قضايا

تطور الحكاية ودور الترجمة في انتشارها

احمد الزاهر الكحل(ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة نموذجا)

يحاول البحث الوقوف على تطور الحكاية ودور الترجمة في انتشارها، انطلاقا من تطور وشيوع حكايات " ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" ، حيث ساهمت الترجمة في ذيوعها الحثيث مما ساهم في تلاقح الثقافات وتقاربها ونشر القيم والمواعظ بين أطفال العالم باختلاف أعراقهم وطبقاتهم، إذ أصبحت شخصياتهم شعبية ومألوفة. وعلى المستوى الأدبي كان لترجمة "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" مصدر إلهام للعديد من الكتاب الغربيين الذين قلدوا تلك الحكايات باحثين في تراث بلدانهم عن حكاياتهم الشعبية مثل "شارل بيرو"Charles Perrault/ الذي كتب أول كتاب لحكايات الأطفال في العالم وبعده "الأخوان غريم"les frères GRIMM/ ، أما "لافونتين"De la Fontaine/ فقد اقتبس العديد من فابولاته من "كليلة ودمنة".

مقدمة:

منذ القدم كانت القصة تحكى من أجل المتعة والتسلية فاحتلت المقام الأول في احتفالات القبيلة، لذا ليس غريبا أن يهتم الأولون كثيرا بخاصية الحكي،  لما لها من دور في تسلية الآخرين والترويح عنهم. فالحكاية تحافظ على لغة وعادات الشعوب و تعلمهم احترام الضوابط الأخلاقية التي تنظم الأفراد في نطاق زمني محدد، وقد تواترت هذه الحكايات جيلا بعد آخر. أما شخصيات تلك الحكايات فكانت و لا تزال تحمل فكر تلك الشعوب ومشاعرها الجماعية وخوفها من ظواهر غريبة تحدث في الطبيعة ، لذا فقد حدثت تعديلات كثيرة في تلك القصص مع مرور الوقت لتلائم تفكير وخصوصيات كل مجتمع، ولقد ساهمت ترجمتها إلى مختلف اللغات في تكييفها مع بيئة المجتمع صاحب اللغة المنقول إليها ، سنتطرق في هذه المقالة إلى محورين اثنين: تطور الحكاية ومساهمة الترجمة في انتشارها.

1- تطور الحكاية :

تعتبر الحكاية من أقدم الأنماط السردية ، فهي قديمة قدم الإنسان ويعود ظهورها إلى أزمنة غابرة ولا يعرف متى كتبت أول حكاية لكن هناك إجماع على أن أصل الحكايات الأولى تعود إلى الشعوب الشرقية، ومن هناك انتشرت إلى باقي أرجاء المعمور من فم إلى آخر،  ومن دولة إلى أخرى،  ويلمس الطابع الشرقي للحكاية من خلال شخوصها، أسمائهم، لباسهم، منازلهم، بيئتهم، عقلياتهم وتصرفاتهم، وقد وجدت أقدم الحكايات العربية مكتوبة في لفائف البردي منذ أزيد من 3000 سنة (1) وهي حكايات مصرية معروفة باسم "حكايات السحرة".

لقد شهد الشرق ميلاد أشهر مجموعة حكايات في العالم وهي "ألف ليلة وليلة" وقد عرّفت العالم على سحر الشرق، من خلال المغامرات الشيقة لأبطالها ، وتعدد ثقافاته وتنوعها فقد شارك في كتابة "ألف ليلة وليلة" العرب والفرس واليهود والمصريون بأسلوب شعبي ولجأوا أحيانا إلى الدارجة مثل حكاية "علاء الدين واالمصباح السحري " الذي كتب باللهجة السورية (2).

وتقدم "ألف ليلة وليلة" حياة الرجل الشرقي ومكر نساء الحريم بطريقة شاعرية وبكثير من الخيال وهي موجهة إلى فئة الكبار، إلا أنها أُدْخــلت عليها تعديلات لتتكيف مع الأطفال. وقد نهل العديد من مؤلفي قصص الأطفال الغربيين من "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة" مثل "هانس اندرسون"  Hans Andersen / و "لافونتين"De la Fontaine / وأصبحت بعض القصص وأبطالها ذائعة الصيت في أوروبا مثل "علي بابا" و "السند باد" و "علاء الدين" و"الحصان الطائر..."، و في أوروبا عرفت حكايات الأطفال زخما كبيرا في القرن 17 فقد بدأ كتاب الأطفال في فرنسا، انجلترا، الدنمارك، إلخ في كتابة حكايات موجهة للأطفال وكان إصدار كتاب "‫حكايات أمي الأوزة" (Les Contes de ma mère l’Oye) ل"شارل بيرو"/ Charles Perraultسنة 1697بفرنسا بمثابة الشرارة التي انتقلت إلى مختلف الدول الأوروبية، وقد دفعت العديد من الأدباء الى البحث عن حكايات في تراث بلدانهم وتطبيقها لنسج حكايات الأطفال. وقد ضمت مجموعة "حكايات أمي الأوزة " حكايات لا تزال شعبية جدا بين أطفال زماننا هدا مثل:"السندرلا"، "الجمال النائم"، "اللحية الزرقاء"، "ذات الرداء الأحمر"…

وفي إنجلترا صدرت سنة 1865 مجموعة"أليس في بلاد العجائب"الموجهة للأطفال لكاتبها " لويس كرول" Lewis/ Carrol  وفي ألمانيا أصدر "الأخوان غريم" Jacob & Wilhalm GRIMM / ما بين سنة 1814-1812 أشهر مجموعة قصصية للأطفال » :حكايات الأطفال والبيو ت «  في جزئين وضمت أكثر من 200حكاية مستمدة من التراث الألماني بعد أن عدلا محتوياتها لتناسب الأطفال ولعل أشهرها حكاية " بياض الثلج"، "الساحرة الشريرة"، "الأميرة النائمة"، "بياض الثلج والوردة الحمراء"، "الثعبان الأبيض"، "ماء الحياة، إلخ. وتجدر الإشارة إلى أن "الأخوين غريم" قاما بتعديل عدة حكايات تعود ل"شارل بيرو"  و أعادا نشرها مثل: "السندرلا"، "الجمال النائم"، "صاحبة الرداء الأحمر" ...

2- دور الترجمة في انتشار الحكاية:

تعتبر "ألف ليلة وليلة" و"كليلة ودمنة"من أمهات كتب الحكايات في العالم وقد تأثر ت بها مجتمعات عدة وساهمت الترجمة لحد كبير في انتشار حكاياتها ومد جسور التعارف بين مختلف الثقافات وجعلت أفرادها تتماهى مع شخصياتها أحيانا وتتعاطف معها أو تختلف أحيانا أخرى.

فكتاب "كليلة ودمنة"الذي ألفه الفيلسوف الهندي "بيدبا" للملك "دبشليم" تحت اسم"بينج تنترا" أي ا لفصول الخمسة، يحتوي على قصص عديدة أبطالها حيوانات لكنها تنوب عن شخصيات بشرية تعالج قضايا عدة وتلامس المكر والخداع الذي يتعرض له الإنسان بصفة عامة، وتقدم مواعظ لعل المرء يستفيد منها ومواقف قصد تجنبها . الترجمة الأولى للكتاب تمت إلى اللغة الفارسية بواسطة الطبيب الفارسي بارزويه بتكليف من كسرى بلاد فارس بين سنة 531م و570م(3). الترجمة الثانية ل"كليلة ودمنة" تمت من الفارسية إلى اللغة العربية وقام بها عبدالله بن المقفع الفارسي الأصل بعد اطلاعه على النسخة الفارسية، وعدل بعض الحكايات وأضاف أخرى حوالي سنة 750م خلال العصر العباسي(4) . عرف الكتاب المترجم إقبالا منقطع النظير في العالم العربي وأصبحت شخصياته شعبية بين الصغار والكبار . يذكر أن النسختين الهندية والفارسية قد فقدتا ولم تبق إلا النسخة العربية.(5) وحوالي سنة 1261 ظهرت النسخة الأسبانية (6) من كتاب "كليلة و دمنة" وقد شكلت النواة الأساس للعديد من الإصدارات والنسخ المعدلة أو المقلدة للكتاب الأم، ومن بين أبرز من استولى على خرافات كليلة ودمنة وأدخل عليها تعديلات نجد الفرنسي (1621-1695 De la Fontaine) الذي ساهم في نشر الفابولات وأنسنة الحيوانات التي تشكل شخصياتها الرئيسية، ولم يهدف "لافونتين" في خرافاته إلى الإمتاع و المؤانسة فقط،  بل هدف كذلك إلى التعليم من أجل استخلاص العبر. ولولا الترجمة التي قام بها "جيلبير كولمين" Gilbert Goulmin/ ل"كليلة ودمنة" سنة 1644لما تسنى للافونتين اقتباس أزيد من عشرين حكاية ونشرها على أوسع نطاق (7).

وكان لتعريب خرافات "لافونتين" من طرف "محمد عثمان جلال" في أواخر القرن 19 دور كبير في تأثر "أحمد شوقي" بأسلوبه كما جاء على لسانه في مقدمة ديوانه "الشوقيات" سنة 1898م والذي نظم فيه أبياتا تحكي قصصا على لسان الحيوان.

وهكذا ساهمت الترجمة في نقل الحكايات من شعب إلى آخر ومن ثقافة إلى آخرى و أثرت كذلك في العديد من الكتاب مثل "شارل بيرو" و"لافوننتين" و"أحمد شوقي" وجعلتهم يستلهمون العديد من الحكايات وينعشون قدراتهم الإبداعية. ف"كليلة ودمنة" الهندية الأصل غزت بلاد الفرس والعرب وبعدها الغرب بفضل الترجمة.

أما ترجمة "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الفرنسية التي قام بها المستشرق الفرنسي/ Antoine Galan "أنطوان غلان" في السنوات الأولى للقرن الثامن عشر(8) فقد أثرت في أوروبا برمتها بعد ما نقلت إلى كل لغاتها نقلا عن الفرنسية لدرجة أن  كاتب الأطفال الشهير" هانس أندرسن"Hans Andersen / نهل مما كان يقصه عليه أبوه من القصص الشعبية الدنمركية ومما قرأ من ألف ليلة وليلة (9) وبفضل هذه الترجمة أضحت حكايات"ألف ليلة وليلة" جزءا من ثقافة الأطفال في أوروبا ومن هنا أمدت أدب الأطفال بمصادر وحي جديدة وأصبحت حكايات "علي بابا" و" السندباد" و"الحصان الطائر" رموزا لأدب الأطفال العالمي .

ولم تساهم الترجمة لوحدها في انتشار الحكايات، بل كان لصلات العرب وغيرهم بباقي الثقافات الدور الكبير في تبادل هذه الحكايات سواء من خلال احتكاكهم بالفرس أو عن طريق الأندلس بعد دخولهم إليه مابين 711م و1492م ووفود الغربيين إليهم طيلة الحروب الصليبية مابين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، إضافة إلى التبادل الثقافي والتجاري. لقد ساهم هذا التثاقف في مرور العديد من الحكايات من هنا ومن هناك لدرجة أن الحكاية نفسها تمر إلى بلد معين وترجع إلى الآخر باسم جديد، كما هو حال الحكاية مصرية الأصل "البحار الغريق"التي انتقلت إلى اليونان وظهرت في الأوديسة باسم "يوليسيس" أو "عوليس" ثم عادت إلى العالم العربي باسم "السندباد" (10).

خلاصة:

إن الحكايات هي نتاج مختلف شعوب الحضارات القديمة وكل شعب برع في نوع معين من الحكايات؛ فالهنود والفرس والعرب نسجوا حكايات الجن والخوارق والهنود برعوا في حكايات الحيوان والخرافات أما الإغريق فقد عرفوا بصياغة الأساطير والملاحم (11).

ولقد شكلت حكايات "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" منذ ظهورها أهم وأغنى مصادر أدب الطفل وقد أمتعت وأفادت العديد أطفال العرب جيلا بعد جيل، وبعد ترجمتهما إلى العديد من اللغات، أغنت وجدان أطفال العالم وأصبحت شخصياتها معروفة ومألوفة بين الجميع.

لقد ساهمت ترجمة "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" في إثراء الأدب العالمي وقد اتجه بعض الأدباء

إلى تقليد الكتاب الأم تقليدا مباشرا مثل "غازوط"Gazotte/ الذي نشر كتاب "تكملة لألف ليلة وليلة" /

(12) (Suite de 1001 nuits)و" لافوننتين" الذي اقتبس من "كليلة ودمنة" نحو عشرين حكاية أضافها إلى فابولاته التي نظمها على لسان الحيوان(13).

 

أحمد الزاهر لكحل، مختبر لسانيات، تواصل وترجمة - طنجة

..........................

لائحة المراجع:

(1)- دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، ‏مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1988، ص  27.

https://ciudadseva.com/texto/el-origen-de-los-(2) cuentos/

(3)- نفس المصدر

(4)- دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، مرجع سابق، ص168

https://www.wdl.org/en/item/8933/ « Kalila and (5) Dimna », World Digital Library, Retreved.

https://ciudadseva.com/texto/el-origen-de-los-(6) cuentos/

(7)- دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، مرجع سابق، ص169 ـ171

(8)- د. سهير القلماوي، ألف ليلة وليلة، دار المعارف بمصر، القاهرة، ص 7

(9) - دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، مرجع سابق، ص 139

(10)- د. أحمد يوسف، القصة المصرية في الأدب المصري القديم، جريدة الأهرام، عدد 9 غشت 1969 (عن علي الحديدي، مرجع سابق، ص 32(

دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، مرجع سابق، ص31 (11)

د. سهير القلماوي، مرجع سابق، ص56  (12)

دكتور علي الحديدي، في أدب الأطفال، مرجع سابق، ص171 (13)

 

 

 

في المثقف اليوم