يعير إهتماما لما يتصل بالمواطن، فهو رقم يمكنه محقه وجمعه وطرحه وضربه ببعضه، ولا يعنية ما يريد أو يطالب به، فعليه أن يستسلم ويرضى ويحمد ربه ويتوسل للكرسي، لكي يمّن عليه ببعض حقوق إنسان أو حيوان، وهذا السلوك من قبل المواطنين هو الذي يغذي نزعة الإستبداد والإستعباد عند الحاكم، ويدفعه للتمادي بالإستحواذ على كل شيئ والإقامة الأبدية في الحكم.

ثالث عشر: القوة المزعومة

الحاكم العربي يصاب بعاهة إمتلاك القوة المطلقة وأنه المُهاب المطاع، ولا يمكن لأحد مهما تصور أن يقترب من عرشه العظيم، فأجهزته القمعية بالمرصاد لأي مناوئ ومتطلع إلى لمس قوائم الكرسي العتيد، فتجده يمعن بالظلم وبناء المعتقلات والسجون، التي يذيق فيها الناس صنوف العذاب الشنيع، وبهذه الأساليب يرى أن كل شيئ في قبضته المطلقة، ويغفل أن القبضة لا تدوم، فيقبض عليه الذين كان قابضا عليهم.

رابع عشر: الإنقطاعية

الحكام العرب منقطعون عن الواقع اليومي للمواطنين ويعيشون في صوامعهم، وتحت منظومة المراسيم والضوابط الرئاسية التي تحركهم، وكأنهم آلهة متعالون عن الناس ويرونهم كما يتصورونهم أو كما صوروهم لهم، فتراهم يتكلمون بلغة وكأنهم يخاطبون مخلوقات في عوالم أخرى، وهذه الإنقطاعية تمنعهم من التفاعل الحقيقي مع الواقع الجماهيري وتمنحهم الزهو والخيلاء، الذي سيطيح بهم عندما تصطدم رؤوسهم بصخرة الواقع المقيم.

خامس عشر: الإنجازية

قيمة الحاكم بما ينجزه ويقدمه لشعبه ووطنه، وهذه قاعدة معمول بها في الشعوب كافة إلا الشعب العربي، فأنه لا يأبه لهذا الموضوع ويكون الحاكم عنده عبارة عن موجود لتغذية عواطفه، والتعبير عما فيه من المكبوتات وبالكلمات وحسب، لأن العربي ميال لإتباع القول وإعتباره هو الإنجاز، فالقول عنده أصدق من العمل الواضح المبين، ولهذا ترى الحاكم يمعن بخطاباته الفارغة وشعاراته الوهمية، والناس تحتفي به وتنتمي إليه وتريده وتفديه بالروح وبالدم، وتسعى لتأبيده في الكرسي، وهو يصدّق ذلك ويعمل على تحقيقه، حتى تتساقط الأقنعة وتتكشف الأستار.

سادس عشر: التبلدية

العلاقة القائمة ما بين المقربين للحاكم والحاكم تصيبه بتبلد الأحاسيس والمشاعر، فيفقد قدرات التفاعل مع ما يجيش في دنيا الناس، ويزداد بلاهة وتبلدا مع الأيام حتى لتجده يتكلم وكأنه من أصحاب الكهف، الذين ناموا عدة سنين وإستيقظوا، فيبعث بخطاباته إلى الشعب وكأنه الغريب عنهم والبعيد عن معاناتهم وما يشعرون، والمشكلة أنه يؤمن بأنه على حق ويعمل على تحقيق أمانيه، التي هي أماني الشعب بالقطع والأمر.

سابع عشر: الدوغماتية

الحاكم العربي يرى أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه أو يناقشه، والناس من حوله أما معه أو ضده، وبهذا يضع نفسه في محنة خداعية وتضليلية تقضي عليه آجلا أم عاجلا، لأن الناس لا تريد أن تخوض معركة خاسرة، ولهذا تجدها تبدو على أنها مع الحاكم وهي في حقيقتها ضده، وهذا ما تحقق وبانت تداعياته وكأنه القنبلة الموقوتة والكمين الأمين.

ثامن عشر: التألهية

الحاكم العربي يتأله ويتصور بأنه إله، بمعنى أن قوله هو القول السديد، وهو المعصوم من الخطأ، وهو الذي جاء من عالم بعيد، وكأنه يريد القول بأنه يحكم بتفويض إلهي أو أن أمه أو أبوه من الآله، أو أنه نصف إله، وهذه المشاعر والأحاسيس متوارثة عبر العصور الغابرة، التي كانت أنظمة الحكم فيها ذات آليات إلهية أو متصلة بالآلهة، ومعنى ذلك أن وجود الحاكم في الكرسي بأمر إله، وهو الذي جاء به وهو الذي سيأخذه بعيدا عن الكرسي عندما يشاء.

أي أن وجوده في الكرسي قدَري!!

تاسع عشر: المديح

سلوك المديح عربي بإمتياز، فلا يوجد حاكم في الدنيا يتلقى مديحا مثل الحاكم العربي، وخصوصا من الشعراء والكتاب وأدعياء الدين، وغيرهم من رؤوساء العشائر والقبائل والرموز الأخرى، فالعرب تستشري فيهم عاهة المديح، لأنها كانت ومنذ العصور القديمة الوسيلة السهلة للفوز بالعطايا والحصول على المال من ذوي الجاه والسلطان.

وهذا المديح خدعة كبرى يتوهم بموجبها السلطان بأنه في حرز وأمان وأن الشعب يحبه ويريده على الدوام.

عشرون: الكبرياء المرير

المشكلة العسيرة التي تنفرد بها الكراسي العربية هو تمدد الأنا الحاكمة وتماهيها بالوطن والشعب، فيحسب الحاكم أنه هو الوطن والشعب معا، وأي تعارض معه أو رفض له يعني عدوانا على الوطن والشعب، وتصبح صورته تمثل الوطن وتتفوق على أي رمز ولهذا تكون صوره في كل مكان، ويفرضها على خارطة الوطن، فتصبح مجسمة بكينونته البدنية، ويتحول إلى مقياس أو معيار للوطنية والإخلاص والتفاني والتضحية، ومن ينال منه ينال من الوطن والشعب ويتهم بالخيانة العظمى.

 

وأخيرا، إن إحترام الدستور والقانون والإنسان من ضرورات الحياة المعاصرة التي لا أولوية قبلها ولا سلطان.

فهل سنتجاوز مرحلة الخنوع والإذعان، وننطلق أحرارا في مملكة الإنسان؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم