قضايا

الاستشراق والعلم العربي (1)

محمود محمد عليتعد قضية الاستشراق من أهم القضايا الفكرية التي تثار الآن . وترجع أهميتها إلي إننا بقدر ما نجد احكمها فيها نوع من الأنصاف لفكرنا العربي من جانب بعض المستشرقين، فإننا نجد أحكاما أخري فيها نوع من التعسف والابتعاد عن الصواب من جانب مستشرقين آخرين، وذلك في مجال فكرنا العربي علي اختلاف أنواعه وميادينه، ومن بينها الأدب والعلم والفلسفة وغيرها.

ولهذا السبب حظي الاستشراق والمستشرقين باهتمام كبير من علمائنا ومفكرينا المعاصرين، ولكن اهتماماتهم انصبت إما علي تقييد آراء المستشرقين التي يرونها ماسة بالإسلام والشعوب الإسلامية – وإما علي جهود هؤلاء المستشرقين في تحقيق هذا التراث وفهرسته ونشره، ولكن بحثنا هذا يركز علي جانب واحد من آراء المستشرقين في الفكر العربي، وهو "موقف المستشرقين من ظاهرة العلم العربي" .

وطريقتنا في هذا البحث نقوم باستعراض بعض الآراء الأساسية للمستشرقين فيما يتصل بظاهرة العلم العربي، ثم نعقب علي ذلك بما نستخلصه من المواقف الاستشراقية إزاء العلم العربي .

ونحن بادئ ذي بدء لا ندخل علي المستشرقين هنا دخول المنكر المعاند عن المثالب، وإنما ندخل عليهم دخول الباحث الذي يتوخى الوصول إلي الحقيقة، وهذا سيجعلنا نتعرف علي ما للمستشرقين من إيجابيات تذكر لهم وما لهم من سلبيات تسجل عليهم .

والمحاور الأساسية لهذا المقال تدور علي النحو التالي:

1 – موقف المستشرقين من إشكالية وجود علم عربي .

2 – تفنيد رأي المستشرقين القائلين بأن العلم العربي مجرد نقل واقتباس عن علوم اليونان .

3 – موقف العلماء العرب المعاصرين من الرؤية الاستشراقية لظاهرة العلم العربي

4 – موقفنا الواجب من الاستشراق .

وسوف نعالج هذه المحاور بشئ من التفصيل فيما يلي:-

أولاً: موقف المستشرقين من وجود علم عربي:

ما زلت أؤمن أكثر من أي وقت مضي، بأن التقدم العلمي الذي عرفته الحضارة العربي – الإسلامية في عصر ازدهارها يعيد بحق مثلا رائعا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات، فنقطة البداية في هذا العلم كان ذلك التفتح الفكري الذي الهم علماء العرب تحت رعاية الخلفاء المسلمين في العصر العباسي بوجه خاص – أن ينقلوا كل ما أتيح لهم من علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تعد من أروع الأعمال التي حققت حتى ذلك الحين .

وهكذا عرف العرب والمسلمون علوم اليونان والفرس الهنود، ولم يترددوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العلمية التي كدستها البشرية حتى ذلك الحين من أجل تلبية حاجات المجتمع الذي كان ينمو ويزداد تعقدا يوما بعد يوم .

ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشطة علماء من أصل عربي، وآخرون ينتمون إلي مختلف البلاد التي أصبحت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يكتبون ويفكرون بالعربية، وكان الجو الذي يشبع في كتاباتهم إسلاميا بحتا، وكانوا ينظرون إلي أنفسهم مهما بعدت بلادهم في أقصي أطراف آسيا الوسطي أو الأندلس علي أنهم ينتمون قلبا وروحا إلي تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولي في قلب الجزيرة العربية .

ولقد خلف لنا العلماء العرب تراثا علميا لا حصر له، فلما أن ظهرت حركة الاستشراف وقويت منذ مطلع القرن التاسع عشر متوجهة بتيارات ورجالها نحو هذا التراث العربي – الإسلامي فقد قال المستشرقين ما وجدوا في هذا التراث من ثراء وتنوع، فانكبوا عليه يدرسونه ويحللونه ويشرحونه ويصنفونه ويكشفون غوامضة، ويجلون واضحة وينشرون مخطوطاته .

وإذا كان معظم المستشرقين قد عنوا بنشر تراثنا العلمي العربي وتحقيقه وفهرسته، فلا شك أنهم بهذا قدموا لنا خدمة جليلة، حيث قدموا هذا التراث العلمي الخصيب والذي لولاه ما كان لنا أن نقف عليه بمثل هذه الصورة، دون ذلك الجهد .

يقول أستاذنا المرحوم الدكتور إبراهيم مدكور: " ولولا لم يقيض الله لفلاسفة الإسلام جماعة من المستشرقين وقفوا عليه بعض بحوثهم ودراساتهم لأصبحنا اليوم ونحن لا نعلم من أمرهم شيئا يذكر  .

ولم تقف جهود المستشرقين عند حد الطبع والنشر، بل حاول أن يكشفوا معالم الحياة العلمية والعقلية في الإسلام، وأرخوا لها جملة وتفصيلا، فكتبوا عن العلم والعلماء يشرحون الآراء والمذاهب أو يترجمون للأشخاص والمدارس، وقد يقصرون بحثهم علي بعض الأشخاص والنظريات والألفاظ والمصطلحات  .

ولقد وصل بهم التخصص درجة أضحي معها كل مستشرق معروفا بالناحية التي تفرغ لها، ومن ذا الذي يذكر مثلا " روسكا "  ولا يذكر معه الكيمياء العربية أو " نللينو " ولا يذكر معه الفلك أو "  ماكس ما يرهوف "  ولا يذكر معه الطب، أو " فرانتروزنتال " . ولا يذكر معه مناهج العلماء المسلمين في البحث العلمي ؟

ويطول بنا السرد لو تتبعنا هؤلاء المستشرقين علي اختلاف اختصاصاتهم وتعدد جنسياتهم . ونكتفي بما قرره أحد أساتذتنا المعاصرون: " بأن الربع الأول من القرن العشرين شهد حركة استشراق نشيطة كل النشاط وكان للدراسات العقلية والعلمية  فيها نصيب ملحوظ .

بيد أن حركة الاستشراق هذه بتياراتها المتلاحقة، قد أفرزت أحكاما تجنت فيها علي العرب والمسلمين تجنيا موغلا، وأثمرت تعصبا ليس له مدي، من حيث شاء بعض المستشرقين أن يبخسوا العرب والمسلمين حقهم في السبق والتقدم والابتكار في شتي مجالات العلم العربي، مع أنه – أي المستشرقين – كانوا أولي الناس وأحراهم بالاعتراف بهذا الفضل، وذلك بما صار لهم من صلة وثيقة بهذا التراث فهما وتمثلا واستيعابا في إطار دراساتهم العلمية التحليلية المقارنة .

لكن قليل القليل من رجال الاستشراق كانوا أمناء مع أنفسهم ومع الحقيقة والتاريخ، فقالوا بما أملته عليهم ضمائرهم الحية وروحهم العلمية الموضوعية، ومن ثم قرروا لعلماء العرب ما هم جديرون به ويستحقونه من فضل وعرفان .

إننا هنا نود أن نشير إلي موقف المستشرقين من ظاهرة ما يسمي بـ " العلم العربي " وفي هذا نقول: لقد انقسم المستشرقين بإزاء هذه الظاهرة إلي فريقين رئيسين:

أما الفريق الأول: فقد رأي إن ما يسمي بالعلم العربي ما هو مجرد نقل واقتباس عن اليونان والهند وغيرهما من الأمم، فإذا ما عثر علي أمر طريف في هذا العلم، فلابد أن يكون له في العلوم القديمة أصل .

وأصحاب هذا الرأي يمثله كثير من المستشرقين من أمثال: " رينان "، " سيرسل القود "، " دي بور "، وغيرهم .

فنجد المستشرق الفرنسي " رينان " يقول: كثيرا ما يردد القول عن العلم العربي والفلسفة العربية، وفعلا أن العرب كانوا أساتذتنا فيها طيلة قرن أو قرنين من العصر الوسيط، ولكننا ما لجأنا إلي ذلك، إلا ريثما نحصل علي الأصل اليوناني، فهذا العلم العربي، وهذه الفلسفة العربية لم يكونا إلا نقلا حقيرا للعلم النقد، أي أن هذا الشرقي كان يتصور التاريخ تصورا غريبا أليس في الإمكان أن نوقن أنه قد بلغت نفحة من نهضتنا الغربية روح ابن خلدون الشرقية .

وإذا كان بعض هؤلاء المستشرقين قد تمكنوا أن يتبنوا رأيا لرجل فكر عربي مسلم مثل " ابن خلدون "، وأن يؤولوا ظاهرة بما يتلاءم من نزعتهم العنصرية المستهجنة للجنس العربي، فقد أخطأوا خطأ فادحا – فابن خلدون ليس مستهجنا للجنس العربي مستخفا بقدرته علي الإنتاج العلمي، وما كان يقصده ابن خلدون بلفظ العرب هم طائفة ( الأعراب ) أهل البدو الرحل، الظعن " لارتياب المسارح والمياه لحيواناتهم " المتقلبون في الأرض – فيقول بالحرف الواحد " وهؤلاء هم العرب وفي معناهم ظعون البربر وزناته بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق " .

وإلي هذا المعني تفطن المستشرق الفرنسي " دي روسلان " إذ درس بدقة معجم المصطلحات التي استخدمها " ابن خلدون " وضبط مدلولات ألفاظها فذكر ابن خلدون إنما قصد بالبدو والرحل والإعراب من سكان البادية الذي يقيمون في الخيام " .

وفي هذا يعتبر وضع اجتماعي ظرفي فرفضته الحياة البدوية في زمن من الأزمنة، وهذا الوضع لا يفيد أن أفراده بفطرتهم الأولي، قاصران علما وعملا، بل إن ابن خلدون يصرح بكل وضوح، رادا علي من يعتقد ذلك الذي، " ظن أن البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته وليس كذلك، فإنا نجد في أهل البدو من هو أعلي رتبة في الفهم والكمال في عقلة وفطرته "، كما يرد علي من يظن رحالة أهل المغرب أن أهل المشرق أشد نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأول، وأن نفوسهم الناطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب ويعتقدون التفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانية يتشيعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصنائع وليس كذلك "  .

ومن هنا يتضح لنا أن ابن خلدون كان يحارب الجمود والتخلف وإنه لا وجود لعرق متفوق ولا لعرف وضيع " فالكل له مزية ولا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالسعي والعمل الصالح .

وأما الفرق الثاني: وقد كانوا أكثر إنصافا، حيث أقروا بأن هناك علما عربيا، وإن ظل في إطاره العام يونانيا – فإنه قد أعاد النظر إلي العلم اليوناني من جديد، وبحيث فيه بروح تقديمه فيه قدر لا بأس من الاستقلال والإبداع والابتكار .

وخير من يمثل هذا الفريق من المستشرقين هو " نللينو " والذي يعرف العلم العربي بأنه يطلق علي " جميع الأمم والشعوب القاطنة في الممالك الإسلامية والمستخدمة للغة العربية في أكثر تأليفها العلمية "  .

ويذكر " مارتن بلسنر " أن المستشرق الألماني " بيرجشستريسر " يعتبر أن اللغة العربية أداة العلم الرئيسية وقد قامت في المشرق بالدور الذي قامت به اللغة اللاتينية في الغرب، وقد قام بإنجاز مقنع أن اللغة العربية قدمت منذ البداية الأداة الكافية للتعبير العلمي الدقيق، ولم تحتل العربية هذه المكانة الرفيعة بذاتها، ولكن الموقع المركزي للعربية بوصفها لغة الدين الإسلامي والإرادة، هو الذي أدي إلي تطويعها لتلائم المتطلبات العلمية . وهذا النجاح الذي حققته عملية تطويع اللغة العربية، إنما كان إلي حد كبير نتيجة لجهد متعمد مقصور لذاته، والدليل علي ذلك أن الأعمال العلمية العربية يمكن أن تفهم جيد دون الحاجة إلي معرفة عميقة بالشعر القديم أو النثر ( أي دون حاجة إلي معرفة تامة عميقة باللغة العربية ) ناهيك عن أعمال النثر الفني التي كتبت في العصور المتأخرة، علي الرغم من أن النحو والصرف وقدر كبير من المقررات في اللغة العربية لم يطرأ عليها سوي تغير طفيف منذ أقدم العصور .

ويحلل الدكتور " جلال موسي " نظرة المستشرقين للعلم العربي فيذكر بأنها نظرة تدخل في تسمية العرب أمم أخري من المشاركين في لغة كتب العلم وفي كونهم تبعة الدولة الإسلامية، فكان الاصطلاح " عربي " نسبة إلي لغة الكتب لا إلي الأمة التي هي إسلامية، فانتسب إلي اللغة.

ثم يستطرد فيقول: " فإن قبل استعمال لفظ المسلمين أصح وأصوب من لفظة العرب، وبذلك يكون العلم إسلاميا لا عربيا، قلنا أن ذلك غير صحيح لسببين:

الأول: إن لفظ المسلمين يخرج النصارى واليهود والصابئة وغيرهم ممن كان لهم نصيب غير يسير في العلوم والتصانيف العربية .

الثاني: أن لفظ المسلمين يستلزم البحث عما صنفه أهل الإسلام بلغات غير العربية .

ونحن نؤيد هذا الرأي ونوافق عليه، لأن العلم العربي هو العلم الذي كتبت مادته باللغة العربية وأسهم في تقديمه أقواما عاشوا في البلاد العربية أو تدين لسلطان العرب (سواء كانوا عرب أو عجم أو مسلمون أو مسيحيون أو يهود أو صابئة) ارتبطوا بمصير واحد وجمعوا تراثا مشتركا وتذوق جميعهم العربية، حتى قال قائلهم " لئن أهجي بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية ".

إننا نؤمن بأن العلم لا ينتسب لجنس من الأجناس، بل للغة التي بها حرر وبواسطتها نشر . أن العلم العربي نتاج مجتمع ظهر للعيان بعد الفتح الإسلامي كانت له دار الإسلام وطنا مشتركا – والعربية لغة، وامتزجت فيه الثقافات وانصهر علي اليونان بحكمة فارس والهند بتعاليم الإسلام، فأنجب أمه وسطا جمعت بين النظر والعمل – بين العلم والتطبيق فقال قائلهم: " إذا أضاف المرء إلي العلم والعمل فقد نال الأمل ورحل إلي زحل وسما إلي السماء ولحق بالملاء الأعلى ".

ومن ناحية أخري يجب أن نعترف بأن هناك " علم عربي " له منهجه وموضوعة – واشتهر بآراء ونظريات، وقام علي أمره كثير من المتكلمين والفلاسفة والعلماء، ووضعت فيه بحوث ومؤلفات تعد من بين المؤلفات العلمية الهامة في تاريخ العلم قديمة وحديثة، واعتبرت ثروة بشرية أفادت منها ثقافات مختلفة، أخذ هذا العلم أعطي، وأخذ عن العلم الإغريقي وعن بعض البحوث العلمية في فارس والهند، وأضاف إليها ما أضاف وأضحي علما عربيا خالصا، أعطي الثقافات المعاصرة له من سريانية وعبرية ولاتينية، وهو جدير بأن يجند كثير من المستشرقين حياتهم لدراسة هذا العلم في أصوله ومصادرة، في نشأته ومراحل نموه، في مدارسه وكبار رجالة، وأن يتابعوا أثره، وكيف أفاد الغرب منه في دفع عجلة التقدم والتطور الذي هو عليه الآن .

ويكفينا ما قالته المستشرقة الألمانية " زيغريد هونكة ": في مقدمة كتابها " شمس العرب تسطع علي الغرب ": ولهذا صممت علي كتابة المؤلف، وأرادت أن أكرم العبقرية العربية وأن أتيح لمواطني فرصة العودة إلي تكريمها، كما أردت أن أقدم للعرب الشكر علي فضلهم الذي حرمهم من سماعة تعصب ديني أعمي أو جهل أحمق "

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم