قضايا

لماذا التعتيم الأوربي تجاه حضارات الشرق القديم؟

محمود محمد علييهدف هذا المقال إلى الكشف عن قضية إنسانية شائكة للغاية وخلافية إلى أقصى حد، ألا وهى قضية ” التعتيم الأوربي تجاه حضارات الشرق القديم”، وقد أصبحت مثل هذا المقال ضرورياً وملحاً، بسبب الخلط والفوضى الفكرية والأخلاقية التى تحيط بهذه القضية. فمعظم المؤرخين والعلماء والفلاسفة الغربيين يحاولون تعتيم هذه القضية، من خلال الغرس فى الأذهان، أن اليونانى هو مبدع الفكر والعلم والأخلاق والاجتماع والسياسة والفن والرياضيات والفلك والطب والمنطق والفلسفة…وغيرها. وكأن الحضارة اليونانية خلق عبقرى أصيل جاء على غير منوال، لم تسبقها حضارات أخرى، ولم تتصل بها مصر القديمة ولا كنعان ولا بابل ولا أشور ولا فارس ولا الهند ولا الصين….بل هى فى زعمهم ـ أوربية النشأة والتطور.

أصحاب هذا الرأي هم دعاة ” المعجزة العلمية اليونانية ” الذين يسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى أن يمجدوا الحضارة اليونانية – حضارة أجدادهم، فتحدثوا طويلاً عن ذلك الإنجاز الهائل الذى حققه اليونانيون فجأة دون أى مقدمات تذكر، ودون أن يكونوا مدينين لأى شعب أو حضارة سابقة عليهم.

وهؤلاء هم أكثر الناس إيماناً بأن أقدم الحضارات كانت مزدهرة وناضجة كل النضج بالقياس إلى عصرها، ومن ثم فقد كان من الضروري أن ترتكز فى نهضتها على أساس من العلم.

إلا أن هذا العلم فى نظر دعاة المعجزة العلمية اليونانية كان يعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة؛ وأن تلك الحضارات كانت تكتفى بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح دون سعى إلى حب الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر، كما أن تلك الحضارات لم تملك نفس القدر من البراعة فى التحليل العقلى ” النظرى” لهذه المعارف .

أما الحضارة التى توصلت إلى هذه المعرفة النظرية، والتى توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التى تتيح له كشف المبدأ العام من وراء كل تطبيق عملى فهى الحضارة اليونانية .

فمثلاً قالوا أن المصريين القدماء قد استخدموا الرياضيات فى مسح الأرض وشق الترع وغيرها من أغراض عملية، استعانوا بها وبالميكانيكا على إقامة الأهرمات التى مازالت تتحدى الزمن، أقاموها لحفظ الجثث المحنطة، اعتقادا منهم فى خلود النفس وحساب اليوم الآخر، وتوسلوا بعلم الكيمياء فى تحنيط الجثث واستخراج العطور والألوان، وغير هذا من أغراض دينية. ولكن اليونان هم الذين أنشأوا هذه العلوم فى صورتها النظرية الخالصة، وتجاوزوا فى الرياضيات مرحلة الأمثلة الفردية المحسوسة إلى مرحلة التعاريف والبراهين، فتوصلوا إلى القوانين والنظريات التي تستند إلى البرهان العقلي .

وكذلك كان الحال فى علم الميكانيكا، كان اليونان فيما يقول دعاة المعجزة العلمية اليونانية – أول من عالج دراساته بروح علمية؛ إذ كان لأرسطو الفضل فى إنشاء هذا العلم النظري، وإن جانبه التوفيق فى صيغة عبارته ؛ وأكمل الاسكندريون من أمثال ” أرشميدس” (ت212ق.م) ممن قننوا المعلومات الميكانيكية لأول مرة فى تاريخ العلم .

وكان البابليون والكلدانيون قد سبقوا إلى مشاهدة الكواكب ورصدها، فأنشأوا بهذا علم الفلك العملى، ولكنهم كانوا مسوقين بأغراض تنجيمية أو عملية ( كمعرفة فصول الزراعة ومواسم التجارة ونحوها ) .

أما اليونانيون فهم الذين أقاموا علم الفلك النظرى فى رصد الكواكب لمعرفة ” القوانين ” ووضع ” النظريات ” التي تفسر سيرها وتعلل ظهورها واختفائها. ويرجع الفضل الأكبر فى هذا إلى ” بطليموس” الإسكندري ( فى القرن الثانى ) بكتابه” المجسطى” الذى ظل المرجع الرئيسي حتى مطلع العصر الحديث.

ومثل هذا يقال فى العلوم التى أدت إليها فى الشرق بواعث دينية أو أغراض عملية؛ عالجها اليونان بروح علمية، حتى نشأت علوماً نظرية تستند إلى البرهان العقلى وتقوم على” تقنين ” المعلومات بغير باعث ديني أو عملي.

ولم يكتف دعاة ” المعجزة العلمية اليونانية ” بذلك؛ بل خرج منهم فريق يرى أن التنقيب فى أطلال الماضي للتوصل إلى حضارات مزدهرة قبل اليونان ليس سوى مضيعة للوقت إزاء الطابع الملح للمشاكل القائمة، وهو موقف عفا عليه الزمن، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي المشوش والهمجي واللحاق بالعالم الحديث الذى تندفع تقنياته بسرعة الالكترونات، والعالم فى طريقه إلى التوحد. وعلينا أن نكون فى طليعة التقدم، وسيحل العلم فى القريب العاجل كافة المشاكل الكبرى، بحيث تصبح تلك المشاكل المحلية والثانوية غير ذات موضوع. ولا مجال لأن تكون هناك لغات تعبر عن ثقافة ما سوى غير ثقافة أوربا التى أثبتت أصلاً قدرتها على ذلك، مما يعنى أنها قادرة على نقل الفكر العلمي الحديث، وأنها عالمية فعلاً.

وفي كتابنا « الأصول الشرقية للعلم اليوناني والذي نشرناه في عام 1997م من خلال مؤسسة "دار عين" المصرية، والذي يدور حول نشأة العلم في مصر القديمة، ووادي الرافدين، والصن، والهند، وتهافت نظرية المعجزة اليونانية، حيث طرحنا من خلاله عدة قضايا نظرية تدور حول مشكلة الأصول الشرقية للعلم الغربي، جاعلين من مصر علماً على الشرق، ومن اليونان علماً على الغرب، من حيث إن مصر هي أقدم الحضارات في الشرق، وفي العالم كله بالتالي، أما اليونان فهي كما يقال أكثر البلاد الأوروبية أوروبية، وخلص من هذا الطرح إلى بعض النتائج المبدئية، التي يمكن أن تصلح مرتكزاً، لا لمسألة الأصول المصرية للفلسفة اليونانية فحسب، بل لمسألة الأصول الشرقية للفلسفة الغربية.

كما بينا في هذا الكتاب أيضاً بأن نظرية المعجزة اليونانية التي استند إليها مؤرخو الفلسفة الغربية، وبعض من يجاريهم في الشرق، لتأكيد انفراد الحضارة الغربية وحدها بالفلسفة، نظرية متهافتة؛ لأنها لا تقوم على أي أساس علمي من أي نوع، بل تقوم على أسس وأفكار ثبت أنها ليست من العلم في شيء، كفكرة التمييز العنصري، أو التفرقة بين الأجناس، هذه الفكرة التي واكبت المد الاستعماري الغربي، منذ بداية الانقلاب الصناعي في أوروبا، وظلت محتفظة بقدرتها على خدمة سائر الأغراض غير النبيلة، منذ ذلك التاريخ إلى اليوم.

كذلك أوضحنا في هذا الكتاب أيضا أن المعجزة اليونانية تقوم على مبادئ وأفكار مغلوطة، تقع في صميم الفلسفة نفسها، كفكرة الفصل بين النظر والعمل مثلاً، فصلاً يراد منه إلصاق العمل بالشرق، والنظر باليونان، ومثل هذه الفلسفات تتجاهل وحدة الخبرة البشرية من ناحية، وجدل العمل والنظر من ناحية أخرى، وتتجاهل أيضاً النزعتين العملية والنظرية، لا تختص واحدة منهما بالشرق والأخرى بالغرب، بل هما موزعتان هنا وهناك، وفق معايير تعود في مجملها إلى الظروف التاريخية، وما يرتبط بها من عوامل ثقافية واجتماعية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم