قضايا

سامي عبد العال: آدم.. والأسماء كلُّها

سامي عبد العالعلينا التأمل في قضية أنَّ الله علَّم أدم الأسماء كلَّها مثلما ورد بالقرآن والتوراة. شئنا أم أبينا، سيحتاج الموضوع إلى نبش جذري حول دلالتها تاريخياً. كيف تحولت القضية بواسطة الأفكار الدينية إلى أشكال أخرى من الاعتقاد مثل القول بأن اللغة برمتها توقيفية لا اصطلاحية؟! وأيضاً، لماذا يمثل الاسم موضوعاً فكرياً كعالم قائم بذاته؟ حتى ذهب الفيلسوف الألماني ارنست كاسيرر إلى التأكيد على أنَّ الاسم ظل دالاً على موضوعاته بقوةٍ، بل ثمة توحُد بين الاسم والمسمى في تاريخ الثقافات الإنسانية. ولماذا نذهب بعيداً، ففي التراث الإسلامي تمثل التسمية فكرة جامعةً مانعةً من واقع الترديد المباشر (بسم الله الرحمن الرحيم)، فالمسلم مُطالب بأنْ يبدأ بالتسمية السابقة كفعل وجودي في جميع أعماله وأحواله وأزمانه.

حقاً فإن الأسماء بإمكانها فك شفرات الصندوق الأسود للعقل البشري. ففيها يتحدد مؤشر البوصلة إلى آفاق الفكر وطبيعته. فرغم بكارة كل تسمية (مع أي مولودٍ جديد)، سوى أنَّها أطلالٌ لحقائق ما، أكفان لشعيرة ما دون غيرها. لدرجة أن كل اسم يرتبط بهذا المعنى أو ذاك مما نعتقد أو نتصور أو نؤمن أو نثق أو نتعهد أو نؤكد أو نأمل أو نرمز أو نرجو أو نتخيل.. أو قد يكون كل ذلك قاطبة. وجميعها كمعان تسري ضمنا أو صراحة في فعل التسمية، وتأتي الأسماء ترجمةً غير مباشرة لما يكمُن فيها من وجوه.

القضية مهمة لأنَّها بذرة أولية بُنيّت عليها معتقدات حول الثلاثي) الله، الإنسان، اللغة). وقد وردت في الديانات الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) بصيغ مختلفةٍ. ومن سلبيات تفكيرنا الديني العجز عن النبش في الأعماق إلى حيث الأصول، وعدم الذهاب حفراً خلف ما وراء المعتقدات. ففي كثير من الحالات تأتي أفكارُنا تراكُّماً ساذجاً فوق جذورٍ لم تُساءل بشكلٍّ مستمرٍ.

إنَّ الحفر (هذا العمل الفلسفي الأركيولوجي) يطلعنا على العلاقة بين الثلاثي السابق. لهذا سنحاول الآن التعمق داخل النص الديني (القرآن) لنقض منطق تفسيره الحرفي. واكتشاف دلالة مغايرة بخلاف الدلالة الجارية التي جعلت اللغة توقيقية، حتى وإنْ كانت هي فكرة النص نفسه إجمالاً. فالتعامل مع قضايا كهذه القضية المطروحة بالعنوان ظل أمراً خارج اللغة. أي كانت قضية تُؤخذ مأخذ التسليم بلا جدالٍّ. وهذا لا يعطي مساحة للتحرر من تقاليد الفهم والتأويل التقليديين. فأغلب التصورات الدينية تستمد قوتها من قوالب لأخيلة قُدَّت ورسخت بوسائل الهويات السلفية والتفسيرات الماضوية. وآن الأوان لاستخدام موارد "التصورات" ذاتها -كما تُوثق عبر النص الديني الأول- لنقض مسيرتها التاريخية.

السؤال إذن: هل كانت الأسماء التي عملَّها الله لآدم كائنات وأشياء؟ وبالتالي كانت حاملة لمعانٍ وجودية وكونية حصراً. وقد قيل في هذا الشأن: إن الله احضر آدم، فقال له هذا حيوان اسمه كذا وكذا، وهذا نبات اسمه كذا وذاك جبل اسمه كذا... إلى أخر هذه الأشياء. أي: هل بإمكان الأسماء نقله من مستوى الجهل إلى الدراية والمعرفة بطبيعة الأشياء؟ وبالتالي ستُلخص الاسماء بمصطلح كارل ياسبرز " شفرات الوجود". وإذا كانت كذلك كما يقال، فلماذا لها تلك المهمة الأنطولوجية؟ ولماذا لم يسمِّ اللهُ نفسه إلاَّ بصفاته إجمالاً (كالرحمن، الرحيم، الغفور، المنان، المنتقم، الجبار، العزيز...)؟ أي أنَّ الله دوماً بلا اسم محدد، وظل الفقهاء ورجال الدين ودهاقنة السياسة يطلقوا عليه اسماء شتى، لكي يجعلونه مادة للاستحواذ والهيمنة. ومن ثم فأية خطورةٍ فلسفية وراء ذلك؟

يتجاوز الاسمُ العلاقة اللاهوتية بين معبودٍ مباشر وآدم الأرضي. ينطبق ذلك على أي آدم (أي الإنسان عموماً) مهما يكن خلال العصور المتعاقبة عن آدم الأول. فالاسم في جميع المجتمعات ذو مكانة غير عادية، إنَّ وضعيته تبلغ مرتبة القداسة أحياناً. ولعلَّ الأسماء في سرها المضمر مهووسة بالمقدس، التقديس، العلو، الوجود المفارق. ومع هذا سنظل نحن كائنات اسمية تخترق أية حجبٍ نصيةٍ تحدد لنا ماذا نريد وكيف نفعل. وما دمنا كذلك، سنبقى نحن داخل حالٍّ تأويليٍّ متواصل بحكم أننا دوماً في التاريخ لا خارجه. وبطبيعة هذا الحال الإسمي لم ولن يأخذ الاسم مواقعه تالياً لدينا نحن البشر بفضل الحادثة اللغوية اللاهوتية الأولى، بل جاء النص الديني (القرآن) ذاته مؤكداً على عملية ثقافية أكثر منها قضية كونية –خلقية، إنَّ قول القرآن سيتفقُ مع الفعل الإنساني في التاريخ. حيث ستكون الحياة مفتوحة بما لا تُحد وفقاً لحيوات آدم.

بهذه الصيغة سيمثل الاسمُ نظاماً رمزياً معبراً عن فعل آدمي ساري الأثر. وحينما يتعدّى هذا الحدّ،َ فإنَّه سيطرح حركتَّه وراء كل دلالة جاهزة. وراء أيه علاقة من هذا النوع بين المقدس والثقافي. حقيقي أنَّ الله قد أشار إلى ذلك الاستقطاب الاسمِي قصداً تبعاً للحظة الإيجاد الأُولى (إني جاعل في الأرض خليفة). لكن هناك جانباً إنسانياً في المسألة لا يغيب عن النظر. فثمة شيء في آدم لن يدفعه إلى الالتزام بحرفية الاسماء كما تعلمها. وهذا الشيء ليس أقل من طرائق تفكير آدم الأرضي نفسه وفقاً لغاياته ومصالحه. إنَّه كائن مناقض بحكم بشريته وتكوينه الجسدي والنفسي للطبيعة الإلهية، إن لم تأخذه رغبة عارمة من وقت لآخر كي يصبح إلهاً (كما في خطابات السياسة والدين). لأن الاسم منحرفاً في هذه المرحلة هو الجانب المسمى بحكم مواضعاته الاجتماعية والثقافية. وإذ هو كذلك، فإن معنى الاسم سيفيض عن طاقات حرفية فهم النص الديني. ويدفعه منزلقاً خارج ذاته لو استعملنا عبارة مادية كما يبدو.

الدليل أنَّ الفعل الآتي مع الأسماء في القرآن كان هو "عَلَّم" (.. وعلم آدم الأسماء كلها). فالعلم يحمل نقيضه على الدوام، أي الجهل. هذا الجهل الضارب أطنابه في واقع إنساني قادم للمعاني المبدئية التي تم تعلمها. والجهل ليس بالمفهوم السلبي والمنبوذ في كل الأحوال، لكنه يتحدد بمفهوم الثقافة التي هي عملية نسخ مشوهة ومتواصلة عن الأصول. فالثقافة عبارة عن انحرافات إنسانية تنزع تاريخياً إلى الاستقلال عن الأصداء اللاهوتية التي تؤسسها. كلُّ ثقافة لا تخلو من وقائع إنكار لمحدداتها الكونية الأولى. وفي عين الوقت تستعيد هذه المحددات بشكل أكثر أرضيةً (بشرية)، أي أكثر تمرداً. فلم يقل الله- مثلاً- خلق (أو أبدع، أو حدد، أو فطر أو كوَّن) الأسماء كلَّها لأدم. لأنَّ الكل الثقافي برأي إدوارد تايلور في كتابه الثقافة البدائية primitive culture كان وظيفة آدمية (من أديم الأرض) بالأصالة عن جميع أفعال الآلهة. كقول اليونانيين بنظام اللوغوس، هذا الكل في واحد كما يرى هيراقليطس، حيث نشأ التفلسف كمحبة للآلهة. والمحبة غير التأله، الحب قدرة بشرية مرتبطة بكيان الإنسان على أن يتمثل غيره، بخلاف الإله الذي يقدر فيخلق مباشرةً.

ينبغي ايجاد خيط لهذا المعنى حتى نحرر ذواتنا من الأسماء التي قد تحجم المُسمى. ولذلك منذ بدء التصور داخل الآية القرآنية، جاءت هناك مقارنة (تعليم آدم الأرضي) بعلم مصممٍّ مسبقاً هو (علم الملائكة)، ولنلاحظ فعل (التعليم) في مقابل (العلم). أي أن القرآن حرص على إظهار التباين بين تعلُّم آدم و بين علم الملائكة (التعلم مستمر بينما العلم جاهز وكامل). عليه كان التمييز لصالح علم أوسع بطريقة مختلفة (البشر) عن قدرة مخلوقات محدودة المعرفة سلفاً (الملائكة). قال نص القرآن "وعلَّم آدم الأسماء كلَّها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إنْ كنتم صادقين" (البقرة/31).

أولاً: جاء هذا الكائن باسمٍ محدّدِ هو آدم بينما الملائكة مجرد جمع كائنات بلا اسماء. هذا يعني بذرة الهوية والثقافة الممنوحتين في الأسماء للإنسان. وهما الاثنان انذاران للتباين التاريخي والزمني لا التماثل. فالأسماء تحمل خطورة فعلية نحو التحول داخل أعماق المسميات المنتظرة. وأنها ستكون من الآن فصاعداً أكبر تحول في تراث هذا الكائن المخلوق.

ثانياً: تم ذكر الأسماء عرضّاً كرموز يتذكرها آدم، أما الإنباء في الآية (أنبئوني) فيقصد به القرآن نظام الكلمات nomina لا عين الأشياء كما هي. وهنا ستظهر القيم الدلالية المضافة للأسماء والعبارات بآثار اللغة. أي الكلمات باعتبارها جُملاً فكرية ترتبط بطرائق الاعتقاد والأخيلة والحيوات الاجتماعية.

ثالثاً: واضح أن الكائن الجديد الذي هو آدم سيختلف عيشاً واعتقاداً بحيازته للاسم. كما ظهر في عصيانه للإله وأكله من الشجرة المحرمة ثم معرفة الملائكة لذلك حينما أشارت إلى افساده وسفكه للدماء. بينما ستعجز كائنات تامة التكوين (الملائكة) عن ذلك. إنَّ كائناً بشرياً يستطيع التسمية بإمكانه الوجود بكيفيات وصور وحالات مغايرة. كلُّ كائن يحمل اسماً سيرهص بخطورة ما تجاه الإله. إنَّه عصيانه الآتي بلا سبب ولا مبرر إلاَّ من إرادته الحرة كما سيقرها الله نفسه في نظام الاعتقاد بالنسبة للآدميين (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..). وربما هذا هو السبب أن الله ليس له اسم محدد يأخذ دلالته إلى ما هو متكثر ومتعدد بالضرورة.

رابعاً: الاسم ليس هو المسمى ولن يكون كما قد يظن البعض. بل سيحدث هناك تنوعٌ في دلالة الأسماء على المسمى. لأن ذكر الملائكة كمحدودي المعرفة يعني أن ثمة تنوعاً آتياً سيكون مرهوناً بآدم. وبالتالي الرهان الوجودي هو إيجاد صيغ الاسماء المختلفة على ذات المنوال المفتوح لاحقاً عندما سينزل الله أدم وزوجه من الجنة وعندما سيبدأ حياتهما بشكل مستقل.

خامساً: يتحلل (ينفك، ينزلق، ينحرف، ..) الاسم من مسماه دوماً. ذلك سيتحقق في حياة انسانيةٍ لطالما كانت رامية إلى زمن المستقبل. فكل اسم يحاول استعادة المسمى دون جدوى رغم تكرار المحاولات الواحدة تلو الأخرى. أي أن الاسم لن يقدر الاستحواذ على مسماه الذي كان ينتظره حتى وإنْ نال بعضاً منه. والعجز يرميه الإنسان عادة إلى الأمام، إلى الآتي لا إلى الماضي.

سادساً: الاسم إذ يخالف المسمى سيشف تباعاً عن أفعال التواصل بين البشر. فاللغة لن تكون ذات وظيفة أنطولوجية إلاَّ إذا كانت موثوقة الصلة بالميتافيزيقا. ولأنَّ الاسم سيخون ثقافياً مدلوله، فلا توجد لغة بختم لاهوتي، بيقين مفارق. ومثلما ليس بإمكاننا تفسيرها حرفياً، يستحيل جعلها قصةً كونيةً بشكل توقيفي.

التاريخ قابع في مقولة "الأسماء كلّها" التي أكدت في حينها القرآني جوهر الثقافة وتحولاتها. ولأن الملائكة خارج التاريخ، فلن تستطيع أن تُنبئ بهذه الأسماء كما سيفعل آدم. وهذا يشير إلى عدم كونِّها (أي الملائكة) دنيوية، أرضية. أما آدم فكلمة مأخوذة من الأديم، أي تراب الأرض كما أشرت. فهذا الجسد والعقل الجديدان قادران على فعل الإنباء، وتلك العملية أساس كل تاريخ بشري. وبخاصة أنَّ الأخير كمعنى history يعني استقراء الأزمنة لمعرفة المصائر والبصائر التي يمر بها الناسُ.

الحاصل أن الأسماء كنظام للمعنى والثقافة هي أيقونات أرضية لن يعرفها غير الآدميين. ليس ذلك بضربة حظ عارضٍ. بل بفضل التسمية التي كانت مضمرة في فعل علّم الذي طرحه الله في آدم. وحدَّه آدم دون سواه هو الذي يستطيع أنْ يسمي الأشياء. وفي هذا كانت بذرة الانفصال اللغوي عن المقدس، انفصال الإنسان عن الله، اغتراب آدم عن الرحم الوجودي (الجنة). لأن التسمية نوعٌ من التحقُّق الدلالي على غير منوال الأصل، هي شكل انحرافي عميق جداً عن الأصول أيا كانت. وردت الفكرة في النص القرآني: فبعد أن عرض الله الأسماء على الملائكة، " قالوا سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" (البقرة/32).

كان بإمكان الملائكة قول الأسماء مباشرة وانتهى الموقف، نظراً لأنها مبرمجة عليها ولا تستطيع الانحراف عما خلقت عليه، لكنها عجزت تمام العجز عن التسمية. أي: عجزت عن أن توجد ثقافياً بإرادة حرة ومستقلة خارج إرادة الله وأوامره. فكان آدم بالمقابل كمثال وجودي آخر هو الانحراف الحي، التهديد واسع الانتشار، بينما الملائكة ليست كذلك ولن تكون. إن آدم يمثل شرارة التألُّه المنفلت عن أصوله. وبوصفه خليفة، سيظل ناظراً إلى ذاته خلال هذه الانعطافة الوجودية اللغوية في الثقافات المختلفة. و المدهش أن الله سينظر إليه هكذا. فلم يذهب آدم إلى التكرار الحرفي على ما تصور الآية.

لنلاحظ بدقة: " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقُل لكم إني أعلّم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" (البقرة/ 33). فالإنباء فعل معرفي مستقبلي تبعاً لمرجعية يتحمل الكائن المريد تبعاتها واختياراتها. وهذا جوهر حتى التكليف (الرسالات السماوية) لو أخذنا بمعناه الديني. بل جوهر الدنياً والعقل والفكر والثقافة بإنفساح نشاطها. بكلمات واضحة فإن تلك الأشياء تتحرك عبر إطار مرجعيات الذات الحرة وفقاً لاختياراته الخاصة. والإنباء المعرفي هو كلٌّ ثقافي مستقل دونما سيطرة. وله أن يعطي الأشياء معنى وتأويلاً لإتمام مسؤولية الكائن المختلف (آدم) عن وجوده. وبخاصة أن الآية القرآنية ذكرت الأسماء (كلَّها) كإشارةٍ إلى إمكانية وجود وتأسيس نواتها المستقلة فيما بعد. ذلك من جهة الكفاية والقدرة والدلالة التي سيضعها آدم الإنسان لحياته.

مشكلة آدم مع الله، ومع أي إله (مختلق آخر في الأرض)، ليست في معرفته، لكن في استقلاله الحر بما يعرف وبما يقول وينبئ، وعلى المدى البعيد في افصاحه عن هذا الاستقلال بوضوح وعلى غير مثالٍّ سابق. وقد قد يقول القارئ إن فعل الإنباء الوارد بالقرآن ربما يشي بالتواتر السابق لما تعلمه آدم. لكنه هنا يمثل قولاً جديداً بمنطق آدمي صرف. أي كان له أن يخرج بخلاف المتوقع والمرجو منه والمصمم عليه حتى يتم الاختيار والتكليف الواردين بالقرآن أيضاً. فطالما ارتهن بإمكانية القول هذا العالم القائم بذاته، فسيكون مصيره طيَّ المجهول الذي سيظهر لاحقاً خلال أفعال البشر. ولذلك أكد النص القرآني على كون الله يعلم غيب السماء والأرض في مقابل عجز الملائكة عن ذلك. وهو إنْ كان عِلماً مستقبلياً، فلا يمنع ايجاد كائن بكل صلاحية أرضية إنسانية بمجمل أطيافها (أي الثقافة تحديداً). وفي هذا ذكر النص (أن الله يعرف ما يبديه الملائكة وما يكتمون) بوصفهما إشارة لصالح خروج آدم عن الطوق وليس محاصرته.

بالمقابل وعلى هامش القضية، كان الله بلا اسم ومازال. الصفات والأسماء الحسنى أردية بشرية (أو يفهمها البشر) لتغطية المقدس بحسب ما نرتئي. فكانت سلطة الألوهية مخترقة من جراء كائنات لها اسم. لأنها تمتلك قرارها في أنْ تكون ضمن حياة بشرية وكيف تكون كذلك وبأي معنى تريد هذا الكّون باختلافاته المتنوعة. لقد احتفظ الله بسرية أسمائه على الدوام، لأنَّها في حالة قبض وبسط خاصين بكيانه تجاه المخلوقات وتصريفه في حياتها. وكما يبدو كإشارة من وراء ذلك، فإن الله يدرك تهديد الأسماء للمسمى: هذا الانطواء على الانحراف عن مسمياتها. ولهذا ترك البشر يضعون اسماءً له بلا عناوين ولا هويات ولا موضعة ولا تحديد، ولا قدرة على إرادة ما يفعل. فأسماء الله المتواترة لدى البشر كدلالات هي محض قوى فاعلة على غرار عقولهم وأخيلتهم مهما حاولوا بلوغ مضمونها.

ثمة نوع من التأله المسخ عندئذ: هو تلك الأسماء بهوياتها المفترض دون أصل، حيث ذكرها النص القرآني" إنْ هي إلاَّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. إنْ يتبعون إلاَّ الظن وما تهوي الأنفس" (النجم/23). فالاسم بلا محتوى طاقة على الفعل خارج مجال الإله (أي هي كلمات بلا كُّن فيكون). والنص يُشَّهِر بالأوثان التي تحمل لافتات اسميةً مقدسة. ولكنها في إطار الوجود كلمات لغوية عائمةً لا ثقل لها في تصريف أحوال الحيواة. إذن أسماء الأشياء هي محض ممكنات إنسانية تتغير من بيئة إلى أخرى. بينما الأوثان اسماء لها قوة الظهور الاجتماعي والثقافي المزيف. وقد يقع في حبائلها على- سبيل المثال- معنى كلمة الإله ذاته عندما تصبح اسماً عنيفاً في يد جماعات التكفير الديني. وبذلك يغدو الاسم سلطاناً إرهابياً يغزو المدلول الأكبر (الله) في تاريخ الثقافات الإنسانية التي هي الشكل التأويلي العميق لكل الانحرافات عن الأصول.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم