قضايا

في الدستور تتوحد الأمم وتنكشف الغمم !.. مصر أنموذجاً

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الدستور هو أبو القوانين، فهو الذي يحدد من الذي يحكم، وكيف يحكم، ويحدد مسؤوليات الحكم، وسلطاه، ونطاق هذه المسؤوليات، وحدودها، ويحدد واجبات وحقوق المحكوم، وكيفية أدائه لواجباته، وضمانات حصوله علي حقوقه؛ ومن ثم الدستور يمثل قانون أعلى يقوم على تحديد القواعد الأساسية لشكل الدولة، ونظام حكمها، وشكل حكومته، وتنظيم سلطاته العامة.

وكلمة دستور ليست كلمة عربية فهي كلمة فارسية تعني الدفتر أو السجل الذي تجمع فيه قوانين الملك وضوابطه، وبذلك فإن الكلمة تستخدم للدلالة علي القواعد الأساسية التي يقوم عليها تنظيم من التنظيمات ابتداء من السرة والجمعية والنقابة وانتهاءً بالدستور العام للدولة والكلمة في اللغة الفرنسية تعني التأسيس أو التكوين كما قال محمد حماد في كتابه قصة الدستور المصري .

والقانون الدستوري هو أكثر فروع القانون العام حداثة لأنه أكثر تعبيراً عن مفاهيم الديمقراطية والحرية والمساواة من غيره من القوانين، وعمر القانون الدستوري لا يتجاوز مائتي سنة وهو يعود إلي الثورتين الأمريكية والفرنسية.

وهناك أنواع من الدساتير، بعضها مدون وبعضها غير مدون، وبعضها مرن وبعضها جامد، ويعتبر الدستور مكتوباً إذا كان في أغلبه صادراً في شكل وثيقة، أو عدة وثائق رسمية من المشرع الدستوري، ويعتبر غير مكتوب إذا كان في أغلبه مستمدا من غير طريق التشريع؛ أي من العرف والقضاء، ويطلق بعض الفقهاء علي الدستور غير المدون اصطلاح الدستور العرفي .

وإذا رجعنا إلي التاريخ الدستوري سنجد أن الدساتير العرفية أي غير المدونة كانت أسبق في الظهور من الدساتير المكتوبة، وما زالت إنجلترا حتي اليوم يحكمها دستور عرفي تكونت قواعده بالعادة والسوابق الدستورية المتكررة.

وأول الدساتير المكتوبة التي ظهرت في القرن 18 كانت دساتير الولايات المتحدة الأمريكية التي بدات توضع ابتداء من سنة 1776 بعد استقلالها عن إنجلترا، فلما كونت هذه الولايات فيما بينها "تعاهدا" صدر دستور " الدول المتعاهدة" عام 1781، وبازدياد الروابط بينها تحولت إلي نظام الدولة الاتحادية، وظهر الدستور الاتحادي سنة 1787، وهو نفسه الذي يحكم الولايات المتحدة اليوم بعد أن أدخلوا عليه الكثير من التعديلات كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.

ولما قامت الثورة الفرنسية اعتنق رجالها فكرة الدساتير المكتوبة، وكان أول دستور لهم وهو دستور 1791 دستورا، ومن فرنسا وأمريكا انتشرت فكرة الدساتير المكتوبة إلي كل بلاد العالم.

والفارق بين الدستور المرن والدستور الجامد يتضح من تعريفهما، فالدستور المرن هو الذي يمكن تعديله بنفس الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي، أما الدستور الجامد فهو الذي يتطلب في تعديله إجراءات أشد من الإجراءات التي يعدل بها القانون العادي .

والهدف من وراء جعل الدستور جامداً غير قابل للتعديل إلا بشروط محددة أن يكفل المجتمع نوعاً من الثبات لأحكام الدستور، وهناك بعض الدساتير التي يحظر واضعوها تعديلها خلال فترة زمنية محددة، تكفي لتثبيت أحكام الدستور قبل السماح باقتراح تعديلها، وهناك دساتير بحظر واضعوها تعديل ببعض أحكامها، خاصة الجوهرية منها، لا سيما ما يتصل منها بنظام الحكم المقرر، وذلك بقصد حماية تلك الأحكام علي نحو يحول دون تعديلها أصلاً، كما فعل الدستور المصري لسنة 1923 الذي حظر تعديل الأحكام الخاصة بشكل الحكومة النيابي البرلماني، ونظام وراصة العرش، ومبادئ الحرية والمساواة، وكما هو الحال في دستور البرتغال لسنة 1991 الذي يحظر تعديل شكل الحكومة الجمهوري كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.

وهناك طريقتان لوضع الدساتير، الطريقة الأولي عن طريق انتخاب جمعية تأسيسية، حيث يتاح للشعب فرصة انتخاب ممثليه ليقوموا بهذه المهمة، وأول من أخذ بهذا الأسلوب هي الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها عن بريطانيا سنة 1776م، والطريقة الثانية تتم عبر الاستفتاء الدستوري ؛ حيث يتم وضعه بواسطة جمعية نيابية منتخبة من الشعب، أو بواسطة لجنة حكومية، أو بواسطة الحاكم نفسه، ثم يعرض علي الشعب في استفتاء، ولا يصبح الدستور نافذاً إلا بعد موافقة الشعب عليه.

تحقق الطريقة الأولي اشتراك الشعب في وضع الدستور عن طريق انتخاب ممثلين عنه يضعون هم الدستور، وتحقق الطريقة الثانية اشتراك الشعب في إقرار الدستور، فتكون له الكلمة الأخيرة بقبوله أو برفضه، ولكل من الطريقتين أنصار يدافعون عنها علي اسس مختلفة، ولكن يبقي أن الشعب في الحالتين هو صاحب الكلمة في دستور بلاده سواء كانت الكلمة الأولي باختيار من يضعون الدستور، أو بالكلمة الأخيرة الموافقة أو رفض ما يعرض عليه من نصوص الدستور كما قال محمد حماد في كتابه السالف الذكر.

كم أشعر بالفخر بأن مصرنا الحبيبة كانت سباقة من أجل وضع قواعد عادلة تحكم علاقة الحاكم بالمحكومين، وكان ذلك مع نهايات القرن الثامن عشر الميلادي في ظل ظروف أكثر تعقيداً من مثيلاتها في أوربا وأمريكا، فقد كانت مصر تئن تحت حكم المماليك في أسوأ عصورهم وأكثرها ظلماً وافتئاتاً علي حقوق الشعب، وكانت أوضاعها تغري باحتلالها وفرض السيطرة عليها من أكثر من طامع، وطامع إلي تكوين إمبراطورية تكون مصر درتها وتاجها المشرقي.

وقد حاول الفرنسيون فقاد نابليون أكبر حملة فرنسية لم تستطع أن تستقر في مصر أكثر من ثلاث سنوات، وحاول الإنجليز في أكثر من حملة لكنهم فشلوا في تحقيق مآربهم إلا بعد مرور ثلاثة أرباع القرن، وبعد أن حقق الشعب المصري أول دستور حقيقي في العام 1881، وهو الدستور الذي بدأ جنيناً في العام 1795 عقب ثورة شعبية كبري، حتي تحول إلي معاهدة ومعاقدة بين الشعب والوالي الذي اختاروه لحكمهم في أوائل القرن 19، ولم يلبث أن تحول إلي القانون الأساسي أو السياستنامة التي وضعت في العام 1837، والذي مهد لدستور 1882.

لقد كانت مسيرة طويلة من الكفاح خاضها الشعب المصري تحت عنوان الدستور، بدأت منذ قرنين من الزمان، وتجربة يجب أن تحكي وقائعها ويقرأها كل جيل، ليتعلم منها، وليبني علي أساسها، وليعتز بجهاد أجداده وآبائه الذين صنعوا تلك التجربة الرائدة في مجال التطور الدستوري التي سبقت الكثير من الدول في الشرق والغرب، تجربة شعب تواق إلي إلي إرساء مبادئ الحق والعدل الاجتماعي، وأسس الشرعية الدستورية، وقيم الحكم الديمقراطي الحقيقي، الذي يحقق له ذاته، ويصون كرامته، ويؤكد ريادته، ويحفظ حقوقه.

عبر هذه المسيرة الطويلة علي مدار قرنين من الزمان عرف النظام السياسي المصري العديد من أشكال الوثائق الدستورية المنظمة للحياة السياسية المصرية، تنوعت مسمياتها ما بين قوانين نظامية، ولوائح أساسية، وأوامر ملكية أو خديوية، وإعلانات دستوريه، ودساتير.

بدأت مسيرة  الشعب من أجل الانعتاق من جعبة الحاكم بإرغام السلطان العثماني علي تولية محمد علي حكم مصر في 9 يوليو عام 1805، وكان مشهدها الأخير مع بدايات القرن الواحد والعشرين مع إرغام الشعب الرئيس محمد حسني مبارك علي التخلي عن الحكم .

قرنان من الزمان بين مشهدي البداية والنهاية، بين مشهد الإطاحة بالوالي الثماني خورشيد باشا، ولقطة إسقاط نظام مبارك شهدت مصر خلالهما نضالاً طويلا للشعب المصري انتهي بإصدار دستور للبلاد سنة 1882 في عهد الخديوي توفيق، ثم ما لبثت سلطات الاحتلال الإنجليزي أن ألغته، ولكن الشعب المصري واصل جهاده إلي أن صدر في 19 أبريل سنة 1923 دستور انعقد علي أساسه أول برلمان مصري في 15 مارس سنة 1924.

وظل دستور 1923 قائما إلي أن ألغي في 22 أكتوبر سنة 1930، ثم استطاعت الحركة الوطنية إجبار الملك فؤاد علي إعادة العمل بدستور سنة  1923 بعد أقل من أربع سنوات، وظل معمولاً به إلي أن قامت ثورة الجيش المصري من خلال الضباط الأحرار في 23 يوليو سنة 1952.

في أعقاب قيام ثورة يوليو 1952 شكلت لجنة مكونة من خمسين شخص من أبرز الشخصيات السياسية والثقافية والقضائية والعسكرية تحت قيادة رئيس الوزراء ''على ماهر'' وبعضوية الفقيه الدستوري ''عبد الرزاق السنهوري''، وصدر الدستور الجديد عام 1956 .

وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970، تولى السلطة مؤقتاً نائبه السيد محمد أنور السادات إلى أن تم ترشيحه بواسطة مجلس الأمة لرئاسة الجمهورية وقد تمت الموافقة علي رئاسته للجمهورية في الإستفتاء الشعبي الذي أجري في منتصف أكتوبر 1970. وفي 20 مايو 1971 طلب الرئيس السادات من مجلس الشعب وضع مشروع دستور جديد فقرر المجلس بجلسته المنعقدة في نفس اليوم تشكيل لجنة تحضيرية من خمسين عضوا من أعضائه ومن أهل الرأي والخبرة ورجال الدين. وفي جلسته المنعقدة في 25 مايو 1971، تقدم لعضوية اللجنة التحضيرية ثمانون من أعضاء المجلس، فقرر المجلس أن يرفع عدد الأعضاء من 50 إلي 80 عضوا واعتبر جميع المتقدمين أعضاء في اللجنة.

وعقب قيام ثورة 25 يناير وتنحي الرئيس السابق محمد حسني مبارك، كلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي تولى إدارة شئون مصر، لجنة للقيام ببعض التعديلات الدستورية، وتم عرضها للاستفتاء على الشعب في 19 مارس 2011، وبعد موافقة الشعب المصري في الاستفتاء، أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة في يوم 30 مارس 2011 إعلاناً دستوريا من 63 مادة مشتملاً على أغلب التعديلات التي تم اقرارها في الاستفتاء بالإضافة إلي بعض المواد الأخرى.

وفي 30 يونيو 2013 قامت ثورة كبيرة ضد حكم الرئيس محمد مرسي، على أثرها عطل العمل بدستور 2012. شُكلت لجنة من 10 خبراء قانونيين لتعديل دستور 2012. أنهت لجنة العشرة عملها في 20 أغسطس 2013. وفي المرحلة الثانية أجريت تعديلات قامت بها لجنة من 50 شخصًا، أُعلنت أسمائهم في 1 سبتمبر 2013. واختير عمرو موسى رئيسًا للجنة الخمسين في 8 سبتمبر 2013. تضمنت المسودة النهائية للدستور عدة أمور مستحدثة منها منع إنشاء الأحزاب على أساس ديني. وقُدمت المسودة النهائية للرئيس المؤقت عدلي منصور في 3 ديسمبر 2013، لتعرض على الشعب المصري للاستفتاء عليها يومي 14،15 يناير 2014، وقد شارك في الاستفتاء 38.6% من المسموح لهم بالتصويت، وأيد الدستور منهم 98.1% بينما رفضه 1.9% وذلك وفقًا للجنة المنظمة للاستفتاء.

ما أريد أن أتوصل إليه في هذا المقال هو أنه في الدستور يسعي إلي جمع شمل الأمة والوقوف يداً واحدة ضد المليشيات ؛ وقد وجدنا أنه  من مقدمة الدستور العراقي: «نحن شعب العراق الذي آلى على نفسه بكل مكوناته وأطيافه أن يقرر بحريته واختياره الاتحاد بنفسه، وأن يتعظ لغده بأمسه، وأن يسنَّ من منظومة القيم والمثل العليا لرسالات ومن مستجدات علم وحضارة الإنسان هذا الدستور الدائم. إنَّ الالتزام بهذا الدستور يحفظ للعراق اتحاده الحر شعباً وأرضاً وسيادة». ومن الباب الأول في الدستور هذه الفقرة: «جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة كاملة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديموقراطي وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق»... ليس خافياً على أي عراقي أن الدستور الذي ينص في ديباجته وفي بابه الأول على وحدة البلاد، وخلوّه من تحديد هويته العربية، كان بناء على ضغط الزعماء الأكراد والحاكم «المدني» الأمريكي بول بريمر الذي عُرف الدستور باسمه. لكن هذا التشديد على الوحدة «أرضاً وشعباً» لم يكن في يوم من الأيام محل احترام الزعماء الأكراد، فقد اتخذوا إجراءات كثيرة تحول دون دخول العراقيين إلى إقليمهم، و «كردوا» مناطق كثيرة في الشمال، خصوصاً في كركوك بحجة تعريبها أيام صدام حسين، وتصرفوا كدولة مستقلة في علاقاتهم الديبلوماسية مع الخارج، فلديهم ممثلون في كل السفارات، ولديهم جيشهم الخاص (البيشمركة) الخاضع لرئاسة إقليمهم، في مخالفة صريحة للقانون الذي يعتبر هذا الجيش جزءاً من المنظومة الدفاعية الخاضعة لقيادة رئيس الوزراء، حتى أنهم يقيمون علاقات مع إسرائيل غير خافية على أحد. وذلك حسب قول مصطفي زين في مقاله الدساتير لا تليق بالمليشيات.

أسأل الله تبارك وتعالي أن تتحرر العراق الشقيقة من براثن المصيدة المليشاوية مثلما تحررت مصرنا الحبيبة.. اللهم استجب.. أمين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم