قضايا

مجدي عبد الحافظ .. غواص في فلسفة البيولوجيا (2)

محمود محمد عليكان مجدي عبد الحافظ يمثل واحد من عشاق فلسفة البيولوجيا والتي تهتم بدراسة العلاقة بين الأفكار والفروض العلمية التي يتقدم بها العلماء والفلاسفة، مثل : هل الحياة مجرد عملية فيزيائية؟، وما الطبيعة البشرية؟، وما الصفات التي تميزنا بشكل جوهري عن باقي الكائنات؟، وما الذي يحرك السلوك البشري؟ ولماذا نفعل ما نفعله؟ وما حرية الإرادة بالضبط؟ وهل جعلتنا الحضارة أفضل؟ وهل نستطيع الفرار من ماضينا القَبَلي والعنصري؟

هذه نماذج من الأسئلة التي قد تبدو فلسفية في ظاهرها، لكن علماء البيولوجيا صاروا يُدلون برأيهم فيها في العصر الحالي، ومن هؤلاء مجدي عبد الحافظ مؤلف كتاب "فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام"  ؛ ربما سيُدهًش البعضٌ من خلال هذا الكتاب بأن للحضارة الإسلامية دور فعَّال في إرثاء التصورات والجذور الفكريّة لنظرية التطور! نعم، لقد كان للمفكرين والفلاسفة المسلمين مكانة مرموقة بين أوائل العلماء الذين اقتادتهم عقولهم إلى وضع أشكالٍ من التصورات لعملية التطور، وكتاب مجدي عبد الحافظ  كتاب صغير الحجم ولكنه جميل في موضوعه، فهو يشرح وجود فكرة تطور الكائنات الحية لدي مجموعة من الفلاسفة المسلمين وهم : جماعة إخوان الصفا، وابن مسكويه ( توفي 932هـ)، والبيروني ( توفي 440 هـ)، وابن خلدون ( توفي 808 هـ)، والدراسة تعتمد  علي نقل أقوال كل فيلسوف وتحليلها وذكر ما لها وما عليها، وهي مكونة من تصدير يذكر فيه أولاً فكرة التطور في نظرية داروين، وثانياً يعـرض فكـرة التطـور قبل الإسلام خاصة عند اليونان، ويقدم مصطلح التطور فسيولوجياً في اللغة العربية، بعدها يناقش الفكرة عند إخوان الصفا وتطبيقاتها. وثانياً: عند مسكويه. وثالثا:ً عند البيروني الذي أفاد إلى حد كبير من التراث الهندسى عند ترجمته اللغة العربية. ورابعاً: نتعـرض لفكرة التطور نفسها عند ابن خلدون مستخلصين أهم ما يميز محاولته خاصـة ما أسميناه لديه علم التغير الخلدونى إضافة لدور العصبية في هذا، ثم التركيز على مفهـوم التطور الناحية البيولوجية، وحاولنـا تقييم بعـض جوانب الإشكاليـات لديه: حول الفلسفة وموقع الدين في التطور.

وعن التطور عند داروين، يقول مجدي عبد الحافظ: مثل كل النظريات والأفكار لم تأت نظرية داروين التطورية من فراغ، بل كان ثمة من فكر قريباً منها أو من معاصريه وجاء داروين ليتجاوز كل هذه الأفكار والافتراضات السابقـة: حيث أفاد من ملاحظته لبنية الأجساد بأن الأنواع متشابهة، مع مماثلة كل نوع منها لبيئته ومع تنوعها الشديد.

وقد جاءت التحولات والتطورات كما يقول مجدي عبد الحافظ عبر أزمنة جيولوجية استغرقت آلاف السنين، وينشر داروين عام 1871 كتابة تسلسل الإنسان والذي يؤكد انطباق ما يجري في عالم النبات والحيوان تماماً على الإنسان، من هنا يصبح العقل الإنساني لديه عضواً كسائر أعضاء الجسم، جرت عليه سنن التطور، وتعاقبت عليه مراحل التكيف، ويسير التطور لدى داروين بمقتضى الصدفة في الطبيعة المادية الخارجية، دون أن يرتبط بخطة أو هدف يتحتم بلوغه؛ إضافة إلى اعتبار الأنواع الحالية على اختلافها يمكن أن تفسر بأصل واحد أو ببضعة أصول نمت وتكاثرت في زمن طويل بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح.

وحول مفهوم التطور، يقول مجدي عبد الحافظ بالبحث في تراث المثقفين المسلمين فليس هناك سوى البيروني، فهو الوحيد الذي وضحت عنده صراحة كلمة التطور، فهو العالم المسلم الذي انفرد باستخدام مصطلح التطور للدلالة على معالجاته العلمية، والتي تشبه إلى حد كبير استخدام المصطلح في الحياة العلمية الحديثة، إلا أننا لا نعدم أن نجد لدى غيره من مفكري المسلمين إشارات وتلميحات كثيرة لمعنى التطور دون أن يروا المصطلح صريحاً كما جاء في عبارة البيروني.

ويتناول مجدي عبد الحافظ فكرة التطور عند مسكويه، قائلاً: يعد مسكويه من أهم الفلاسفة الذين بحثوا في مجال الأخلاق، وهو يعتبر من الفلاسفة المسلمين الذين اهتموا بالتطور وأهم ما قدمه في هذا الموضوع في كتابيه، الفوز الأصغر وتهذيب الأخلاق.

ويضيف: والعناصر الطبيعية لدى مسكويه إما بسيطة أو مركبة، البسيطـة منهـا إما عنصريـة مكونـة مـن عناصر أي بالعناصر الأربعة الإسطقات الماء والهواء والنار والتراب وإما غير عنصرية كالأجرام والأفلاك والكواكب، وتنقسم المركبة إلى نباتية أو حيوانية مما ينجم عنه وجود أربعة أقسام طبيعية: الأجرام والعناصر والنباتات والحيوانات لدى كل منهم حركة: حركة تغير المكان، وتغير الحالة أو تغير الأبعاد.

وعن هذه الأجسام الطبيعية يقول: للنبات في قبول هذه الأثر غرض كثير ومراتب مختلفة لا تحصى، إلا أننا نقسمه إلى ثلاث مراتب، وهى الأولى والوسطى والأخيرة؛ الأولى: من النبات تلك التي تزحزحه قليلاً عن دائرة الجماد بما يقبله هذا الأخير بما يخرج عن دائرته، فيعتبر ما يقبله من مود واعتداء وامتداد هي الحالة الزائدة في النبات التي شرف بها على الجماد؛ ويعتبر الطبقة الوسطى في النبات شرفاً زائداً عن المرتبة الأولى، حيث في هذه المرحلة يصير له من القوة في الحركة إلى أن يتفرغ وينبسط ويتشعب ويخفف نوعه من البذر؛ وتعتبر الثالثة والأخيرة من النبات هي التدرج الطبيعي لما قبلها الوسطى حيث يتدرج في هذه المرتبة ويقوى هذا الأثر فيه ويظهر شرفه على ما دونه حتى ينتهى إلى الأشجار الكريمة التي تحتاج إلى عناية من استطابة التربة واستغراب الماء والهواء لاعتدال مزاجها وإلى صيانة ثمراتها التي تحتفظ بها نوعها كالزيتون والرمان والسفرجل والتفاح والتين وأشباها.

وكما قسم مسكويه من قبل النبات إلى ثلاث مراتب يتطور خلالها النبات، نراه أيضاً يقسم الحيوانات إلى خمس مراتب أو رتب مقسمة بحسب عدد الحواس لكل رتبة حيوانية.

والأولى من الحيوان وهي التي تلي آخر مرتبة من النبات يلحقها مسكويه بأول مرتبة من الحيوان وفي المرتبة الثانية نجد أن من أهم سمات الحيوان أن ينتقل ويتحرك وتقوى فيه قوة الحس، كالدود وكثيراً من الفراش والدبيب.

وإذا انتقلنا إلى الرتبة الثالثة من ترتيب الحيوان لديه نجده يرتقى حينما تزيد عدد حواسه، وفي المرتبة الرابعة تزداد الحواس الثلاث السابقة الذكر حاسة أخرى رابعة وإن كانت ضعيفة لحد ما، هي البصر أي أن الحيوان في رتبته الرابعة يرتقي حيث يصير له من حس البصر ضعيف، كالنمل والنحل والحيوان الذي عيونه تشبه الخرز وليس له أجفان ولا ما يستر أحداقه.

وفي الرتبة الخامسـة والأخيرة وهي مـا يقابل الحيوان مكتمل الحواس الخمس اللمس والذوق والشمة والسمع والبصر نجد تطابقاً بين إخوان الصـفا وبين مسكويه فهو يدمج أيضاً في هذه الرتبة كل من اكتملت له الحواس الخمس بصرف النظر عن كونهـا بليدة الحس أو ذكيـة، أي أن الحيوان الرتبة الخامسة لديه متفاوتة المراتب.

ويحاول مسكويه تقسيم البشر من حيث قوة الفهم والذكاء تقسيماً يعتمد على الجغرافيا والتوزيع الإقليمي أكثر من أي شيء آخر، حيث يستند إلى أواسط الأقاليم، السبب في جعل سكاكينها أكثر قدرة على الفهم وأسرع الناس على قبول الفضائل، وهو ما يرجع لتأثره بالبيئة العربية الإسلامية وتحيزه لها، بحيث يجعل مواطنيه هم أكثر الخلق ذكاء وقدرة واجتهاداً.

بمعنى أن يربط بنهاية الأفق الحيواني إلى مراتب الناس الذي يسكنون في أقاصي المعمورة من الأمم التي لا تميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، ثم تتزايد بينهم قوة التميز وسرعة الفهم والقبول للفضائل وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبقة التي وكلها الله عز وجل بالمحسوسات.

وينتقل مجدي عبد الحافظ في حديثه عن فلاسفة الإسلام إلى علاقة ابن خلدون، فيذكر على الرغم من تقلد ابن خلدون العديد من المناصب، فإنه لم يستطع أن يحقق ما كان يطمح في تحقيقه فعلياً، فقد كان طموحه السياسي أبعد من ذلك، لذا دفعه هذا الفشل السياسي إلى احترار هذه الهزيمة الذاتية، فانعزل عن الناس، وأخذ يتأمل حياته الماضية خاصة في الفترة فيها قبل هجرته لمصر، والتي انعزل فيها بقلعة ابن سلامة ورأى أنه ربما يجد سلواه في قراءة التاريخ، وهو الذي يعج بأخبار الهزائم والانتصارات ومن هنا جاءت دهشته، واكتشف لأول مرة أنه أمام ظاهرة محيرة، إذ وجد أن كتب التاريخ مليئة بالأغلاط والجهل.

والحق أن أهم ما يميز ابن خلدون عن معاصريه هو إلحاحه على الارتباط الوثيق بين المعرفة والمجتمع، إذ نظر إلى العلوم من حيث كونها ظواهر إنسانية تخضع لما يسميه طبائع العمران أولاً لأن الصنائع والعلوم لا يمكنها أن تنشأ إلا في مجتمع حضري توصل إلى تحقيق الضرورة في معاشه، إذ أن الناس ما لم يستوفوا العمران الحضري وتتمدن المدينة إنما همهم في الضرورة من المعاش وهو تحصيل أقوات الحنطة وغيرها.

فإذا تمدنت المدينة وتزايدت فيها الأعمال ووفت بالضروري وزادت عيه صرف الزائد حينئذ إلى الكمالات من المعاش تلك الكمالات التي يفسرها بأنها الصنائع والعلوم وبالجملة الأمور الفكرية، ونكتشف هنا لديه أن النشاط الفكري يأتى نتيجة ضرورية للنشاط العلمي.

ولابن خلدون مقدمته التي اشتهرت باسمه، وهي تنقسم إلى ستة فصول: الأول في العمران البشري على الجملة وأصنافه وقسطه من الأرض.

والثاني في العمران البدوي وذكر القبائل والأمم الوحشية، والثالث في الدول والخلافة والملك وذكر المراتب السلطانية، والرابع في العمران الحضري والبلدان والأمصار، والخامس في الصنائع والمعاش والكسب ووجوهه، والسادس في العلوم واكتسابها وتعلمها.

وأخيراً، يشير مجدي عبد الحافظ إلى التطور عن ابن خلدون فقد حاول ابن خلدون عن طريق علمه أن يضع القوانين التي يتحرك في إطارها تاريخ العمران الإنساني وهو علم يصحبنا خلاله ابن خلدون إلى جولة عبر التاريخ، تسير بنا رأسياً وأفقياً في الوقت نفسه.

وتأخذنا من البساطة إلى التعقيد ثم للانهيار، تبدأ بنا في علاقات إنتاجية متخلفة (مرحلة البداوة) إلى علاقات أخرى أكثر تقدماً مرحلة الحضارة إلى علاقات إنتاجية غير متحددة. وعليه لكي نفهم موقع التطور في هذا العلم، علينا أن نتوقف في منتصف الطريق ولا نستكمل الجولة معه حتى مرحلة الانقراض.

وننتقل إلي الخلاصة العامة التي وضعها مجدي عبد الحافظ لكتابه، وفيها وضح الأسباب المرتبطة بكل مفكر والتي جعلته يقول بالتطور، وهي في الأعم الأغلب، أسباب ترتبط بتنقلهم وإطلاعهم علي الثقافات والأفكار المختلفة، وهذا بالضبط ما أدي إلي الاختلاف فيما بينهم في طريقة عرض فكرة التطور وفي النتائج المترتبة علي اعتقادهم بالتطور .

ثم يخبرنا مجدي عبد الحافظ بالسبب الذي دفعه لكتابة هذه الدراسة وهو محاولة لإعادة بناء وفهم التوافق الفعلي لأفكار علماء المسلمين في ضوء عصرهم، لكي نوضح الرهانات الخاصة بطبقاتهم الاجتماعية في ذلك الحين؛  وأيضاً إنها محاولة لتقييم الإسهام الثقافي لهؤلاء العلماء بالنسبة لعصورهم وعصرنا إذا ما كان هذا جائزاً، ومن ثم لا نُحمل ما قالوه أكثر مما يحتمل، ولا نقوم بلي عنق الحقيقة لتناسبنا. وهو يعارض الدراسات التي تحاول تجميل الماضي والدعوة إلي العودة إليه أو جعل علماء المسلمين القدامي رواد كل نزعة علمية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- مجدي عبد الحافظ: فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام.. (كتاب).

2- أيمن رفعت : مجدي عبد الحافظ يناقش فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام.. (مقال).

3- حسان الخياط : قراءة في كتاب (فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام).. (مقال).

 

في المثقف اليوم