قضايا

جون هرمان راندال ومكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العلم الحديث (3)

محمود محمد عليننتقل هنا في هذا المقال كما يقول راندال من الأشياء التي لم يحققها ليوناردو رغم عبقريته إلي منجزاته الحقيقية وعبقرية في الأمور العلمية، وفي هذا نقول أن التيارات الفكرية التي ظل انتشارها محدودا إبان العصور الوسطي قد اكتسبت دفعة حديدة وزخما عظيما خلال عصر النهضة، فكان أ، شاعت أفكار جديدة بين الناس مما حدا بهم إلي التفكير في أمور كثيرة وحثت المفكرين والعلماء والمبدعين علي جلب المزيد، أما كيف حدث ذلك التفسخ في الحواجز التي كانت تمنع التقاء ميدان علمي بميدان آخر أو تحجب تيارا فكريا عن الانتشار بين الناس، فإن ذلك يحتاج إلي استقصاء لكافة العوامل التي كانت سائدة آنذاك، إذ لا سبيل إلي تفسير ما حدث إلا عن طريق رصد شامل لكافة القوي والضغوط الاجتماعية ومعرفة طبيعتها . ولكن أيا كانت الأسباب التي خلفت ذلك التحول الفكري وتبدل حالة، فإن ليوناردو كان بمثابة متأججة آنذاك، وكان من فرط تأثره بما يدور حوله أن جاءت أفكاره وكتاباته مصورة، علي أوضح ما تكون عليه صوره لجمله المذاهب والنشاطات الفكرية التي برز العلم الحديث من بين ثناياها . ويمكن أن ندلل علي ذلك فيما يلي كما يقول راندال:

أولا: نجد المدرسة العلمية – ومدرسة النقد الواعي التعاوني التراكمي للفيزياء الأرسطية التي بدأت مع وليم اوكام، أكثر نقاد أرسطو تحررا، في مجال أفكاره من العمليات الطبيعية، واستمرت بدون انقطاع من خلال التحليلات الزائدة لمدرسة اوكام في القرن الرابع عشر علي يد علماء ميرتون في اكسفورد وسوايزيذ وتسبيروس ودمبلتون وأستاذة باريس وجين بيوريدان وألبرت الساكسوني ومارسيليوس ونيكولا الاورزمي والفلاسفة الطبيعيون في إيطاليا في القرن الخامس عشر . كان ليوناردو في قراءاته محتكا بتلك المدرسة العلمية كما أوضح دوهيم .

ثانيا: هناك تحمس ليوناردو للرياضيات الذي تعدي استخدامها الأداتي الذرائعي الواضح . من الصعب تحديد المفهوم الذي كان عند ليوناردو عن الرياضيات بوصفها أبجدية الطبيعية ومازال الأمر يحتاج إلي مزيد من البحث . لا تظهر عند ليوناردو أية آثار لفكر فيثاغورس أو أفلاطون، وإذا ما حللنا مفهوم ليوناردو عن الرياضيات كما صوره في رسوماته أفضل مما كتبه نثرا نجده يختلف اختلافا واضحا عن مفهوم " دورر " الاستاتيكي الهندسي . فليوناردو يحاول أن يتلقط الحركة وليس العلاقات الهندسية . فرسوماته تنقل نظرة تفاضلية للعالم تشبه نظرة " ليبنتز " وليس مجرد نظرية هندسية كما نجد في الفكر اليوناني، فليوناردو ينتمي في نظرته الرياضية إلي العالم الديناميكي الفاوستي وليس عالم الكمال الهندسي الثابت في الفكر اليوناني .

ثالثا: هناك ما يسميه إدجار زلزل "الحرفي الفائق" وهو الرجل الذي يخاف من تناول فكرة والتجريب عليها . وقد كان زلزل بسبب خلفيته الماركسية مجبرا علي أن ينسب تطور الفكر العلمي إلي أعمال الحرفي الفائق أو التكنولوجي، ولم يكن ليقبل أفكار أرنست كاسيرر التي تقول بالعلاقة بين التأثيرات الأفلاطونية وتطور الأفكار العلمية . وهو علي حق في ذلك فالتأثير الوحيد للأفلاطونية علي تطور الفكر العلمي هو تشويهه وتأسيسه علي مفاهيم أفلاطونية تحتاج إلي كثير من التحميص . ولم يري زلزل النور في هذه المسألة إلا عندما أوضحت له أن " ديميورجوس " في التيماوس كان في الحقيقة حرفيا فائقا .

لكن تبقي حقيقة أن الأساتذة الاكاديمين كما يقول راندال مثل بول الفينسي وكاجيتان الثيني بمنطق جيد متقن الاعتراضات التي أثيرت منذ وليم الاوكامي علي الفيزياء الأرسطية، وخصوصا علي ديناميكا الحركة الحادثة عتده . لكن ليوناردو كان مختلفا، فبعد قراءته تلك الاعتراضات بدأ في تمحيصها في الحال وصمم التجارب ليتوصل إلي مدي صدق هذه الاعتراضات، ولم يكن لديه كتلميذ لفيروكيو مخاوف من التجريب . هذه العادة المتمثلة في التجريب، والتي جاءت من الكاتدرائيات الاكاديمية هي ما كان له أثر من عند ليوناردو، فقد حاول كثيرون تقليده في ذلك بدليل أننا كما يقول راندال نجد أثار ميل ليوناردو إلي التجريب في هندسة تارتاجليا التطبيقية، وهو أعظم علماء الرياضيات في القرن السادس عشر في إيطاليا . وكان جاليليو ينتمي إلي هذه المدرسة، فكان مخترعا لا يهدأ ولا يكل ولا يمل . وعلي هذا فليوناردو لا ينتمي إلي العلماء ولكن إلي المخترعين النبلاء . وليست متأكدا مما إذا كان ذلك  إهانه لعصر النهضة أو لعصرنا نحن ان نقول أن ليوناردو ربما كان إديسون أنسب من اينشتين بالرغم من أن الثاني كان له خيال أوسع وأعمق من توماس ألفا . إن لدي شكا كبيرا في أن السيد ت.ج . واتسون علي الصواب عندما يقول: لو كان ليوناردو علي قيد الحياة لفضل العمل في شركة الآلات الدولية، وإلا إذا اصطادته شركة جنرال موتورز، فلم يكن يراعي الضمير أو الحكمة وكان بعيدا علي الأخلاق بعد ميكافيللي عنها .

وكثيرا من مقولات ليوناردو تتناول المنهج الفكري المناسب الصحيح ولديه الكثير مما يقال عن العلاقة عن العقل والتجربة، وما قاله جعل بعض الشراح كما يقول راندال يرونه سابقا لفرنسيس بيكون في المنهج الاستقرائي وكأن هذه الطريقة تقترب إلي حد ما من الطريقة التي استخدمها علماء القرن السابع عشر. من هذه المقولات كما يقول راندال: " لا العقل وحده ولا التجربة وحدها تكفي، فالذين يفتنون بالممارسة علي حساب العلم كصاحب السفينة الذي يقودها بدون شراع او بوصلة ولا يعرف من أين يذهب . من هذه الناحية فإن التفكير المجرد لا جدوي منه "، يقولون أن تلك المعرفة التي تنبثق من الاختيار هي معركة آلية، وإن المعرفة التي تولد في العقل وتنتهي إليه هي معرفة علمية، علي أنه يبدو لي أن تلك العلوم التي تولد من التجربة - وهي أم كل يقين - وحتي لا تنتهي في الملاحظة  - أي في تلك العلوم التي لا تمر في منبعها أو سياقها المتوسط أو نهاياتها بإحدي الحواس الخمس علي علوم باطلة وطافحة بالأخطاء ".

غير أن ليوناردو لم يشغل نفسه كما يقول راندال بتعريف المصطلحات الأساسية مثل " التجربة " و " العقل " و " اليقين " و " الحقيقة " وبالتالي أطلق الأحكام علي عواهنها، من تلك الأحكام " اليقين يعتمد علي التجربة " مع العلم أنه ليس هناك يقين في عدم وجود مبادئ العلوم الرياضية ولا عندما ينفصل الموضوع عن الرياضيات .

في الواقع أطول ما قاله ليوناردو عن المنهج هو أرسطي في طبيعته كما يقول راندال، فهو يقول " العلوم الحقيقية هي التي فيها تدخل التجربة، وتخرص كل ألسنه المعارضين ولا تغذي مكتشفيها بالأحلام، ولكن تتحرك تعاقبيا من الحقائق الاولي إلي المبادئ الظاهرة إلي النهاية، كما يحدث في الرياضيات الاولية مثل العدد والقياس ... العلوم التي تسمي الحساب والهندسة والتي تتعامل بكميات بالغة الدقة والصدق هي متميزة ومثمرة . هنا لا جدال في أن 2 * 3 تنتج 6 أو أن مجموع زوايا المثلث أقل من 180 درجة ولا معارضة، وهذا ما لا تفعله العلوم الذهنية المضللة . لكن في البداية سوف اتجه إلي التجربة لأن نيتي أن اقتبس من التجارب ثم أثبت بالفكر والعقل لماذا حدثت التجربة كما هي عليه . وهذه هي القاعدة التي يجب أن يتبعها اولئك الذين يريدون بحث الآثار الطبيعية، ومع أن الطبيعية تبدأ من العقل وتنتهي إلي التجربة، فلابد أن نسير كما يقول راندال في الاتجاه المضاد، فنبدأ بالتجربة ثم ننتقل إلي الفكر والعقل بناء علي ما تتوصل إليه التجربة " .

هذه المقولة تقترب كما يقول راندال إلي حد كبير من المنهج الأرسطي لا نظرة أفلاطون، وكذلك مقولة ليوناردو نظرة أرسطية: " أليس هناك من تأثير في الطبيعي بدون سبب . فماذا فهمت السبب لا حاجة إلي التجربة "، وهي مقولة أكد عليها جاليليو فيما بعد .

وعندما يحاول أن يدافع عن مهنته ضد الفلسفة والشعر والموسيقي بأسلوب إنشائي تقليدي يؤكد كما يقول راندال علي ثقته الفنية في الطبيعة التي يلاحظها: " إن علم التصوير هو العلم الوحيد القادر علي محاكاة كافة أعمال الطبيعة الظاهرة، فإنك بذلك ستزدري دونما شك، أحد الابتكارات المرهفة، التي تصل عبر تأمل فلسفي وتفكير عميق إلي الكشف عن نوعية الأشكال علي تعددها، من بحر إلي سهل إلي نباتات وطيور وزهور وحيوانات . هي في مجموعها شرائط من الأضواء والظلال . حقا، أنه لعلم شرعي من أبناء الطبيعة، لأنه ولد منها أو إذا أردنا التعبير بكلمات أصوب فهو حفيد الطبيعة، لأن كافة الأشياء الظاهرة لدينا ولدت من الطبيعة، ومن هذه الأشياء ولد التصوير، ولهذا من الأصوب أن نسميه حفيد الطبيعة وقريب الآلة "، " يتسع التصوير لتناول أسطح وأشكال وألوان كافية للأشياء التي تخلفها الطبيعة، بينما تنفذ الفلسفة إلي داخل أجسام هذه الأشياء نفسها، حيث تري هذه الأشياء تكمن داخلها، ولذا لا يقنع الفيلسوف بما يقنع به المصور، ولا يكتفي بتلك الحقيقة التي يكتفي بها، فهو يقبض في ذاته علي الحقيقة الاولي للأشياء، لان العين لا تنخدع كما ينخدع العقل "، " وللتصوير وظيفة تفوق الشعر في قيمتها، كما أن قدرا من الحقيقة التي يقدم بها أشكال أعمال الطبيعة يفوق ما في الشعر . وأعمال الطبيعة أجل من الكلمات، فالكلمات هي من أعمال الإنسان، والمقارنة التي يمكن عقدها ما بين أعمال الإنسان وأعمال الطبيعة، هي من قبيل المقارنة بين الإنسان والله . وبناء علي ذلك فإن محاكاة أشياء الطبيعة، وهي التضاهي الحقيقي والمماثلة الجادة أجل وأعلي قيمة بالفعل من محاكاة كلمات البشر وأعمالهم بالكلمات ".

تلك المقولات التي تتعلق بالصلة يبن العقل والتجربة مقولات بليغة مؤثرة، لكن عندما نقارن تلك المقولات الغامضة كما يقول راندال بتحليلات مفصلة لنفس العلاقة المنهجية تحليلات نجدها أجريت في نفس العصر في مدارس الأرسطية في جامعات إيطاليا حيث ندرك الفرق بين حكم الفنان وتحليل العالم .

لقد كان ليوناردو قبل كل شئ "مشرح للطبيعة"، استطاع كما يقول راندال أن يري ويوسم بحرفيته بوضوح الهيكل العظمي للعالم - طبقاته الجيولوجية وماضيها التي ترك آثاره عليها، واستطاع أن يري في كل مكان الآلات البسيطة للطبيعة، في حال عملها، في الإنسان، وفي العالم اللاإنساني سواء بسواء . إن التشابه الجذري بين الإنسان الصغير والطبيعة الكبيرة والذي أكد عليه ليوناردو كما يقول راندال ذلك التشابه لم يظل راسخا مع ظهور القرن السابع عشر الذي فصل الإنسان عن الطبيعة فصلا تاما، وأسس الازدواجية الديكارتية التي غيرت الفكر حتي رايل وعزل الطبيعة عن كافة العناصر الخارجية ونظر إليها نظرة ميكانيكية رياضية صرفة، لكن أثر فكرة ليوناردو عن العلاقة الحميمة بين الإنسان والطبيعة لم تكن مزعجة علي المستوي العلمي، كما كانت أفكار علماء النهضة العضويون والذين يمثلون باراسيليوس أفضل تمثيل، وذلك لأن ليوناردو مع اعتقاده في التشابه بين الإنسان والطبيعة - قد طور كليهما بروح العلم الجديد، ومثل لها الآلة، ورأي أن مبادئ الميكانيكا تعمل في مل مكان . وعلي ذلك ليوناردو الذي كرس حياته لإنشاء القنوات رأي القوي الميكانيكية للماء تعمل في كل مكان، وكان عبقريا في تصوير عمال القوي الهيدروديناميكية .

إذن الإسهام الحقيقي لليوناردو في العلوم الوصفية، هو أنه كما يقول راندال نقل بقلمه الرصاص الجوانب الأساسية للطبيعة، تلك الآلة العظمي في الترشيح والجيولوجيا والهيدروستاتيكا، كما أن ليوناردو ككاتب لا رسام _ قارئ بالغ الذكاء ولكن قمة علمه بلغها وهو يمسك بقلمه الرصاص حيث يلاحظ ويستكشف البنية الميكانيكية لما نلاحظ .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم