قضايا

صريرُ أقلامٍ وأصابعُ إتهام (1)

عصمت نصارلقد تحدثنا في معظم كتاباتنا عن الفكر العربي الحديث، وبيّنا أن الفترة الممتدة من العقد الثالث من القرن العشرين إلى قيام ثورة يوليو 1952م تمثّل العقود الذهبية للمناظرات الفكرية في مصر والشام والعراق. فقد حفلت هذه الفترة بأكثر من خمسمائة مناظرة حول شتى ميادين الثقافة والفكر. والذي يعنينا في هذا السياق هي تلك الفترة التي كانت تتعلق بقضايا الفكر الديني وضروب النقد التي جمعت بين الكُتاب المحافظين، والمستنيرين المعتدلين، والتحديثيين التغريبيين؛ وإنْ شئت قل بين المحافظين المستنيرين - الذين حملوا على عاتقهم رسالة التجديد - والمجترئين العلمانيين الذين تأثروا بالثقافة الغربية.

وقد انضوى جُل الأزهريين تحت عباءة الاتجاه المحافظ الرجعي تجاه معظم القضايا المطروحة، ويستثنى منهم تلاميذ الشيخ "محمد عبدة"، ومن سار على ضربهم من أمثال مفكرنا "محمد فريد وجدي"، الذي تميز عن رفقائه من المحافظين الأزهريين بثلاثة أمور وهي : منهجية النقد في التناظر، وموسوعية الثقافة، والنزعة الفلسفية في التحليل واستنباط البراهين والأدلة.

وقد أثبتنا في المقالات السابقة اعتداله وموضوعيته في الرد على خصومه، وبيّنا قدرته الفائقة على دحض الأباطيل وتبرير علة الجانحين وأغراض المشككين والمجترئين، وعقلانيّته في إجلاء الحقائق وتوضيح الغامض وحرصه على التواصل مع المتلقي والتصاول مع المناظر دون قدح أو استنكار أو مصادرة على رأيه. أجل ! لقد بيّنا ذلك وسوف نؤكده في السطور التالية حيث آخر مناظرات "وجدي" مع "خالد محمد خالد" (1920م -1996م) الذي قاده قلمه إلى الوقوف في قفص الاتهام، وهو العالم الأزهري والداعية المجدد، والمفكر الإسلامي الحصيف، والخطيب، الملهم، والمتصوف الورع، والفيلسوف الناقد.

وحريُّ بي أن ألقي بعض الضوء على ذلك الداعية الثائر الذي لم يرث عن والده سوى الغيرة على صوالح الناس وحقوق الفقراء ومقاومة طمع الأغنياء واستنكار الظلم الاجتماعي الواقع على الفلاحين؛ ذلك الشاب الورع الذي نشأ نشأه دينية في كُتّاب العدوة (إحدى قُرى محافظة الشرقية) فحفظ القرآن ثم رافق أخاه إلى القاهرة ليلتحق بالمعهد الأزهري الابتدائي عام 1929م، وقد لُقب هناك بصاحب الصوت القادم من الجنة في تجويد وترتيل القرآن، وفي الثانية عشر من عمره تردد على الجمعية الشرعية؛ ليتوسع في الدراسات الإسلامية التي لم يدرسها في الأزهر، والاستماع إلى دروس الأمام محمود خطاب السبكي (1858م - 1933م) وحديثه عن الأصول الشرعية والشمائل المحمديّة.

وانتقل الصبي إلى المرحلة الثانوية، وأجتهد في العزوف عن النهوج التلقينية المتبعة في دراسته الأزهرية؛ فانطلق يحرر ذهنه من النصوص والمتون المحفوظة، فلم يقنع الصبي المتطلع للعلم عند هذا الحد، بل راح يطالع أشهر الجرائد والمجلات والكتب السياسية والفلسفية قدر طاقته، ورغب في ثقل ذهنه لتدريب ملكات الفهم دون ملكات الذاكرة التي اعتادها خلال دراسته الابتدائية. وأدرك خلال مطالعاته لتاريخ الحركة السياسية في مصر قسوة الاحتلال الأجنبي وحق الشعب في الحرية والاستقلال وعلة الثورات على فساد الحكام وغيبة العدالة. وفطن إلى مبادئ ثورة 1919م، وإلى المعنى الحقيقي للولاء والانتماء المتمثل في الولاء للوطن والانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه.

وكانت خطب سعد زغلول (1859-1927م) والقمص سرجيوس (1882-1964م) التي كانا يلقيانها من فوق منبر الأزهر من أهم الدروس التي تجسدّت فيها تلك المعاني. وقد فطن يومذاك إلى أهمية كتابات التنويريين والمجددين والمصلحين التي انتجت هؤلاء الرجال السُّوار وعلى رأسهم الأفغاني ومحمد عبده، تلك الكتابات التي رسَّخت تلك المفاهيم في العقل الجمعي للشبيبة المصرية. فمن أجل حريات الشعب ودفاعا عن الدين والوطن عاش أولئك الأحرار الكبار ولم يخشوا في الله لومة لائم. فقد عاش الإمام محمد عبده ومات خصماً للخديوي عباس، لا من أجل دنيا منعها عنه، أو مناصب حرمها منه، إذْ كان تَفرُّد الشيخ  ونبوغه وكفاءته وعلمه وكرامته وشخصيته المهيبة الجليلة يرشحه إلى أعلى  المناصب إلى درجة أنه كان يدير الأزهر دون أن يكون شيخاً له وينفذ ما يستطيع من إصلاحات. وطالما حارب من أجلها عن طريق عضويته بالمجلس الأعلى للأزهر وقدرته على الإقناع وصدق التوجه. وقد تأثر خالد محمد خالد بهذه الشخصية خصالاً وصفاتا ومنهجاً، وظل طيل حياته يدين بالحب والاقتفاء وتبعية المجتهدين لرأس المدرسة وأصول النهج، ولاسيما في ميدان السياسة فقد تأثر بمنهج الأستاذ الإمام في الجمع بين الدين والسياسة والوطنية فهي عنده ضميرٌ واحدٌ لا يتجزأ ولا يتناقض، وبالتالي لم يكن تاجراً ولا مغامراً بهذه المقدَّسات بل كان لها نعم الرائد ونعم الضمير.

ومن أقواله في ذلك: " نحن مشمولون ببركات الإمام حين نهتف قائلين مرحباً بالسياسة؛ ولنكن متفقين على أننا طوال حديثنا عن السياسة؛ فإننا نعني السياسة المتفوقة في وطنيتها وفي وسائلها وغاياتها وأخلاقياتها، وحين نقف مع السياسة المنحرفة والعرجاء فإننا نعارضها ونناقشها وصولاً بها إلى السياسة الرشيدة التي يجب أن نتأسى بها ونحيا في مناخها. ولعلّ إعجابه بمحمد عبده هو الذي قربه من شخصية الشيخ مصطفى المراغي (1881-1945م) شيخ الأزهر آنذاك ونهجه في الإصلاح. أمّا السياسة العملية؛ فقد أخذها عن مكرم عبيد (1889-1961م) الذي كان يطرب لمرافعاته القانونية، ومحمود فهمي النقراشي (1888-1948م) الذي أخذ عنه الروح الثورية والإخلاص للقيم والمبادئ ومحاربته للتعصب العقدي والحزبي. ذلك فضلاً عن أسلوبه الرائع إلى الشباب، ذلك الذي جمع فيه بين التربية والتوجيه والوطنية وقيمة الحرية السياسية وقيمة الديمقراطية والانتصار دوماً للحق بعيداً عن مداهمة أصحاب السلطة، وتحذيره من خلط الدين بالسياسة أو خداع الشعب باسم الدين. وحرصه على شرف الفروسية ونبلها في الخصومة والخلاف.

ولم تقف قراءات خالد محمد خالد عند الطريف والنفيس والحديث من كتب العقيدة والسياسة في الثلاثينيات من القرن الماضي خلال دراسته في المرحلة الثانوية، بل استهوته أيضاً الكتابات النفسية ولا سيما تلك التي تتحدث عن الغرائز والشهوات وكيفية تهذيبها والميول ونزاعات وطرائق توجيهها واستثمارها.

وانتهى، وهو في ريعان الشباب، إلى أن أخطر المؤثرات النفسية على الشباب هي المؤثرات الجنسية، ومن ثم يجب على التربويين العناية بتبصير المراهقين بكيفية ضبطها والتحكم فيها. ويقول متسائلًاً : أيكون إفلاس التربية بكل وسائلها في جمع الشباب فوق أرض مشتركة مع مطالب مرحلة شبابه وإذكاء روح الحرية الملتزمة وانعاش وجدانه بكل البدائل الصالحة والمناسبة؟ .. أليس محتملاً أنهم اثروا ذلك حذراً من أن يتعجلوا ايقاظ مشاعر الجنس في الطفل و الفتي؟

ولكنه كان يعتقد - ببعد نظره - أن التوسع في دراسة أسرار النفس في مرحلة الشباب لا يقل أهمية عن دراسة المعارف الدينية  والسياسية حتي لا تقع شبيبتنا في مهالك الانحراف والتطرف في هذا أو ذاك، وتمنى أن يدرج علم النفس ضمن العلوم التي يجب على الداعية ورجل الدين والمشتغلين بالسياسة الالمام بها. ويقول :" لسوف يأتلفان ويمتزجان في وعيي وخاطري الدين والعلم حتى يهدياني معاً إلى الصواب وإلى الاعتصام بهذا الصواب من كل هرطقة وسفسطة، ومن كل حيرة وبلبلة حتى يسلماني إلى اقتناع لا أبيعه بملء الأرض رغباً ولا بملئها رهباً".

وقد ساء مفكرنا ذيوع العنف في الحياة الحزبية المصرية، وكره أن يكون الصراع وتصفية الخصوم هو طريق فض المنازعات والخلافات في الرؤى والاتجاهات. وكان ينظر إلى الشيخ عبد اللطيف دراز (1890م - 1977م) على أنه النموذج الأمثل للعالم الأزهري الذي يمارس السياسة : بحصافة رجل الفكر وورع رجل الدين الذي لا يثنيه عن طلب الحرية والعدل مطمع، ولا يجنح به مطمح عن بلوغ مقصد الشريعة. ويرتحل شيخنا من ميدان السياسة الشاغل بالمصاولات الحزبية والمظاهرات الحماسية إلى بحور العشق الربانية الزاخرة بالابتهالات والطرق الصوفية والثورات الروحية والفتوحات النورانية.

ولم يرضْ من هذا العلم إلا بما لم يحدْ عن ما جاء به القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالتصوف عنده تخلية وتحلية وورع لإدراك الجمال وطمع لوصول إلى سلم الكمال، وفناء في عالم الجلال، وبقاء في معيّة صاحب النعم الذي لا يرد عنده سؤال.

ومن أقواله في ذلك :"التصوف أعلى مراحل التدين"، هذه حقيقة لا مراء فيها استخرجتها من تجارب الافذاذ ومن تجربتي ... وهو أعلى مراحل التدين والعبادة؛ لأن فيه، وعن طريقه، يرث المؤمن من النبوة بعض أنورها وأسرارها ... والتصوف كذلك أعلى مراحل التدين؛ لأنه بصفائه يهب صاحبه البصيرة. والبصيرة كما عرفها القوم "ما خلصك من الحيرة إمّا بإيمان إمّا بعيان". وهكذا نرى العارفين بالله غادين رائحين بين الإيمان والعيَان. ومن ثم تجيء الحيرة وضابية الرؤية أبعد ما يكونان عن عقولهم وأفئدتهم ... "الأحوال نتيجة المقامات"، و"المقامات ثمرة الأعمال"؛ فكل من كان أصلح عملاً، كان أعلى مقاماً".

وفي رحاب الجمعية الشرعية تعرّف على الأمام أمين محمود خطاب السبكي (1884م - 1968م)، وانتقل خطيبنا بذلك من المنتديات السياسية إلى الوعظ في الحلقات الصوفية.

(2)

لم ينظر خالد محمد خالد إلى التصوف بعين المريد المتأمل لأرفع العلوم الذوقية الروحيّة في الفكر الإسلامي، بل كان ينتقل عبر بحوره بزورق العاشق الفاني في مقاماته؛ ليخلي نفسه من جميع الأثقال التي تعيقه عن موصلة السير في الضرب المحمدي، وتعينه على الفوز باللذائذ الخلقية، ويملئ قلبه بالمعارف النورانية، ويتحلى بالطيبات الوجدانية. فلن تستهوي صاحبنا حلقات الذكر أو ارتداء العمامات الخضراء والصفراء في الموالد ولم تجذبه المآدب الممتدة أمام المساجد التي يقبل عليها المجاذيب وأهل البدع وحملة السبح والمباخر.

فالتصوف عنده من العلوم العمليّة التطبيقية التي تقتفي أثر الحضرة النبوية في الدعوة والهداية والتربية القرآنية. ويقول "التصوف الحق المضاء بنور النبوة هو الذي يسير على نهج النبوة... الاستقامة ضمير التصوف، وحقيقته، ووجهته من أجل ذلك كان العارفون يصفون ما هم فيه من سبق وبوق بأنه كما قال الغزالي: "نور يقذفه الله ويمنحه" ... لم نتعلم في الجمعية التصوف الداعي إلى اعتزال المجتمع والانقطاع عنه، أو الداعي إلى التواكل، والانهزاميّة، والتخلي عن مسئوليات الحياة بل تعلمنا التصوف بمعني صدق التّوجُّه إلى الله، وتوثيق العلاقة بالله وتحمل مسئولياتنا كاملة كمواطنين في مجتمع"، "إن التصوف بمفهومه الصحيح ذروة سنام الدين كله".

وخلال هذه الفترة، أي قبيل التحاق صاحبنا بكلية الشريعة ولمدة سبع سنوات كان يعمل بالدعوة والتبشير والوعظ في الريف والقرى والنجوع حيث مقرات ومساجد الجمعية الشرعية مردداً لحديث رسول الله : "من عمل بما علم، ورثه الله علم ما لم يكن يعلم".

والجدير بالذكر أن صاحبنا لم ينقطع عن مطالعة كتب التاريخ، والأدب، والفلسفة، والسياسة، وعلم النفس، والتربية، العربية والمترجمة إليها، والاستماع إلى القرآن مجوداً ومرتلاً، والتواشيح الدينية والمدائح النبوية، والموسيقى، والأغاني العاطفية طيلة فترة دراسته الثانوية والجامعية. ويرجع ذلك لاعتقاده الراسخ بأن كل هذه المجالات لا تعارض بينها، ولا صراع فيها في أذهان من فطنوا إلى مقاصد الحكمة، والعلم، والدين، والتصوف، والفن؛ فبعضها يكمل البعض الأخر ويحميه من الشطط والجموح والغلو والاجتراء والتعصب.

وقد نجح صاحبنا في تقبّل أفكار فولتير وروسو وفيكتور هيجو وفخر الرازي وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وماركس وبرجسون ولم ينساق إلى تبعية واحد منهم، فجميعهم ضيوف على مائدة النقد في حضرة الإيمان الواعي والعرفان الصادق وحرية الفكر ووجدان المبدع المتأمل.

ولم يشعر بأي غضاضة أو اشمئزاز أو نفور من الجلوس مع المتعصبين والتحاور مع الملحدين والاستماع إلى نزعات الثائرين وخطابات المجددين والمستغربين وأهل البدع. ويرجع ذلك إلى قناعته بأن الداعية الحق هو الخبير بمجتمعه وميول أفراده وعوائدهم وثقافة من يوجه إليهم خطابه الدّعوي والعوامل المؤثرة الطبيعية  والبشرية في البيئة التي يعيش فيها، وغير ذلك فسوف تكون رسالة الداعية المنشود ناقصة أو رديئة. ويقول "لم تكن سياحاتي عبر الأفكار والمعتقدات المتباينة. حتى أخطائي كانت متسقه مع مراحل حياتي واقتناعي بظروفها صنو تقبلي لها وتسامحي معها. فهي أولاً لم تكن نتاج هوى مريض وضال بل كانت ردود أفعال ما كان منها بدٌ لمبالغتي في الأخذ بفضائل فرضت من قبل سلطانها على تفكيري وضميري وسلوكي".

ولعلّ أطرف وأغرب الاتجاهات والنزاعات التي تعرف عليها "خالد محمد خالد"، هي جماعة الإخوان المسلمين التي كان يتردد على مقرّها خلال دراسته الثانوية الأزهرية إلى نهاية دراسته العالية في كلية الشريعة. لقد أستمع آنذاك لأحاديث المرشد العام "حسن البنا" (1906م - 1949م) والعديد من أعضاء هذه الجماعة المؤسسين وعلى رأسهم الشيخ محمد الغزالي (1917م - 1996م) والشيخ أحمد حسن الباقوري (1907م - 1985م) وقد أعرب عن أعجابه في أول الأمر بشخصية وحديث وأسلوب مؤسس الجماعة مع إحساس بالارتياب والشك في المقاصد والنوايا، دون وضوح أو وجود يبرر ذلك الارتياب وعدم الطمأنينة. الأمر الذي أقعده عن الانضمام إلى هذا المحفل والاشتراك في أنشطته.

ومنذ عام 1940م قد أدرك صاحبنا أن هذه الجماعة ليست دعويّة فحسب؛ بل لها ميول سياسية أيضاً؛ إذ أقدم حسن البنا على الترشح لعضوية البرلمان، وسرعان ما تراجع عقب رفض الإنجليز والحكومة الجمع بين المسحة الدينية والممارسة السياسية في الحياة الحزبية. وقد استجاب المرشد شريطة دعم الحكومة للجماعة الإخوان المسلمين وغض الطرف عن ملاحقة أعضائها من قبل رجال الأمن.

وقد برر "البنا" لرفاقه هذا الاتفاق بأنه يماثل "صلح الحديبية" الذي أجراه النبي، صلوات الله وسلامه عليه، مع الكفار، ومن ثم لا ينبغي على أعضاء الجماعة الحزن والتأسف على هذه التنازل وأقامت سُرادقات للعزاء في الموتى للتعبير عن غضبهم وكمدهم واستياءهم، وأن الله على حد قوله، سوف ينعم عليه وجماعته بنصر مؤزر وفتح كبير. وقامت الحكومة بعد ذلك بالقبض على معظم أعضاء حزب مصر الفتاة المنافس في نشاطه للإخوان المسلمين الأمر الذي شجع "حسن البنا" على التوسع في أقامت المؤتمرات، والندوات، والاحتفالات، وإعلان جهاز التنظيم السري للدفاع عن مصالح الجماعة.

الأمر الذي أكد مخاوف صاحبنا وشكوكه في نوايا هذه الجماعة ويقول (ونمت الجماعة نمواً كبيراً بكل أقسامها - لا سيما الأقسام المختصة بالعمال، والطلاب، والشباب - وكان أسرعها في النمو وأكثرها نشاطاً " النظام الخاص" الذي مهما يطل الحديث في تبرير وجوده، والدفاع عنه؛ فقد كان تنظيماً سريّاً، يُعد أفراده إعداداً مسلحاً ليوم يعلمه الذين يعدونه، ولأمر يعرفونه، ولهدف يبصرونه).

والجدير بالإشارة في هذا السياق أن "خالد محمد خالد" قد وجد في محمد الغزالي الرفيق والصديق الذي يئتمن على سره، وتقبل منه النصيحة فأخبره عن شكوكه ومخاوفه التي تقعده عن الانضمام لهذه الجماعة التي تتجاوز في الخصومة والاختلاف أداب النقاش البنّاء الذي يرمي إلى الإصلاح. وعلى الرغم من عضوية الغزالي لهذه المحفل إلى أنه كان يوافق صاحبنا من اندفاع بعض قادة الجماعة إلى التصاول والتصارع مع كل من يعترض طريقهم حتى حزب الوفد الذي يؤيدهم ويدافع عنهم في كثير من المواقف. وما أكثر المناظرات العدائية التي دارت بين كُتّاب جريدة صوت الأمة الوفديّة وصحيفة "صطل الأمة" التي كان يحررها الإخوان تهكماً على الوفد والسخرية منهم، وسوف تقودهم إلى العنف والجنوح والتطرف. وقد اتفقا الغزالي وخالد على أن هذه السياسة العدائية ضد مصلحة البلاد.

ويضيف "خالد" أن علة إخفاق هذه الجماعة عن بلوغ مقاصدها يتلخص في عدة أمور منها مبدأ التقية؛ فهم لا يخبرون عما يضمرون، فيدّعون أنهم جماعة دعويّة إصلاحية، ويرفعون شعار "الإسلام دين ودولة"، ويخفون رغبتهم في الوثوب إلى السلطة السياسية وأنشطتهم العدائية، وخططهم في تصفية الخصوم بالعنف، الأمر الذي يتعارض تماماً مع الدعوة بالمعروف. فإذا كان من حقهم ممارسة العمل السياسي فلا ينبغي التستر على ذلك باسم الدين وادعاء الصلاح دون غيرهم. واتهام الحكومة والمجتمع بالكفر وتشبيه أحوال الجماعة وجهادهم بما كان من أمر النبي وصحابته. ويقول (فلا الإخوان ولا قيادتهم كانوا في مستوى تبعات الغد بل ولا في اليوم بالمفهوم الذي أسلفناه لهذه التبعات)؛ فأين الإخوان من حرية الفكر، والعقيدة في مبدأ السمع والطاعة المطلقة، وعدم النقاش، وتغليب العنف على السلم وتفضيل منطق الصراع على التسامح، وتوهمهم بلوغ الحقيقة وامتلاك اليقين دون مخالفيهم، وأين هم من رسالة تبصير الشباب وهدايتهم في تعاليمهم الضالة التي تشيع الفُرقة والبغضاء في المجتمع.

فقد أوضح صاحبنا أن "حسن البنا" هو الذي أنشاء التنظيم السّري لقتال الذين يخاصمون الدعوة ويحاولون إعاقة سيرها وإحياء فريضة الجهاد (فلقد أسرف التنظيم في هذا السبيل إسرافا كان السبب الأوحد في تدمير الإخوان من الداخل والخارج ... وكانت أولى جرائم التنظيم الخاص اغتيال "أحمد ماهر باشا"، ثم "المستشار الخازندار"، و"اللواء سليم زكي"، و"النقراشي باشا"؛ ذلك فضلاً عن تدميرهم بعض المنشآت والشركات) وذلك كله بحجة السلوك العدائي للحكومة والمجتمع ضد الإخوان. الأمر الذي أدى إلى حل الجماعة ومصادرة أملاكها وأموالها. ورغم ذلك لم يتوقف التنظيم السري عن جرائمه حتي بعد مقتل "حسن البنا" بل تعددت قيادات هذا التنظيم، وتفرّق أعضاءه وشكلوا جماعات إرهابية تقتل الأبرياء بالشبهة وتحرق وتهدم المرافق العامة باسم الجهاد ضد الدولة الكافرة.

ويعقب خالد محمد خالد على ذلك قائلاُ: " وعلى الرغم من هذا فقد قضت الجماعة نحبها بأيدي تنظيمها .. لذلك أن القتل والتخريب والإفساد والترويع كلها موضع مقت الله، ومقت رسوله .. وكلها وباء يرفع الله يده عن ذويه وحامليه ..  فلا يبالي في أي واد هلكوا ... فليعد المتطرفون إلى رشدهم وليأخذوا من الذين سبقوهم درساً وعبرة .. وليتقوا الله في دينهم ووطنهم وأمتهم .. أليسوا مؤمنين أو على الأقل يريدون كذلك".

قد وجد صاحبنا في جماعة العمل الوطني الاجتماعي التي كان يرأسها "جمال البنا" (1920م - 2013م) أقرب إلى ميوله ومقاصده؛ فهي تختلف في سياستها وبرنامجها الدعوي وأنشطتها الإصلاحية عن جماعة المرشد التي أصيبت بفتنة السياسة والحكم وسقطت في عالم سفلي انتزعها من سابق عهدها الذي كانت تنشده.

وقد اتفقا معاً على تكوين جماعة للتعريب أفضل الكتب الفلسفية والسياسية والأدبية؛ لتثقيف الشباب الأزهري ثم يقوم فريقاً أخر بقيادة "محمد الغزالي" للموازنة بين الأفكار التي تحملها هذه الكتب الأجنبية وبين الفكر الإسلامي. وإصدار صحيفة لتجديد الخطاب الأزهري بعنوان (الأزهر الجديد) لمجابهة كل الأفكار الرجعية والمذاهب الجانحة والمعتقدات الفاسدة والدعوات الضالة وذلك باعتبار الأزهر الممثل الأعظم لأصول الوسطية الإسلامية. بيد أن العائق المادي صرفهما عن ذلك.

 وفي هذه الآونة استهوت صاحبنا دعوة عبدالحميد عبدالغني الكاتب (1918م - 2000م) إلى تكوين لجنة من الشبان باسم جيش الخلاص على غرار جماعة إنجليزية قامت بثورة  سلمية إصلاحية لمحاربة الفساد ومعاونة الفقراء والمعوزين، وتطوير المؤسسات الاجتماعية للنهوض بالمجتمع، وقد شرع في تأسيسها، وسرعان ما أغلقت لدواعي أمنية، واعتبار هذه اللجنة إحدى خلايا الشيوعية.

وفي عام 1947م أتم صاحبنا تعليمه الجامعي وتخرج في كلية الشريعة بالأزهر وحصل على العالمية. وراح يفكر في كتابة أولى مؤلفاته للرد فيه على التساؤلات التي تدور في خاطره، ويعالج في صفحاته القضايا التي نريد طرحها على الرأي العام ليثقفه ويخلص ذهنه من التقليد الذي أعياه وحال بينه وبين التجديد والإصلاح والاجتهاد.

تلك كانت رحلة صاحبنا التي استعرضنا فيها أهم المؤثرات التي شكلت بنية كتابه - موضوع المناظرة المزمع مناقشته - والكشف عن مشاربه الدينية والعقدية والأدبية والفلسفية والسياسية التي شكلت أفكاره، وألقت بعض الضوء على البيئة الثقافية التي عاشها وكانت العلة الحقيقية وراء صرير قلمه الناقد والأصابع المتثاقفة التي كانت تشير بالاتهام وتوجه اللوم لمواطن الإخفاق التي واجهته بدايةُ من المناهج الأزهرية التلقينية وندرة المعارف الأدبية والعلمية والفلسفية في برامج تثقيف شبيبة الأزهر ونهج جماعة الإخوان المسلمين في استقطاب المتدينين الساخطين على واقعهم الاجتماعي والسياسي والمتطلعين إلى غدٍ أفضل تحت عباءة دعوة المرشد وطموحاته في إنشاء حكومة إسلامية، ونهايةً بغيبة العدالة الاجتماعية وأتساع الهوى بين الطبقات، وانصراف المحبطين إلى التصوف باعتباره الملاذ الأمن لدينهم والأمل المرجو في رضا ورزق الله ونعمه، والدواء الشافي لمعاناتهم طمعاً في السعادة التي يفتقدونها.

وفي الصفحات التالية، سوف نتحدّث عن أصابع الاتهام التي وجهتها السلطات القائمة صوب الكتاب والاتجاهات المغايرة التي وضعت صاحبنا في قفص الاتهام بتهمة المروق والتجديف والضلال والإضلال.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم