قضايا

سقوط الرأي العام تحت سطوة حروب المنهجيات

محمد عمر غرس اللهتُعد العلوم الإنسانية هي مفتاح فهم التعامل مع الإنسان، وفي عصر العولمة والقدرة التأثير الهائلة على القطاعات الشعبية، فإن التمكن من العلوم الإنسانية هو مفتاح القدرة على التعامل مع المجتمع وقضاياه ومخاضه، بما فيها مسألة القدرة على التأثير - وهو الأمر المهم هنا - هذا كان واضحاً جداً فيما يجري في منطقتنا على الأقل منذ عشر سنوات، حيث سيقت قطاعات عريضة من شعوب بأكملها لتدمر أوطانها وتخربها وتعيث فيها فساداً، كالمجانين يصرخون لا تعرف مالذي أصابهم، وكيف تحولوا لبركان مدمر يصفق لقاذفات الناتو ويهلل لمسؤوليهم ولأدواتهم في المنطقة، هذا كان بسبب التمكن دول الهيمنة المُتقن من العلوم الإنسانية، والتي تمكنت بهذه العلوم من التعامل مع منطقتنا تاريخها وواقعها وتفاصيلها وقيمها، وبالتالي تملكت القدرة على التأثير على هذه الشعوب الوطنية، بسطوة تحالف المال والإعلام والفتوى، والمنظمات الدولية وتنظيم الجماعات المحلية المدنية،كيفما تريد لتحطم وتخرب جهود ما يزيد عن سبعون عاماً في بناء الدولة الوطنية، وتعيد المنطقة لمرحلة الهيمنة والإستعمار.

فالتميز في العلوم الإنسانية علاوة على إنه أهم العلوم التي يجب على الدول والمجتمعات الإهتمام بها، هو أيضاً أحد أهم أسلحة الدفاع في مواجهة حروب المنهجيات والسرديات الوافدة، تلك المنهجيات المعبرة عن تطور فكري وحضاري ونفوذ خارجي، مثله المستشرقين ومدارس علم الإجتماع والفلسفة وعلم نفس الجماعات، فتركيز الإهتمام على العلوم الطبيعية بحجة إحداث التطوير التقنية، وإغفال العلوم الإنسانية وتهميشها، وعدم الإهتمام بها وبمخاضها، يجعل كل ما نقوم به لا يصب في مصلحتنا الحضارية والثقافية كأمة ومجتمع.

أن جزء من إشكالية عرض الفكرة وتقديمها للقاريء، مرتبط بأزمة المنهج التي تعترينا، مثلاً حينما نسير في طريق النقد الإقتصادي للواقع المحلي او الاقليمي او الدولي، وانعكاسه على المجتمع، سنجد أنفسنا نستخدم إلى حد ما السياق الماركسي في نقد الرأسمالية، لان الماركسيين لهم الباع الطويل في النقد للمنظومة الإجتماعية والاقتصادية الراسمالية، ولابد لأي باحث او ناقد أن يتبنى بعض او كل منهجهم النقدي هذا.

أيضاً، على سبيل المثال: حينما نذهب لنقد النظم السياسية، وما يتعلق بالديموقراطية، والحكم والسلطة، يقع الكل تقريباً على سياق حزمة المناهج الليبرالية، يغرقون فيه، ويرون كل التفاصيل وفق نظارات هذا المنهج، ويقولون بقوله ويسبغون أوصافه وسياقاته، ومصطلحاته، وذلك لتمكن المدرسة الليبرالية من سياق النقد في هذا الموضوع، وهكذا في بقية المواضيع التاريخية وعلم اللغات واللسانيات.

نحنا نعاني من هذا في مناهج البحوث التاريخية، التي تتسيد عليها تحقيبات قدمها وإبتكرها باحثين أوروبيين، قرأوا بها وعبرها تنوعات الحضارة في منطقتنا، وإنسحب هذا حتى على تاريخ الإسلام، وهو أيضاً واضح في مسألة اللغات واللسانيات، التي وضع تصورات منهجيات بحوثها علماء أوروبيين، لهم في الحقيقة باعهم الطويل في هذا، لكنهم في الكثير من الأطروحات لهم أغراضهم الحضارية في النظر لموضوع الهجرات، او لموضوع اللغات واللسانيات، وقد ركز بعض الباحثين العرب على نقد تلك المنهجيات، وحاولوا ممارسة التنبيه من الإستمرار في تبنيها، وحاولوا تقديم روية وتحليل وعرض مستمد من السياق المنهجي العربي المرتبط بالفلسفة العربية، ورؤيتها، ولسانها، وقراءة تاريخها.

أنه أمر ملفت وواضح وشائك أيضاً، فإغفال هذه مناهج الأوروبية غير ممكن التحقيق لأهميتها، كما أن تبنيها بحذافيرها يبدو غير موضوعي ولربما له سلبياته أيضاً، أن المشترك الإنساني - منهجياً - أمر مهم وضروري، والتجربة الإنسانية لايمكن قفلها وإغلاقها، فهي نافذة قبلنا او لم نقبل، غير أن أمر مهم في هذا الموضوع يتطلب التنبه، فيما يتعلق بإسقاط هذه التجارب الإنسانية بواقعها الخاص وظروفها على واقعنا المحلي والعربي، أي تلبيس تلك المناهج على مخاضنا وحصر بحثنا بها وعبرها، فنصبح أدوات لتلك المنهجيات المرتبطة بشكل واضح بالسياق الكولونيالي (النزعة الأورومركزية - علم الإجتماع الإستعماري)، والسياق المتطور عنه الذي يمكن تسميته فوق كولونيالي أي عولمي، وما يطلق عليه الأن إصطلاحاً الحداثة.

وهذا كله صار له نفوذ حتى على القطاع العريض من الرأي العام، الذي صار ينساق مع مفاعيل هذه المنهجيات، ليس فقط في معامل البحث، بل في الإعلام وسطوته على فضاء الرأي العام العربي، الأمر الذي نراه في ظاهرة تحقير الأمة و(العربي والعربية والعروبة) والحط من تاريخها ومساهمتها الحضارية ومكانتها، وتحقير لغتها، ونراه في القول بأن الفتح الإسلامي للمغرب العربي عبارة عن إستعمار، ونراه في تفسير التنوع المحلي (البيئات القبلية المحلية) على أنه أثنيات وعرقيات، ونراه فيما يتعلق بالدعوة لدسترة اللهجات وجعلها ضرة للسان العربي المبين ..الخ، ونراه في تسييد اللغات الأجنبية في مجال التعليم، هذه المواضيع التي سرت فكرتها كالنار في الهشيم - عبر التسويق المنهجي والإعلامي المقصود والمدار بعناية - تلقفها القطاع العريض من الرأي العام بما فيه من مثقفين وأكاديميين ومتعلمين وقطاعات شبابية، بديناميكية فكرية ممنهجة تم تسريب سرديتها وجعلها حاضرة عبر الضخ الإعلامي الهائل.

فكيف السبيل إذا في هذا التشابك، وكيف يمكن تتبع طريق التوازن، بين المشترك الإنساني، والبحث والعرض والتحليل والتفسير وفق مناهج نابعة من صلب الفلسفة العربية وإرتباطها اللساني ومفاعيله المظمرة والظاهرة، وما هو دور الباحثين والمثقفين والأكاديميين، ووسائل التعليم، والإعلام، لإحداث التوازن، والمواجهة الحروب والأسلحة المنهجية، التي لم تعد فقط في معامل ومراكز البحث، بل نفذت بالتطور الإنساني للقطاع العريض من الرأي العام، والتي لا يفك شفرتها إلا متخصصين محترفين، وعلى مجتمعنا العربي بذل المال والجهد والقرار السياسي، لتوفير المناخ لتمكينهم، وتظهيرهم من مخاص الأمة الفكري والمنهجي، يشكلون قوة الدفاع المنهجي، وعلى العاملين في المجال الفكري والمنهجي أن يقوموا بدورهم هذا، يمارسوا التصدي المنهجي لمنهجيات التفتيت والتقسيم والتخريب الفكري والمنهجي.

والله من وراء القصد

 

د. محمد عمر غرس الله

كاتب ليبي: بريطانيا

 

 

في المثقف اليوم