قضايا

صادق السامرائي: سلوك الكراهية والأحقاد البشرية!!

صادق السامرائيالكراهية معضلة سلوكية يتحقق الإستثمار فيها للوصول إلى غايات وأهداف خفية*، وطاقة تدميرية ذات قدرات سلبية هائلة، تؤدي إلى تداعيات مريرة ومتوارثة، وهي القوة الأزلية التي أطاحت بالأمم والشعوب والقِوى والإمبراطوريات عبر العصور.

الكراهية إعصار يطغى على النفوس والعقول والقلوب، ويتسبب بسلوكيات دامية وصراعات حامية وأوجاع قاسية وويلات عاتية، وكالبركان الذي يثور بين آونة وأخرى، لتلقي بحممها على مصير الأجيال، التي تفجرت في ربوعها وأورَدتها حتوفها السوداء.

الكراهية لغة منطوقة ومكتوبة وصورة وإشارة وعلامة ونظرة وتعبير وحركة، وإن تأججت في أعماق البشر فكأنها النار التي تشب في الهشيم.

وهذه إقترابات تعريفية نفسية من مدارات الكراهية وأروقتها الظلماء.

أولا: ثقافة الكراهية!!

ثقافة الكراهية ظاهرة تعصف في المنطقة وعبر الأجيال، مما وفر الإستعدادات اللازمة للتأجيج والإنقداح والإلتهاب والتحول إلى حريق.

وتساهم في تعزيزها روايات منقولة ومفاهيم عوجاء للدين والحياة، حتى أصبح الدين في بعض المجتمعات هو المرسّخ للسلوك البغضاوي والكراهية والإنتقام والعدوان.

ولكي تجعل حصول أي سلوك بشري سهلا وسريعا وشديدا، إمنحه طعما دينيا، فالقتل والإنتحار يتحققان عندما يرتبطان بإرادة دينية أو عقائدية، ولهذا فأن أكثر الضحايا في مسيرة الخطايا البشرية سببها هذا الإقران المروع، ما بين معتقد الشخص وما يَقدِم عليه من جريمة وعدوان على الآخر، لأنه بهذا الإقران يتحرر من المسؤولية، ويتحول إلى مُنفذٍ لأوامر قِوى كبرى لها صلة بدينه ومعتقده وحسب.

وتأريخ البشرية يحتشد بالأمثلة على سلوك العدوان وسفك الدماء من ما قبل هولاكو وما بعده وقبله، وفي جميع المجتمعات كما حصل في أمريكا مع الهنود الحمر، وأوربا في القرن العشرين وما سبقه من قرون، وروسيا وغيرها من دول العالم.

ولا يزال سلوك الكراهية والعدوان يجد البيئة التي تحرره وتطلق له العنان في كل مكان وزمان، وما تعيشه الكثير من المجتمعات المعاصرة، إنما يمثل تعبيرات كراهية متنوعة الكثافة والقوة، وقد ظهرت بلباس الدين، أو المعتقد والمذهب وغيرها من مسوغات الجرائم والآثام، المعزَزة بفتاوى وتفسيرات وتصورات تدميرية لمعاني وقيم الدين والمعتقد والحياة.

ولا بد للأقلام الإنسانية الواعية أن تتصدى لثقافة الكراهية والعدوان، وتنشر سلوك المحبة والألفة والرحمة والتسامح والمصالح المشتركة.

ولابد للبشر أن يتكلم مع بعضه ويستمع لبعضه ويرى بعضه البعض، لكي يساهم في وضع الأسس القوية للحياة الحرة الكريمة التي تحترم قيمة الإنسان، وتراعي حرمة وجوده وحقوقه وحياته.

وتلك معضلة بشرية بحاجة لألف نظر ونظر!!

ثانيا: الكراهية أسهل من الحب!!

البشر ميّال للكراهية وحيّاد عن الحب، فما أسرع أن يكره وما أبطأ أن يحب، وما أسهل أن يكره وأصعب أن يحب.

تلك نوازع النفوس، ويعجز ذوي الخبرة والألباب عن التفسير الصائب والتعلم من الدروس.

إنها محنة خلقية تتدحرج فوق التراب، وتزداد كثافة وإختلاطا مع دوران الأرض، وما تأخذه من الشمس من حرارة أو نار.

فهل أن الكراهية طاقة خلقية سائدة ومتمكنة من الأحياء، والموجودات الأخرى الساعية نحو مصيرها المحتوم.

البعض إجتهد وفكر وتعمق ورأى أنها إرادة الموت، أو سطوته وقوته ومناهجه التي تحصد المخلوقات حصدا، بوبائية تصارعية وتقاتلية شرسة لا تهدأ أبدا.

والبعض الآخر يرى أن الكراهية سلوك يتعلمه المخلوق الذي يولد حرا منها، وربما حرا من الحب أيضا.

لكن الواقع السلوكي يشير إلى أن الكراهية ربما تكون طاقة كامنة في الموروثات الجينية، أي أنها طبع مسيطر على آليات السلوك، فتدفع بالمخلوق للتفاعل المنطلق من بؤر الكراهية التي تطلق شرارها وشرورها، والدراسات تشير إلى أن التطبع يمكنه أن يصبح طبعا بآليات تفاعلية معقدة مابين المخلوق ومحيطه.

فالكراهية طاقة فاعلة في المخلوقات تعززها الظروف الموضوعية وتضغطها وتعتقها وتعفنها، وتستولدها المآسي والويلات والأحداث ذات القدرات العاطفية الشديدة الإقران والتقوية والإمتهان، الذي يدفع بها إلى التعميم والتضخيم والتحول إلى شيطان رجيم.

والكراهية عدوان على الذات وما حولها، وهي سَوْرة إنفعالية ذات درجات من الشدة والعنفوان تتناسب مع أجيج النيران التي تنطبخ عليها.

ثالثا: الكراهية حاجة سياسية!!

بعضهم يتساءل هل أن الكراهية حاجة نفسية، وهذا سؤال تبريري تعزيزي لسلوك الكراهية، ومن الأصوب أن يكون السؤال: هل أن الكراهية حاجة سياسية؟

يبدو أن الوقائع والحقائق والأحداث بآلياتها ومنطلقاتها ودوافعها ونتائجها وتوالياتها، تشير إلى أن الكراهية حاجة سياسية أو كرسوية.

فالبشر عندما يمسك بالكرسي، يتحتم عليه أن يشيع ثقافة الكراهية، لكي يوفر المسوغات ويعزز القدرات اللازمة لبقائه في موقعه أطول مدة ممكنة مهما كان الثمن.

وقد تكرر سلوك المتمسكين بالحكم، وفقا لإشاعة منهج الكراهية وثقافتها وآلياتها للوصول إلى غاياتهم الفردية، ولا يعنيهم في الأمر والأحداث سواها.

ومن المعلوم أن البشر الذي يشيع ثقافة الكراهية، يكون أما طائفيا أو متحزبا أو عنصريا، أي أنه قد إنتمى إلى مجموعة أو جماعة وحزب ومذهب وكتلة وعصابة أو غيرها.

وعندما يمتلك فرصة التقدم فيها والإمساك بزمام قيادتها، فأنه يسعى بكل طاقاته لتعزيز وحدة تلك الجماعة أو الفئة وزيادة قدرات إنضمامها وإرتباطها به، فيربط مصيرها بمصيرهِ، ويعمل من خلالها بجد وإجتهاد لتوفير الأسباب، وصناعة الأحداث والتفاعلات الضرورية لترسيخ ثقافة الإعتقاد بأن الآخر، أو الآخرين خارج المجموعة هم ضدها وأعداؤها ويريدون تدميرها والقضاء عليها، وهذا يؤهل الجماعة لإطلاق العواطف والمشاعر السلبية، وتعهد الرؤى والتصورات الخاطئة والمنحرفة وتوقدها والعمل بموجبها.

فتصبح تلك الجماعة متأججة بالبغضاء والكراهية تجاه الآخر أو الآخرين، مما يدفع إلى نزاعات وصراعات مروعة بين أبناء المجتمع الواحد.

وقد رأينا ذلك في مسيرة الأحزاب مدى العقود الماضية، حيث كل حزب وقياداته يسعون إلى ذات الأسلوب الأناني الإستبدادي التسلطي، الهادف لإرضاء حاجات غريزية ودوافع لا تخدم المصلحة العامة ولاتنفع الجماعة وقادتها وإنما تنقلب وبالا عليهم.

وهذا ما تحقق في الكثير من الأحزاب في مجتمعاتنا، فالتكتلات والفئويات وما شاكلها، تتحول إلى سلوكيات غابية الطباع والتوجهات وتحرق الغابة التي تتصارع فيها.

ووفقا لذلك، فأن الكراهية حاجة سياسة سلبية وضارة بالمجتمع والحزب والكتلة والفئة، وقد أثبتت الأحداث التأريخية ذلك، لكن البشر يكرر هذا السلوك بسبب الظروف المحيطية الناشئة التي تعززه.

فالذي يمسك بزمام الجماعة، يسخّرها لتأكيد رغباته الفردية، ولكي يكون ذلك، لا بد لها أن تحاط بالخوف والشك والتهديد وعدم الأمان والحاجة إلى التمسك بالسلطان، وبهذه الأساليب تصنع الشعوب جلاديها ومستبديها.

 فالمجتمعات التي سخّروها ومرروا عليها غاياتهم ورغباتهم، تساهم في التحول إلى أرقام يكون مصيرها المحق والإمحاء.

وقادة الكراهية يعملون على تحقيق ذلك، لكي يكونوا هم الرقم الوحيد، الذي لا تمحقه إلا القوة التي تساعده على الوقوف لوحده.

والمجتمعات التي تريد صناعة الحياة، عليها أن تعي هذه العاهة السلوكية، فلا تنصاع لها وتكون ضحية سهلة لآثارها.

رابعا: سلاح الكراهية!!

الكراهية من أخطر الأسلحة التي تستخدمها القوى الطامعة بتدمير الشعوب والمجتمعات، لأنها سلاح سهل ويغني عن الكثير من الجهود والأموال والبرامج، فهي كالنار التي يمكنها أن تتحول إلى حرائق عظيمة بإذكائها يهشيم في غابة غناء.

وأدوات هذا السلاح الطائفية والمذهبية والمناطقية والإقصائية والمحسوبية والإستعلائية، والعدوانية والإستحواذية والقهرية والتعصب الفكري والعقائدي والتحزبية والتكتلية والفئوية، ومن أخوات هذه وغيرها الكثير، التي تجرد المواطن من صفة المواطنة وتقضي على معنى الوطن، وتضع فوقه مسميات ومفاهيم تدميرية تعلوها نيران الكراهية وزوابع البغضاء والأحقاد والإنتقامية.

وقد نجحت أسلحة الكراهية بالنيل من إرادة مجتمعات عربية متعددة، خصوصا بعد التغيرات الساعية للديمقراطية، حيث تم تسخير ما يسمى بحرية الرأي للتعبير عن أسلحة الكراهية وأدواتها للتدمير الشامل الموصوفة بالشرور.

ولهذا تجدها في محنة التداعيات المتوالية التي تنزف بسبها المجتمعات جوهر ما فيها من القوة والإقتدار، وتبدد طاقاتها وتنحدر إلى متاهات أسفل السافلين، فتبدو خائرة مستلبة الإرادة، مصادرة المصير، تستجدي من أعدائها ما يعينها على قتل بعضها البعض، وإفناء وجودها الوطني والإنساني.

ويبدو أن من الصعب أو المستحيل تجريد المجتمعات من هذه الأسلحة التي فعلت فيها ما فعلت، خصوصا وأن العديد من العمائم والكراسي ترفعها وتتدجج بها، لأنها أصبحت مرتبطة بمصيرها وبأرباحها وإستثماراتها، ومتاجراتها بالأبرياء التابعين لأضاليلها وفتاواها السقيمة النكراء.

وبرغم اليأس والسوداوية التي تنشرها هذه الأسلحة، وما تتسبب به من شدائد نفسية وإنحرافات سلوكية، وتفاعلات إنتحارية ما بين أبناء المجتمع الواحد، فأن التنوير بمفردات الرحمة والألفة والأخوة والتسامح، والتأكيد على سلوك "... وكونوا عباد الله إخوانا"، من أهم العوامل التي ستخرج المجتمعات من ظلمات الكراهية إلى أنوار المحبة الإنسانية.

وإنّ الغِلَّ مذمومُ!!

والمحبة بلسم أوجاع الإنسان!!

والخلاصة أن الكراهية خسران، والمحبة قوة وإيمان، ومن أهم أسباب ضعف المجتمعات والأوطان، تواصيها بالكراهية المؤجِجة للنيران، وبهذا تتحول إلى عصف مأكول، ورماد تذروه رياح العدوان.

 

د. صادق السامرائي

.....................

*هذه المقالة منشورة قبل عدة سنوات في مواقع وصحف، وبمناسبة إثارة موضوع الكراهية على صفحات المثقف، ربما يكون من المناسب إعادة نشرها.

في المثقف اليوم