قضايا

أثر الطب المصري في الطب اليوناني

محمود محمد عليلم يكن المجتمع اليوناني القديم مجتمعاً مغلفاً تنحصر قيمته الثقافية والحضارية أساساً في المنطقة التي قام بها علي قسم من الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، بحيث لا تتعدي هذه النقطة أن تتأثر أو تؤثر في غيرها إلا بشكل عابر او جانبي، وإنما كان هذا المجتمع منتجاً علي غيره من المجتمعات التي سبقته إلي ازدهار النشاط الثقافي والحضاري، تلك التي ظهرت في منطقة الشرق الأدنى؛ وبخاصة مصر، وهناك شهادات لمؤرخي اليونان الذين يؤكدون أن معظم اليونانيين الذين اشتهروا بعلمهم وحكمتهم زاروا مصر في العصور القديمة، حتي يتعرفوا علي عاداتها وينهلوا من علومها .

ولم تكن زيارات اليونانيين القدماء إلي مصر من أجل تحصيل العلوم والفنون فقط ؛ بل تعدي ذلك إلي تبادل الهجرة والسلع، حيث يذكر بعض المؤرخين أنه في عصر الدولة الحديثة؛ وخاصة إبان فترة حكم " بسماتيك الاول " مؤسس الأسرة السادسة والعشرين المصرية الذي استعان برجال أشداء من ملاحي اليونان علي التغلب الامراء الأثني عشر المتعاقدين علي حكم مصر، وفي عصره قد توحد علي يديه الملك واستتب له الامر، حيث عني بأعمال التعمير والإنشاء وعمرت بيوت العبادة وأتقنت صناعة النقش وفنون الرسم والتصوير، وجمعت التماثيل بين التناسب والاعتدال، ويشتهر بأنه جلب لمصر الاجانب ورغبهم في الإقامة بها فأكرم معظم اليونانيين وأقطعهم أرضا علي سواح " بحر الطينة "، وحدث في ذلك الوقت أن وفد علي مصر أقوام من " الميليزيين " في ثلاثين سفينة، فرسوا بها علي ساحل بحر رشيد ونزلوا هناك وأسسوا معسكرا متسعا وإنضم إليهم أقوام من النزلاء فكثروا وتكاثروا وقويت شوكتهم وأرسل اليهم " بسماتيك " بعض الغلمان المصرين ليعلموهم الترجمة، فكانوا عاملا من عوامل نشاط الانجاز، وانتهي الأمر إلي انهم أسسوا مدرسة في الوجه البحري لتعليم الشبان المصرين فن الترجمة، وكان يرمي بسماتيك من وراء ذلك إلي تلقين المصرين ما اشتهر خصب مصر وغزارة نعم الله عليها ولمسوا نواحي تقدمها ومدينها أولعوا بمصر وأخذوا من علومهما وأعجبوا بديانتها فتشبهوا بالمصرين في عبادتهم وادخلوا تشبيهات كثيرة في معتقداتهم وطقوسهم وتتلمذوا في المدارس المصرية ليتعلموا منها العلم والحكمة  .

ويري المؤرخين أنه في عهد " أحمس الثاني " (الذي خلف بسماتيك علي حكم مصر) زاد نفوز اليونانيين، فقد تزوج أحمس من يونانية وقدم يد المساعدة لليونانية وأهدي لهم الهديا النفسية من التحف المصرية، وقد بلغ عدد اليونانيين حينئذ مائتا الف فأعطهم مدينة " نقراطيس" (وهي الآن قرية جعيف جنوبي دمنهور بمحافظة البحيرة)، وأباح لهم دينهم وتشيد المعابد والهياكل، وقال " هيرودوت" : " أنه لما اتسعت دائرة التجارة إتخذت تجار اليونان لهم وكلاء من جنسهم وأرسلوا إلي الجهات التي تمر منها القوافل، وصار اليونانيين ينقلون كل ما يسمعونه من أخبار المصرين إلي البلاد الأخري مما سبب تقوية أطماع الناس حتي كثرت الوفادة عليها، فكان يؤمها الفلاسفة للإطلاع والمعرفة والتجار لاكتناز الثروة والجند لالتقاط الأخبار ومعرفة الأحوال .

ولما كانت العلاقات بين مصر واليونان علي هذا النحو، فيمكن القول بان اليونانين قد أخذوا كثيرا من علوم الطب عن القدماء المصرين، ومما يعزو هذا الرأي تقدير اليونانيين للطب المصري، فقد ذكر هوميروس في " الأوديسة " : "أن رجال المهن الطبية في مصر علي أعلي درجة من الزكاء الذي لم يصل اليه شعب من الشعوب " ؛ وذكر أيضا " أن كل أهل مصر عالمون بفن العلاج فهم من سلالة " بيون" طبيب الإلهة" ، كذلك يذكر أيضا هذا النص " إيه هيلين يا ابنة زيوس أن في نبيذهم دواء يذهب الألم والغضب وينسي الأحزان دواء مما اعطته " بوليد منا " زوجة " ثونيس " (المصري) امراة من مصر،حيث تنبت الأرض أعشابا بعضها شاق وبعضها خادع، بلاد حيث كل رجل فيها طبيب وقد.

وزاعت شهرة الاطباء المصرين حتي في عهد الاغريق إلي حد أن كاتبا إغريقا اسمه " آنا خرسيس"، كان يعتب علي مواطنية تفضيلهم الاطباء المصرين علي ابناء وطنهم، وإذا كان الإغريق قد اقتبسوا الكثير من المعارف الطبية المصرية، إلا أنهم توصلوا، منذ القرن الخامس قبل الميلاد إلي استنباط الكثير من المعلومات بهديهم الخاص، لكنهم لم يستطيعوا أن يبلغوا آفاق العبقرية المصرية في مجال التحنيط الذي تحدي كل عوامل الزمن .

وفي الفصل الثاني من ملحمة " الالياذة " ذكر " هوميروس" كثيرا من المعلومات الطبية بصفة عامة والجراحة بصفة خاصة، فمثلا ذكر " اسكليبوس " Asclepios الطبيب الذي يتمثل في شخصية الأصول الدينية التي انحدر منها التعليم الطبي الاغريقي، ففي عهد هوميروس وما تلاه، ازدهرت تعاليم اسكليبوس في كثير من المعابد في العالم اليوناني، وهي تنص علي اغتسال الطهر وحضانة روحية تتجلي فيها للمريض رؤي تنفس عن مرضة، وتساعد بتعبيراتها علي شفائة، وسرعان ما رفع " اسكلبيوس " إلي مصاف الآلهة كما فعل المصريون القدماء مع ايمنحتب من قبل بخمسة وعشرين قرنا .

ومع ذلك فالحضانة الروحية ليست من الاغريق لأنها طقس مارسه المصريون قديما، وقد اقتبسه الأغريق منهم، وكان المرضي يتضرعون إلي الإلهة التماس للصحة والاخصاب، وقد يغربهم الجو ملائما لتحقيق الضانة الروحية من خلال الاسترخاء والتأمل الروحي العميق والتخلص من كل مخاوف المرض واحتمالاته الكئيبة، وفي الصباح التالي ينطلق المرضي في الحديث الصريح عن التجربة التي مروا بها، والرؤي التي داعبتهم في تلك الليلة العجيبة التي قضوها في المعبد المقدس، والتي يفسرها الكهنة علي سبيل التعرف علي احتياجات المريض للتخلص من المرض . وبذلك يمكننا القول بأن المصرين القدماء كانوا أول من وضعوا أيديهم علي ارهاصات التحليل النفسي كما عرفته كما عرفته البشرية كعلم قائم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد الميلاد .

وفي اليونان كانت تفاصيل طقس الحضانة الروحية تختلف من مكان لآخر، واستخدامه الأفراد كان يتوقف علي مدي قوة تأثير القائمين علي علاج المرضي فقد تطغي الخوافة عليه في بعض المعابد وتغلب عليه الصفة العلمية في غيرها وقد اثبت المصريون عمليان أن الايحاء، والايحاء  الذاتي، كي تعبا لهذا الهدف وكان بالفعل وسيلة ناجحا لإحياء معنويات المريض وتجديد حالته النفسية، وفي اليونان كانت التجارب التي مورست في المعابد تكاد تكون محصورة في حقل علم النفس، وقد يشير الكهنة ببعض العقاقير لكنهم لم يتقدموا في شيء من عمليات الجراحة أو التوليد، أو حتي الفصد أو التدليك .

ومن مظاهر تأثير اليونانين بالمصرين في مجال الطب ايضا تلك التي يذكرها كثير من المؤرخين والباحثين، وهي أنه عندما وقف اليونانيون علي كتابات الطبيب المصري " ايمنحتب" في علوم الطب، أبوا أن يصدقوا أن يصدقوا أن مثل هذا النابغة يمكن أن يكون بشرا كسائر الناس، فآلهوه واعتبروه ربا للشفاء، كما اعتبروا أماكن عبادته من الاماكن التي يحج اليها المرضي ليكتب لهم الشفاء، وقصة " نشتاتيس" كما يذكر المؤرخون والباحثون خير شاهد علي هذا، فقد كان نشاتيس هذا كاهنا في معبد " ايمنحتب " وقد استطاع " ايمحتب " أن يشفي والدته من مرض مزمن، وقد اراد " نشتاتيس" أن يعبر عن اعترافه بالجميل، فقام بترجمة بردية منسوبة إلي " ايمحتب" إلي اللغة اليونانية .

ولقد شيد له مريدوا " ايمحتب " بصفته ربا للشفاء العصر الاغريقي مقصورة فوق السطح العلوي لمعبد " حتشبسوت " في الدير البحري بجوار الرابيوم "؛ أي مدينة العجل ابيس " ولا يخلوا متحف من متاحف العالم إلا وله فيه تمثال من البرونز وهو جالس وعلي ركبته كتاب مفتوح وشبهوه بالمعبود الاغريقي (اسكليبوس) راعى الطب والحكمة ومجدوه لمهارته فى الطب والأدب، فضلاً عن استخدامه الحجر المنحوت فى البناء .

وفى سنة 323 ق.م جلس ملوك البطالمة على عرش مصر، وقد حاولوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، أن يظهروا أمام المصريين كفراعنة وتعبدوا للآلهة المصرية، وكان (توت) (المصرى) واحداً من هذه الآلهة، وقد عبدوه تحت هرمس الإله الإغريقى، وبالتالى فقد عبدوا (ايمحتب) كصورة من صور (توت هرمس)، ثم سرعان ما أدخلوا إلههم اسكليبوس رب الطب الى مصر وتكون فى النهاية معبود مصرى بطلمى يبلور فى عقيدة الناس الهيمنة على العلوم والمعارف وهو (توت) (ايمنحتب) (هرمي) (اسكليبوس) .

أيضا من مظاهر تأثير اليونانيين بالطب المصرى، ما أكدته كثير من الرويات والنصوص على أن تعليم الطب عند المصريين، كان يعد سراً لا يفشى إلا لمن أقسموا اليمن، فقد روى المؤرخ اليونانى (سترابون) أن الكهنة أخفوا عن (أفلاطون) و(أوديكسوس) الجزء الأكبر من علمهم، حتى بعد أن أمضيا ثلاث عشرة سنة،ومن مظاهر السرية التي أحاطت بتعليم الطب عند المصريين تأثر الإغريق بذلك . فهناك فقرة جاءت فى قسم ابقراط الذى كان يقسمه كل من رغب فى مزاوله الطب، وقد حار فيها المفسرون كما يقول (د :غليونجى) وهى (وأشرك اولادى المعلم لى والتلاميذ الذين كتب عليهم الشرط، وحلفوا ذلك). وهذه السرية كأنها من رواسب قرون سبقت ابقراط، وربما كانت من اثار الطقوس الفيثاغورية والاورقيه .

وغيرها المستمدة من المذاهب السرية ونحن نعلم ما يدين به فيثاغورس وغيره من فلاسفة الاغريق للمصريين .

هذا ويعتقد الدكتور / غليونجي مقارنة بين الطب المصرى والطب اليوناني في مقاله له بعنوان (أثر قدامي المصريين في الطب اليونانى) ذلك من خلال بعض نواحيهما وهي فن العقاقير وأسماء أجزاء الجسم الاكلينيكية وتسمية الأمراض والطرائف الجراحية واختبارات الحمل والولادة وأسلوب الكتابة والآراء الطبية، وهذه المقارنة يعقدها من خلال أوجه الشبه وليس من خلال أوجه الاختلاف، وهو يوضح هذا فيذكر مثلا عن العقاقير هذا المثال فيقول (ولنضرب مثلا لعقاقير غربية وردت في الطبيبين (المصرى واليونانى) فان (بردية إبيرز) ما تفتأ توحي باستعمال الصفرة لعلاج العينين، وقد قدم أحد الأطباء المعاصرين وهو (دوسن) Dowson حججا قوية على أنهم قصدوا صفرة الخنزير،وقد نصح (ديوسقوريدس) باستعمال المادة نفسها فى الامراض، وعزا (بلينوس) تلك الوصفة الى (ميلتوس)، ولكن (دوسن) يرحج أنها استمدت من بردية مصرية، وتلك الوصفة شبيهة للعلاج الذى أعاد البصر إلى (طوبيا) حسب رواية التوراة.

والوصفة الثانية من تلك الوصفات الغربية هي استعمال لبن المرأة التى انجبت طفلا ذكرا وهذا العلاج يتكرر فى الاقرابازين المصريين القدامي، حتي أنه لا يبدو أساسا من اسس علاجهم، وإما للإفادة من خواصه الذاتية، وإما لإذابة عقاقير اخرى، وهذا العلاج اوصي به أيضا ابقراط وبعده (ديوسقوريدس) و(بلينوس)، وفسر (ارسطو) فوائده التى تميزه عن غيره من الألبان فقال : إن السيدة التي تحمل ذكرا أقوى بدون بدون شك من السيدة التي أنثي، ولذا فلابد من أن يكون لبنها أكثر فائدة، وتلك الوصفة أصلية في مصر، انفردت بها دون غيرها من شعوب الشرق، إذ إن اللبن في نظر الاشوريين والبابليين من مادة ضارة .

كما يعطينا (غليونجى) بيانا لأسماء العقاقير المتشابهة في اللغتين (المصرية واليونانية) فمثلا عقار (الاتنموان) كان المصريين يسمونه (مسدمت) وعند الاغريق يسمى (ستيمى) أيضا عقار (الصمغ) كان المصريين يسمونه (قميت) في حين كان الإغريق يسمونه (كومى) وأيضا عقار (النظون) كان المصريين يسمونه (نترى) في حين كان اليونانين يسمونه (نتورن) ...الخ .

وأيضا هناك تشابه في أسماء بعض الاعضاء والأمراض،فقد سمى الاغريق حدقة العين (كورى)، أى التشابه، وسماها المصريين (شابه العينين) وهذه التسمية لها نظير فى الاتينية وهو Pupila والاسبانية وهو nine de les jos (صبية العينيين) . كما انه يشابه الاسم الذى أطلقه العرب على الحدقه وهو (إنسان العين) إىان الاستعارة المصرية نقلها الاغريق ثم اللاتين والعرب والأسباب فى لغتهم، وهناك لفظ آخر متشابه فى اللغتين فإن النظرة الروحانية إلى المرض التى عمت بين بعض المصرين كانت تنسب المرض إلى أرواح شريرة على رأسها كبير سموه (النامى) وهذا هو الذى سماه الاغريق diabolos ومعناها كذلك (النامى) وقد اشتقت منها الإنجليزية devil والإيطالية diavolo. ولكن التشابة كما يرى د. اغليونجى لم يقف عند مجرد الاقتباس اللفظى،ويعطينا مثلا من وسائل العلاج الجراحية، وردت في كتابات (أبقراط) التحركات التي يجب اجراؤها لرد خلع الفك :(يثبت المساء رأس الجريح ويمسك الفك الأسفل من الداخل والخارج بالقرب من الدقن بالأصابع ثم ينقل فجأة ...الخ) وهي ترجمة لفظية لما وردت فى 0بردية ادوين سميث) وقد رسمت فى مؤلف للطبيب القبرصى (أبو لوينوس) عن طريق أبقراط .

وعن أمراض النساء، فقد وصفت (بردية كاهون) وغيرها اضطرابات وآلاما فى العينيين والأعضاء ومتلف أجزاء الجسم، عزتها إلى حالات مرضية فى الرحم أو إلى انتقال هذا العضو من محله الطبيعى، وجاء الوصف ذاته فى الكتاب الثاني من مؤلف (ابقراط) عن أمراض النساء، ومن تلك الاضطرابات مرض عصبى، وقد يكون من المناسب أن نذكر فى هذا الصدد أن لفظ (هستريا) مشتق من (هستر) وهو الرحم فى لغة الاغريق .

أما علاج تلك الامراض فقد ورد فى (بردية ابيرز) علاج لانسباط عنق الرحم وهو مرض وصفه أيضا (ابقراط) ويذكرنا هذا بمرض آخر غريب اشترك الشعبان فى وصفه وهو اتساع حدقة العين التي سبق أن ذكرنا تشابه اسمها المصري واسمها الاغريقي، فقد عنيت (بردية ايبرز) ويبدو لنا وصف علاج لمثل تلك الحالة عيبا، ولكن اليونان اعتبروا هذا الاتساع مرضا، والأرجح أنهم لاحظوا اتساع الحدقة عن فقدان فظنوه سبب تلك العاهة .

ثم يقارن د. غليونجى بين المنهج اللغوى الذى نهجه المصريون واليونانيون فى الكتابات الطبية، فأكد أن التبادل كان مطردا نشيطا فى المنهج اللغوى الذى نهجوه فى الكتابات الطبية، إذ أن تغريمه من (بردية لندن) ، كان يشترك فيها أن تتلى بلغة كريت، ويستطرد د. غليونجى فيقول وقد اظهر أحد الأطباء المعاصرين وهو (دوماس) أن تعبيرات وأساليب لغوية تكررت فى الكتابات المصرية تلازم العودة فى الكتابات الأبقراطية، فإن عبارت مثل (دواء آخر) و (ألو فار ماكون) بالمعنى ذاته، والعبارة التى كثيراً ما تتكرر فى الهوامش (دواء ناجح)، والتوصية لترك معرضا لندى الليل ، كلها مشتركة بين الطبيبين (المصرى واليونانى) .

وينتهى الدكتور غليونجى من خلال مقارنته بين الطب المصرى والطب اليونانى إلى أن الطب المصرى كان له الفضل الأكبر والأعظم على أبقراط، وأنه ليس صحيحيا ما زعمه بعض الغربيين ؛ حيث أرادوا إدخال الشك فى قيمة الطب المصرى وفى الفائدة التى جناها منه أمثال (أبقراط) فبدءوا بالقول بأن (أبقراط) لم يحضر إلى مصر أبدا، وإن الروايات عن زياراته مشكوك فى صحتها، لأنها روايات متأخرة قرونا عديدة بعد وفاته، ثم أضافوا أنه لم يكن على علم بالغة المصرية ولا بالهيروغليفية، فكيف تأتى له أن يتصل بالكهنة ويتعرف على أسرارهم، وانتهوا بالقول بأن علوم المصريين كانت مزيحاً من الشعوذة والسحر والطب البدائى ولم يكن به عناء لأبقراط وأمثاله .

ويفند الدكتور غليونجى تلك المزاعم، وذلك من خلال استشهاده بما قاله العالم الفرنسى (فرانسودوما) بأن أبقراط تعلم فى مصر وقد برهن هذا العالم على صدق قوله بأن أظهر أولا أن أول كاتب تحدث عن زيارة (أبقراط) لمصر كان معاصرا له، ثم إن علوم المصريين لم تكن على ما وصفها هؤلاء، فإنها كانت متقدمة جدا، وإن كنا نجهل الكثير منها لقلة المستندات التى وصلتنا عنها، ثم أتى بالبرهان على وجود تبادل لغوى وكلمات مشتركة، وذكر لتدعم هذا وجود مترجمين (تراجمة) فى المعابد والعاصم من الإغريق والمصريين يلمون كل الإلمام بالغتين، ليساعدوا التجار والمسافرين الزوار والسياح فى معاملاتهم مع المصريين .

مما سبق يتضح أن الطب المصرى كان المنهل الذى روى ظمأ الطب والأطباء والإغريق ولا يعنى هذا أننا ننتقص من قيمة الطب الإغريقى بالبحث عن أصول له، ولكن كل نهر له منابع، وأكبر الأنهار وأجملها أكثرها روافدا وأصولاً ولذا فإن الهدف من تلك المقارنات إنما هو تأكيد وحدة الحضارة التى ازدانت بها شواطئ البحر الأبيض المتوسط منذ فجر التاريخ، والتى نشأت فى مصر، ثم تناولها الإغريق فوصلت الى قمتها عندما اجتمع المنطق اليونانى والواقعية المصرية، فظهرت معجزة الاسكندرية التي كانت البوتقة التى انصهرت فيها أصول الطب والتشريح عند قدماء المصريين مع اجتهادات اليونانيين القادمين مع الانتشار الهليلينى شرقا وغربا، فأصبحت القاعدة التى انطلقت منها كل العبقريات والنظريات التى فتحت أبواب الكشوف الطبية والتشريحية أمام العلم أجمع عبر العصور التى تلت عصر الإسكندرية الذهبى الذى وإن كان قد انتهى ماديا وجغرافيا وتاريخيا، فإنه لم ينته فكريا وعلميا وحضاريا، وغذ أنه تحول إلى عصارة حيوية تسرى فى عروق الحضارة الإنسانية عبر العصور.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم