قضايا

بكر السباتين: فلسفة السؤال وإرهاصات ما قبل الكتابة

بكر السباتينأحياناً، تراودك أسئلةٌ مبهمة حول ما قدمت في حياتك فتكتشف فجأة بأنك مجرد كائن فضولي، مرت حياته عبثاً دون أن تترك فيها بصمات تشير إليه، إلا ما يقدره الآخرون فيما تنجز.. ثم تعود عن هذه الأفكار لتوهم نفسك بأنك حققت المرام فما عليك إلا التبختر بخيلاء في ظلال غابة السنديان التي غرست أحلامك في أعماقها، حتى تستفيقَ الأسئلةُ كأنها كائنات حية يكسوها زغب البداية، ترفرف بأجنحتها الطرية الواهنة من فوقك، تمد أعناقها لترتضع مخرجات تفكيرك من معرفة وإبداع، فتشعر بأنك ستبدأ من هنا.. فتدرك نفسك قبل أن تتخاطفك الإحباطات.. وترسخ في أعماقك فكرة أنك ابن الحاضر وتمتلك معطيات ما بذلت من جهد في حياة دواليبها ضرّاسة ومستقبل لا ينتظر التعساء.

مجرد عاصفة تلازمني كلما احتسيت قهوتي الصباحية وأنا أقلب معطيات فكرة جديدة تلمع في رأسي وتتهيج لكي تلمع في سماء تترصع بالأفكار دون قيود.. فلا أجدني إلا ورؤوس أصابعي تنقر على لوحة المفاتيح قبل أن يصاب عقلي بالخمول، فتأخذني غيبوبة الرحيل إلى عوالم جديدة، اقتفي في غياهبها ظلال أفكار تنتظر المنطق حتى يربط بينها ويقيم الشكل على المحتوى والجوهر، وينفض الخيالُ عن المنتج الفكري غبار اللامعقول حتى يتهيأ القراء للولوج إلى تفاصيله؛ لاغتنام المتعة أو الحكمة أو الخروج بخفي حنين.. هذه إرهاصات لولادة عسيرة يراففها آلام المخاض الفكري؛ إلا أن خاتمتها تشعرك ببهجة الفتح المبين.. فيشرق النهار في قلبك وعقلك ومن يقتفي أثرك أو تتبع خطواته إلى أبواب الرشاد.. يخرج المولود دون قماط ويظل حراً يأنف القيود والحدود.. أفكار مبعثها الحرية والنماء، مبذورٌ فيها طاقة التغيير إلى الأفضل.. أفكار ليست عقيمة بل تتمتع بقابلية التلاقح والتمازج وتنتج أسئلة ذات آفاق جديدة لتنداح دوائر المعرفة ويشتد النهار سطوعاً وأمان.

والسؤال هو مفتاح المعرفة، إذْ يتوالد كلما تعقدت التراكيب وتشعبت التفاصيل، فلا يتوصل العقل إلى النتائج إلا وفي جوفه أكثر من سؤال.

ربما يكون أحد أكثر الاستشهادات المعروفة والمقتبسة في الفلسفة الغربية هي مقولة سقراط البليغة خلال المحاكمة التي حكمت فيها المحكمة الأثينية عليه بالإعدام، بأن "الحياة بلا تساؤلات لا تستحق العيش”.

وعرف لاني واتسون السؤال بكل بساطة في مقال له بعنوان "فلسفة السؤال.. ما هو السؤال؟" -بتصرف.. مجلة أثارة-..

السؤال "هو فعل تسعى به إلى الحصول على معلومات. وهي مختلفة تمامًا عن تلك التي تم التوصل إليها من خلال دراسات في فلسفة المنطق واللغة، وقد تختلف عن إجابتك أنت أيضًا". فالأسئلة تعتبر جزء مهم من حياتنا اليومية. "إنها أداة غير ملحوظة ولكن لا غنى عنها، تنسج محادثاتنا بسلاسة، تطرح استفساراتنا، وتوجه انتباهنا إلى هذا أو ذاك. إذا أردنا أن نفهم ونعزز الدور القيّم الذي تلعبه الأسئلة في حياتنا، فإن السؤال عن ماهية السؤال يبدو كبداية جيدة".

أنا أسأل بمعنى أنا أستفهم.. ويُقسّم الاستفهام في اللغة العربية إلى قسمين، وهما كما يلي:

استفهام حقيقي: هو معنى من المعاني، والذي يطلب فيه المتكلم من السامع أن يُعلِمه ما لم يكن معلوماً عنده من قبل.

استفهام مجازي: هو استفهام لا يريد المستفهم منه إجابة، بل يريد إيصال معانٍ أخرى للمستمع.

أي أن السؤال يمثل منصة انطلاق للإبحار في غياهب المجهول.

وفي المحصلة لا بد من سؤال يفتح شهية العقل للإجابة من خلال ربط المدخلات بالنتائج؛ حتى لا تكون المخرجات مجرد أفكار تدور في فلك اللامعنى والإبهام.. وحتى تحسن التفكير، عليك أولاً أن تمتلك القدرة على طرح السؤال القائم على المعرفة بنواقص المعطيات لتكون التتمة بالجواب الشافي حتى تكتمل الفكرة.. وقد يكون السؤال نفسه نتيجة بحد ذاته ليجتهد العقلاء في طرح أفكارهم للبحث في كل جوانبه.. هذا قليل من الفلسفة حول طقوس التفكير وإرهاصات ما قبل الكتابة وعلاقة كل ذلك بالسؤال البنّاء الذي يبحث في النواقص من أجل الكمال.

 

بقلم بكر السباتين

21 مارس 2021

 

 

في المثقف اليوم