قضايا

"بشرية القرآن الكريم" نموذج متقدم في فكر الدكتور عبد الكريم سروش

قراءة متسائلة

إن مشروع المفكر الإيراني الدكتور عبد الكريم سروش لازال يتسم بالجدل الساخن، ويتلقى يوميًا مطالعات نقدية مختلفة في نوعها وجدتها. وهذا يعكس في جانب منه، أن نصه مؤسس ومثير لنصوص معرفية أخرى، تقترب منه تارة بالمؤالفة وتارة بالمخالفة.

لقد حفز الدكتور سروش في أبحاثه ودراساته المشهد الثقافي عامة والفكري خاصة، منذ توصيفه للتجربة الإسلامية بالتاريخية، بل وذهب إلى أن التجربة النبوية أيضًا هي تجربة تاريخية، مقابل التوصيف التقليدي المشهور الذي يرى فيها تجربة مطلقة متعالية على الزمان والمكان.

ومن الواضح انه لا سبيل للتعامل مع اشتغالته وأعماله إِلَّا بالحوار والفكر والنقد من دون الدخول في التوصيفات الدينية الاقصائية والحذفية.

وأخر القناعات الفكرية للدكتور سروش ما أشار إليه في مقابلته مع صحيفة (زمزم) الفارسية. إذ عدّ القرآن ما هو إلَّا نتاج عصره، وان النبي محمد كان له الدور المحوري في خلقه.

فالقرآن هو تجربة النبي الدينيّة وتم بسطها على جدلية من التأثر والتأثير، فمعناه من الله ولفظه من النبي محمد. يقول الدكتور سروش: " لقد كان لتاريخ حياته وحياة أبيه وأمه، وفترة طفولته وصباه، وحتى حالاته الروحية، دور في إبداع القرآن، فإذا تلوتم القرآن تشعرون أن الني محمد كان في بعض الأحيان فرحا طروبا وفي غاية الفصاحة، في حين تجدونه في أحيان أخرى، مفعم بالضجر، ويلجأ إلى بيان مراده بكلمات عادية جدا مما يعكس جانب الوحي البشري."

وهو بذلك يشطب وجهًا من إعجاز القرآن المتمثل في بلاغته ومتانة تعابيره، لأنَّه يرى أن المعاني والمفاهيم صادرة من عند الله إِلَّا أنّ الشكل والألفاظ والكلمات من صنع النبي. فالقرآن جهد مشترك بين الله والنبي.

وقد ناقشه في ذلك عدد من العلماء ومنهم الشيخ جعفر سبحاني من خلال ثلاثة رسائل، رد عليها سروش بمثلها. والمعلوم أن هذه النظرية في جذرها التاريخي ترجع إلى محي الدين بن عربي وتبناه بعض المعاصرين، ومنهم: الشيخ محمد مجتهد الشبستري.

وقد كنت معجبة بعبد الكريم سروش وقوة بيانه ومتانة ردوده على الشيخ السبحاني في بعض الجوانب من رسائله. ولكن في الأشهر الأخيرة قد طالعت واشتغلت في كتب معاني القرآن وبيانه، ووقفت على رسالة الخطابي (ت388هـ) الموسومة بـ (البيان في إعجاز القرآن)، ورسالة الرماني(ت386هـ) الموسومة بـ ( النكت في إعجاز القرآن)، ورسالة الباقلاني(ت403هـ) الموسومة بـ( إعجاز القرآن). وجمعت هذه الثلاثة في كتاب حققه محمد خلف الله، ومحمد زغلول سلام. وهنا تبدلت كثير من قناعاتي المعرفية.

لقد عالج هؤلاء- الخطابي والروماني والباقلاني- موضوع الإعجاز القرآني والسر فيه وخلصوا إلى أن النظم القرآني هو نقطة الارتكاز الحقيقة في خلود القرآن وصموده وإعجازه. وللإيضاح، فهذا الخطابي يقول:" إن القرآن إنما صار معجزا: لأنه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني. " ص27. ويرى أن أجناس الكلام لا تخرج عن واحدة من ثلاثة:

1- البليغ الرصين الجزل، وهو أعلى طبقات الكلام.

2- الفصيح القريب السهل، وهو أوسط طبقات الكلام.

3- الجائز الطلق الرسل، وهو أدنى وأقرب طبقات الكلام.

وهذه أقسام الكلام المحمودة دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة. وقد حازت بلاغة القرآن في كل قسم من هذه الأقسام حصة. وانتظم لها نظم من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة.

وهذه الأقسام الثلاثة متوفرة في أسلوب القرآن وبلاغته. من دون تنافر أو تناقض. فالمخاطبون ليسوا سواء، فمنهم الحضري الذي هذب لسانه، ومنهم سكان البادية. والموضوعات التي يعرض لها القرآن ليست سواء كذلك, فالحديث عن الوصف والنسيب يختلف عن الحديث عن الهجاء، وهذا يختلف عن الفخر، وأسلوب الهجاء يختلف عن أسلوب الرثاء، وأسلوب الترجي يختلف عن التخويف وهكذا.

ومن ثَّم، فان بلاغة القرآن اشتملت على هذه الأنواع الثلاثة، وهذا صحيح، فأنت حين تقرأ في القرآن وهو يحدثك عن يوم القيامة، وعما يجري فيه للمكذبين، فانك تجد الكلمات الجزلة القوية المتينة. ومثال ذلك سورة الحاقة. ولكنك حين تقرأ ما أعدَّ للمؤمنين تجد الكلمات السلسة العذبة، وسورة الإنسان شاهد عليه. وفيما بين هذا وذاك تجد الوسط.

وللبرهنة على ذلك اتبع الخطابي في نظريته البيانية المنهج الاستبدالي أو الحذفي، القائم على فرضية استبدال لفظ محل لفظ آخر من الألفاظ القرآنية، وكيف سيكون النظم أو المعنى إن تم الاستبدال. وهذا ما نراه واضح البيان عند الباقلاني أيضًا. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (فأكله الذئب) (يوسف:17)، فكلمة "أكل" ليست فصيحة والأفصح أن يقال: افترس، لأن الافتراس خاص بالسباع، والأكل عام فيها وفي غيرها.

ويرد الخطابي هذا القول، فيبين أن الفرس أصله دق العنق، ومعناه القتل فحسب، أما الأكل فهو الإتيان على جميع أجزاء الفريسة وأعضائها، ولو أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم افترسه، لطالبهم ببقية أجزائه. (البيان في إعجاز القرآن، 27.) فمنهج الخطابي ينفي الترادف في القرآن الكريم جملة وتفصيلا، فكل لفظ قائم بذاته. واشتغل على الربط بين الدال والمدلول، وهذه القضية قادته إلى التوسع والانتشار في النظوم والضروب المتنوعة لهذا النظم والتأليف.

وهنا نسأل هل نجد هذا النظم الدقيق في أي شعر أو نثر بغض النظر عن صاحبه ؟ ولا بأس أن أشير إلى قضية مهمة تشكل ثغرة في جدار ما أشار إليه سروش، وهي أن الباقلاني قد اعتمد المنهج "الموازني" القائم على موازنة النص القرآني بنصوص بيانية أخرى، وقد برهن في هذه الموازنة علو النص القرآني ورجحانه على تلكم النصوص الموازَنة معه. فعمد إلى الشعر العربي وقصائده الخالدة، وبعض خطب النبي والصحابة وحللها ووازن بينها وبين نظم القرآن، لينتهي به المطاف إلى التمايز البنيوي بين النص القرآني وبين النص البشري، بما فيه النبوي، فيقول : " فأسلوب القرآن على درجة واحدة من حيث الفصاحة والسهولة وعذوبة الألفاظ وقربها ووضوحها وتساوق النظم وتتابعه على النظم الذي نجده فيه، وهذا لا يطّرد على هذه الصفة في كلام البشر."( إعجاز القرآن، 71). وقال أيضا: إن الله سهل سبيل القرآن فهو خارج عن الكلام الوحشي المستكره، والغريب المستنكر، والصنعة المتكلفة، وجعله قريبا من الإفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، وهو ممتنع المطلب، أما كلام الفصحاء، وشعر البلغاء فلا يخلو من تصرف غريب مستنكر أو وحشي مستكره ومعان مستبعدة." (إعجاز القرآن، 71)

والباقلاني ينفي الترادف أيضًا، فيقول: " إن البيان القرآني بيان ثابت ومحكم وأن كل لفظ وكل نظم جاء في أبهى صورة وأبدع مكان إذ إن كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضوعة في مكانها إذا أبدل لفظ مكان غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذي يكون معه سقوط البلاغة ذلك أن في الكلام ألفاظا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم والمعرفة والشكر والحمد والبخل والشح وكالنعت والصفة، وكقول: اقعد واجلس، وبلى ونعم، وذلك وذاك، ومن وعن، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف والصفات." (إعجاز القرآن، 72)

ومن هنا يتضح لنا في هذا المفصل عدم دقة الدكتور سروش في نظريته، فالقدرة التي يتمتع بها القرآن، على مستوى النظم لا يجاريها أحد، بما فيهم الأنبياء وخاتمهم.

وبقي أن أشير إلى ضرورة مطالعة التراث التفسيري وبالخصوص الإعجاز البياني لمعرفة أسرار التعابير القرآنية الذي يمثل الإعجاز فيها انتزاعًا مهمًا من انتزاعاته. والغريب أن الشيخ جعفر السبحاني الذي ناقش الدكتور سروش وطالت مناقشته لم يلتفت لهذا الوجه الاعجازي البليغ.

 

سُميَّة إبراهيم الجنابيَّ

ماجستير- كلية العلوم الإسلاميَّة

جامعة بابل.

 

 

 

 

في المثقف اليوم