قضايا

ظهور الناقد: الدراسات الأنوثية بعد الكولونيالية في سوريا الحديثة

صالح الرزوقبقلم: ريبيكا غولد

ترجمة صالح الرزوق

إن النظر لمسائل تتخطى الأدب، حتى وأنا أقرأ نصوصا أدبية بسياق معانيها السياسية المؤثرة، سمح لي أن ألاحظ كيف أنه بعد 9/11 أصبحت الأنوثة العابرة للحدود الوطنية متورطة بأجندات جيوبوليتيكية هامة، وهكذا ” أرست سياسة مبادئ التضامن” التي تخترق خطوط الأمة والطبقة والعرق والجنوسة ” لتصبح بشكل مطرد إشكالية” (كما قالت دينيز كانديوتي، 2007)*. وقد تتبع بارتا شاتريجي  (1986) حوار السياسة والمقاومة المعادية للكولونيالية وبقايا الكولونيالية المترسبة في الاتجاه الوطني ما بعد الكولونيالي، ووجد أن “رفض الاتجاهات الوطنية لرفع مشكلة المرأة لمرتبة قضية يمكن التفاوض عليها سياسيا مع الدولة الاستعمارية” عبارة عن تمزق أو صدع أساسي في إيديولوجيا حركات التحرير ما بعد الاستعمارية والعابرة للحدود الوطنية. في نفس الوقت نقاد نظرية الدراسات التحويلية الذين نأوا بأنفسهم عن علاقات إنتاج المادة قد ركزوا هدفهم على تنشيط “طاقة التنظير الماركسي” وذلك بتحميل الفكر الأنوثي أعباء الليبراليات ما بعد الكولونيالية (بانيرجي، 2000). أن تأخذ موقعا عند تقاطع هذين المحورين المتعارضين في الشؤون المعاصرة لظرف ما بعد الكولونيالية، إنما تتابع بعض السبل التي تحتلها المألة النسوية على نحو مضطرد في الخطابات الوطنية، حتى لو أنها استمرت على محيط الخطاب السياسي في الفضاء بعد الاستعماري.  

حتى ونحن نقر مع جيمسون أن تسييس التمثيل الذي يفرضه الظرف بعد الكولونيالي على النصوص بعد الكولونيالية، من المفيد أن نؤكد على قصور فرضيته، وذلك ليس فقط لأن الآخر هو من لاحظ وجودها. في هذا التحليل يعجز جيمسون عن رؤية الأثر أو العلامة والتي يخلفها استبعاد الجنوسة من المعادلة، حيث أن: “العالم الثالث + الأدب = المجاز”. واختزاله لأدب العالم الثالث في مجازات بعد كولونيالية إنما يضاعف من فشل تاريخي واسع النطاق عانت منه نظرية الأنوثة الأورو أمريكية ويضيف ذلك إلى عولمة  مراكز الجغرافيا، وهذا لا يساعد على تفهم العمل الهام الذي تم التوصل إليه في تنظير تقاطعات الأنوثة فوق الوطنية (العابرة للحدود) والظرف بعد الكولونيالي في العقود الراهنة ( انظر مثلا: دراسات موهانتي، 1991).

 وبالعودة للأطروحة التي حضرت الدفاع عنها في دمشق في صيف 2010، قبل عدة شهور من بداية الفظاعات الحالية التي بدأت في آذار عام 2011، بحثت عن تعريف لأنوثة الما بعد كولونيالية التي تنظر لما وراء  الغياب الوطني لسياسة الجنوسة وذلك لأضمن أنه لا شيء “سيكسر الوحدة الضرورية للصراع المضاد للاستعمار” (شراد، 2011).  وفي حين أن النظرة المعاكسة تقودنا للقول أن هذه الفكرة ترعرعت قبل الحرب في سوريا، وفكرتي بالتأكيد يقطعها هذا التوقيت، إن فك الاتصال بين الوعي الوطني والوعي الناشئ الذي أعقب ذلك له علاقة بأي مجتمع مزقته الحرب، ولا سيما مجتمعات تشكلت بالميراث الكولونيالي، وضمنا، في حالة سوريا، ميراث الانتداب الفرنسي وبنسبة أقل الولايات المتحدة. ومثل عالمة الاجتماع   منيرة شراد *** أنا مقتنعة أن الأنوثة العابرة للحدود الوطنية الخاصة بالمستقبل ستتخطى النقد المضاد للاستشراق الذي لعب دورا مؤثرا بنقد الأنوثة في عقود سابقة  (2011). وكي نتخطى الاستشراق علينا أولا أن نتخطى التجاهل والتكبر الذي قدم الفرصة لبنية المعرفة الاستشراقية  أن تضغط على تساؤلات النخبة على طول قرون خلت، ولا سيما في المجال الأكاديمي وهو موضوع دراسات إدوارد سعيد.

مثل هذه الصيغة الجديدة للمفهومات تتضمن استعادة معنى الأنوثة على أساس تعدد الأساليب التي واجهها وفكر بها العالم العربي، وكذلك في جغرافيات مستعمرة ومتحررة أيضا من الاستعمار. وبما أنه لا يمكنني مناقشة كل هذه الخيارات الأنوثية التي كانت سائدة في الماضي وستتشكل في المستقبل في هذه المقالة المختصرة، سأقدم سياقا بديلا محددا، وقد مررت به وأنا أبحث عن طريقة لتوسيع إدراكي الجغرافي الشخصي بمخاطر الأشكال الأدبية. في صيف 2010 حضرت دفاعا عن أطروحة ماجستير في جامعة دمشق بعنوان :”قراءة بعد كولونيالية لغادة السمان: دراسة مقارنة بضوء نظرية إدوارد سعيد”.

غادة السمان (مولودة 1942) كاتبة سورية تلقت علومها في لندن وتعيش في باريس منذ ثلاثين عاما، ولها جمهور واسع الانتشار بعدة لغات (الفارسية والإنكليزية والفرنسية وألإيطالية والإسبانية والروسية والبولونية والأمانية واليابانية). ومراسلاتها (المنشورة عام 1992) مع الكاتب الفلسطيني والناشط السياسي غسان كنفاني، والذي كانت لها معه علاقة غرامية في الستينات، هي إضافة هامة للمصنفات الأدبية العربية. بالإضافة للكتابة، كما أن شجرة عائلة السمان جعلت منها شخصية هامة للدولة - الأمة في سوريا، فوالدها كان رئيسا لجامعة دمشق بين 1962 - 1964.

 ولكن جزئيا بسبب مضمون كتاباتها الملتهبة أسست السمان دار نشر خاصة بها في عام 1977، لتكون مطمئنة أنها ستكتب وتنشر ما تشاء. وبتعبير الكاتبة الفلسطينية سلمى الجيوسي: لقد قدمت السمان، مع نوال السعداوي، أكثر من أي كاتبة عربية معاصرة الدافع ” لتحرير الشخصية النسائية في الضمير الشعبي على صعيد  العاطفة والجنس والمجتمع” (2008). وقد اعتبر طلاب الجامعة الفلسطينية السمان، مع سواها من كاتبات عربيات من أجيال سابقة مثل مي زيادة (1886 - 1941) ونازك الملائكة (1923 - 2010)، واحدة من الكاتبات المفضلات (صليبا وقطان، 2000). ولكن هذه الأسماء غائبة عن البانثيون الدولي لألأدب بعد الكولونيالي وليس لها وجود ملموس خارج العالم العربي بالمقارنة مع  الأسماء الأنغلوفونية واسعة الانتشار (مثل السعداوي وأهداف سويف). وهذه إشارة على الفرق في تداول الكاتبات العربيات داخل وخارج العالم العربي. ومع أن السمان لم تستفد من منفاها الباريسي طوال عدة عقود، يمكن القول إنها تنتمي “لكفئة الكاتبات العربيات المعروفات جيدا” إلا أنها تبقى “نسبيا مجهولة خارج العالم العربفوني” (بتعبير مور، 2008).  

 الجنس برأي الناقد اللبناني وفيق غريزي**** “موضوع أساسي” في أدبيات غادة السمان، وهو يهاجم “جذورالشر التي تخنق، ليومنا هذا، علاقة المذكر بالمؤنث في العالم العرب إسلامي” (2009). وربما بسبب مقاربتها الأصيلة للعلاقات الجنسية، تفرض السمان تأثيرا هاما على جمهور القارئات العربيات في كل أرجاء العالم العربي. وبالنظر لتأثيرها على المستوى المحلي والقومي يبدو غياب تحليل نقدي فعال لنتاجها الإبداعي طوال فترة هامة من تاريخ الأدب العربي الحديث مسألة محيرة وغريبة. وما يحير أكثر ندرة الدراسات التي تناولت فلسفة السمان في الجنوسة والعلاقات بين الجنسين، ولا سيما من ناحية  نظرية وبعد كولونيالية. ومن بين كتابات السمان السردية وغير السردية، تجد عملا واحدا يعالج بجرأة الصدام بين الأنوثة والاتجاه الوطني بعد الكولونيالي. وهو مقالة “دستورنا - نحن النساء المتحررات”(1961). وقد كتبت هذا النص للرد على مقالة مضادة للأنوثة كتبها القاضي الدمشقي الشيخ علي الطنطاوي (1901 - 1999).  وفي بيانها المختصر، والذي لم تضمه لأعمالها الكاملة، تبرر الأنوثة بمصطلحات إسلامية، وتنظر للإسلام بمصطلحات أنوثية، وهذا قبل فترة طويلة من انتشار حركة الأنوثة الإسلامية في التسعينات. وتضرب مثلا بعائشة، “أم المؤمنين”، امرأة النبي محمد المفضلة، والتي طبقت شهرتها الآفاق بسبب شجاعتها العسكرية في معركة الجمل (656 ميلادية)، وبها أسدلت الستار على أول حرب أهلية بين المسلمين،. تقول السمان إن الوعي الأنوثي موجود في فكرة الإيمان عند المسلم والعكس بالعكس. ومع أنها كانت ترد على بلاغة الطنطاوي وربما هذا هو الدافع وراء اختيار خطاب ديني، وضعت السمان بوضوح نصب عينيها تقاليد الفلسفة الإسلامية وطبقتها على رؤيتها للأنوثة العابرة للحدود الوطنية. ومع أنها كانت تناقش الفكر الإسلامي المضاد للأنوثة بنفس مقدار مناقشتها للأنوثة المضادة للفكر الإسلامي المحافظ، أصرت السمان على أن “الإسلام أوجدنا من أعماق الصحراء التي كنا مدفونين فيها مثل المارقين” (كما قالت، 1990). وكتابات السمان عن الأنثى، وهي دراسة في السبل المتعددة التي سهل بها الإسلام الحركة التاريخية لتحرير المرأة، تغتني بدروس وعبر من الماضي الإسلامي. وفيها تقول بما معناه: “لقد حرم الإسلام علينا أن نكون دمى لتزيين الطاولات أو أن نتحول لتسلية بيد إله النفط، أو فراشات تحوم حول مصابيح فاخرة ملونة” (1990). وبذكر النفط، وهو أهم أداة اقتصادية سخرها العرب في السياسة المعاصرة، والتعامل معه على أنه جزء من حياتنا اليومية، تفتح السمان المجال للمساواة بين الناقد البعد كولونيالي والأنوثة التقليدية. ولكن مقاربة زهرة لإبداع السمان بنوعيته النارية لم يكن هو الشيء الوحيد الذي خيم في الدفاع عن الأطروحة في جامعة دمشق. والأدهى من ذلك محاولة زهرة أن تضع  السمان، وهي كاتبة أنوثية سورية، جزئيا في المشروع الوطني بعد الكولونيالي.  وسواء عن عمد أو بالصدفة مثل هذا المشروع رفض بقوة الحكمة التقليدية المشتركة بين دوائر نخبة المثقفين الموزعة على الجنسين، ومفادها أنه في سوريا  “لا وجود لشيء اسمه أدب المرأة”( كوك، 2005). ولقد ناقشت الأطروحة حوارا مفترضا بين كتابات السمان وأفكار إدوارد سعيد - ولا سيما التي وسعها في كتابه الثقافة والإمبريالية (1993) - فقد وضعت سعيد بمواجهة مفتوحة مع المشروع الوطني بعد الكولونيالي ونشوء الناقد الذي كانت تحاول أن تتبناه. وفي المنح التي تقدمها أوروبا وشمال أمريكا، كانت أطروحة سعيد عن الاستشراق مجالا للمشاحنات الدامية في عدة مجالات، ومنها الدراسات الأنوثية، رغم أن التأكيد المبالغ به على التمثيلات الأوروبية لا يحظى الآن إلا بعدد قليل من الأنصار فيما يخص تشكيل الصيغ المعرفية بعد الكولونيالية. بالمقابل، في العالم العربي، كان تأثير سعيد أقل مباشرة وأكثر غموضا. وبالنسبة لاستشراق سعيد واستقباله (أو انتشاره) فقد كان هو مركز أطروحة زهرة، ومن المفيد تمييز أفكار سعيد عن أفكار سواه من أقرانه قبل العودة لهذه الأطروحة. لقد دخل الاستشراق إلى العالم العربي بعد ثلاث سنوات من نشر الكتاب باللغة الإنكليزية وبترجمة للناقد السوري المعروف كمال أبو ديب. وسمعة أبي ديب في الدوائر الأكاديمية البريطانية تعود لجهده في ترجمة  المنظر الأدبي القروسطي عبد القاهر الجرجاني (توفي 1078) قبل سنتين من ظهور ترجمة الاستشراق (انظر سعيد 1981 وأبو ديب 1979). وعلى صعيد الحياة الثقافية في سوريا ولبنان، وثق فرنجية الاستقبال المحايد لعمل سعيد، والذي تراوح بين “التحمس لأطروحته وحتى الشك بها” (2011).  وقد لاحظت وجود موقف غامض مماثل حيال سعيد في بعض قطاعات المؤسسة الأكاديمية السورية. ولكن أيضا لاحظت موقفا آخر، وهو ما لم يوثقه فرنجية، في قراءة صادق العظم للاستشراق (وهو مولود عام 1934) وأيضا في أطروحة مهدي عامل (1936 - 1987).

 

.....................

هوامش:

*  Deniz Kandiyoti مولودة في إسطنوبل. وهي باحثة في مجال سياسات الشرق الأوسط. وتعمل بالتدريس في باريس.

**Partha Chatterjee عالم سياسة وإنتروبولوجيا هندي. يعمل بالتدريس في جامعة كالكوتا. 

*** منيرة شراد. عالمة اجتماع فرنسية من أصول تونسية. مواليد 1942.

 **** وفيق غريزي. مؤلف شوبنهور وفلسفة التشاؤم. 

ريبكا غولد Rebecca Gould : أستاذة الحضارة الإسلامية والأدب المقارن في جامعة برمنغهام، بريطانيا. من أهم أعمالها “كتاب ومتمردون: أدب الثورات في القوقاز”.

 

 

في المثقف اليوم