قضايا

صادق السامرائي: التعليقات وخلاصة ما فيها!!

صادق السامرائيالتعليق: ما يُذكر في حاشية الكتاب من شرح وبيان.

والمقصود بها هنا المداخلات التي تتفاعل مع النص المنشور.

المداخلة: مشاركة بالحوار في مناقشة.

أكتب في صحيفة المثقف منذ أسبوعها الأول، ولازلت أنشر فيها مقالات يومية ونصوص شعرية بين فترة وأخرى، وأرى المنشور يصبح في حوزة القارئ ومن حقه أن يبدي رأيه فيه، ولستُ في حالة دفاع عمّا أنشرهُ، ولهذا ما تفاعلت مع التعليقات إلا فيما قل وندر، وأعلمتُ العديد من المواقع برأيِّ وظروفي، رغم عتابهم على عدم التواصل مع التعليقات.

وفي الآونة الأخيرة أخذت أتفاعل مع التعليقات لتوفر بعض الوقت، وسأتناول ما إستخلصته منها، وكدت أن أخضعها للدراسة والتحليل وفق منهج علمي، قد يساهم في تهذيبها وتشذيبها، لكنها توافدت إلى السطور على هذه الشاكلة، التي تسلط الضوء على قواسمها المشتركة:

أولا: القراءة الإنفعالية

القراءة الإنفعالية تباغتكَ بما ليس في النص وما خطر على بال كاتبه، وتحتار من أين إستحضرت هذه التعبيرات التي ألصقت بالنص المنشور، وتكتشف أن بعض الكلمات أو المفردات قد قدحت سَوْرة إنفعالية في أعماق القارئ وأججته، وأطلقت ما فيه ليعلقه على النص، فيتحول النص إلى موضع للإسقاط!!

ثانيا: التعميمية

عندما تكتب في موضوع خاص والعنوان يؤكد ذلك، تراه إكتسب توصيفات تعميمية لا يقصدها ولا تمت بصلة إليه، ويصر المعلق على أن المقال يتصدى لحالات لم يتصدَ لها، ولم يقترب منها.

فالمفردة القادحة تتسبب بإستجابات إنعكاسية فوّارة عند المُعلق، وتبعث ما فيه من مشاعر سلبية يصوغها بعبارات لا صلة لها بالنص المنشور، لكنه يلصقها به، ويراه هكذا!!

ثالثا: التحاملية

التعليقات فيها نوع من التحامل على شخص الكاتب، وتخرج من التفاعل مع النص وما فيه من الأفكار، ولا يمكنها أن تفصل بين الكاتب والمكتوب، وإنما تحسبهما شيئا واحدا، فأنت وما تكتبه متطابقان!!

رابعا: التعصبية

في التعليقات تظهر أحيانا نوع من التعصبية أو السلوك الجماعي ضد النص، فالذين إتخذوا من التعليقات أسلوبا للتواصل الإجتماعي والمجاملات، تحولوا إلى فئة تتكلم بلسان واحد ضد كاتب النص ولا يعنيها فحوى ومحتوى النص.

خامسا: الشخصنة

من المؤسف أن تتحول التعليقات إلى تفاعلات شخصية تتجاوز المقبول، فتبدو وكأنها معركة حامية وصراعات دامية بالكلمات.

ويتضح خلوها من إحترام الرأي الآخر وخصوصية الشخص الذي يدلي برأيه.

سادسا: الإتهامية

البعض يتجاوز النص المنشور ويطلق العنان لمخيلته بإتهام كاتبه بما يحلو له وتمليه عليه تصوراته القاصرة وإستنتاجاته الباطلة، ويصر على إتهاماته، وهو لا يعرف عن الكاتب شيئا، وما إطلع إلا على بعض مما ينشره.

والأنكى من ذلك أن بعضهم يرى الكاتب متهما بما ذكره، وعليه أن يثبت براءته أمامهم، ويعلن أنهم على صواب وهو على خطأ، ليسترضي جموحهم النرجسي.

سابعا: العدوانية

العدوانية مشاعر سلبية طافحة تجتاح الشخص، فتجدها في أول الكلمات التي يستهل بها تعليقه، وينطلق منها ليبرر ما يريد قوله، بعد أن سخّر عقله لهذه المهمة الشرسة النكراء.

ثامنا: الأحكام المُسبقة

البعض ينطلق من أحكام مسبقة إستحضرها إسم الكاتب أو عنوان النص، فيتخذونها دليلا للتعليق، فيأتون بما لا يمت للمنشور بصلة ذات قيمة معرفية، وإنما تبريرات لتأكيد هذه الأحكام الجائرة.

تاسعا: الإفتراضية

كثيرا ما تجد تعليقات فيها إفتراضات لا علاقة لها بالنص، وإنما إفترضها المُعلق ومضى على هديها مسهبا فيما يكتبه ولا يدري ماذا يريد أن يقول، فقط إنه يفترض أن الكاتب يقصد كذا وكذا، وعليه أن ينهال بكلماته على ذلك.

عاشرا: الخروج عن الموضوع

نسبة كبيرة من التعليقات تخرج عن الموضوع، وكأن المنشور قد إستدعاها للبوح أو الترويح النفسي والفضفضة عما يعتري أصحابها، ولا بأس من ذلك إن كان يريح المُعلق، لكن أن يتجاوز أدب وأصول الحوار الثقافي فلا نفع مما أدلى به.

حادي عشر: التشاجرية

أحيانا التعليقات تبدو كالتنازعات والإشتباك الحامي بالكلمات، ويمكن القول بأنها معارك إفتراضية دامية، وتتعجب من تواصلها وتأججها، حتى لتستغرب إن كان المُعلق لديه إستعداد جاهز للتفاعل مع الآخرين بالضرب بالكلمات أو بأي شيئ يمكن أن تناله يداه.

ثاني عشر: التسفيهية

التسفيه: بيان الخفة والإسفاف والجهل

قسم من التعليقات تنطلق من منصات علوية، فيرى أصحابها الناس صغارا وهم أصغر من تصغيرهم للآخرين، فهم العارفون والعالمون، وصاحب النص من الجهلاء الأغرار الذين ينطقون بما لا يعرفون، وينتهون إلى إستنتاجات تكشف عن جهلهم ومحدودية تفكيرهم وهم لا يشعرون.

ثالث عشر: القدحية

القدْح: الذم والطعن

بعض التعليقات مشحونة بالمفردات السلبية ضد النص أو تعني صاحب النص، ولا تعرف مبعثها ومن قدَحها في دنيا معلقها، وأحيانا توشك أن تصل إلى حد السب والشتيمة، وتنتهي بالخصام والزعل والقطيعة.

ويبدو أن الطبيعة النفسية لأصحابها تدفعهم إلى رمي الآخرين من حولهم بألف حجر وحجر، ولا يشعرون بما يتوطنهم من السيئات والسلبيات، فهم المنزهون المتعالون عن البشر.

رابع عشر: المدحية

المديح: تعداد المحاسن والمزايا

وهي الطاغية في التعليقات، فالذي ينشر طلبا للمديح من الأفضل أن لا ينشر، النص المنشور يجب أن يتعرض للنقد من قبل كاتبه وقارئه، وليس لتلقي المديح، الكاتب الذي لا يعرف ماذا كتب ربما يبحث عن إرضاء حاجات نفسية بواسطة المديح.

المديح لا يقدم ولا يؤخر عند الكاتب الذي يعرف ماذا يريد من نشره لما كتب.

الكتابة رسالة وهي أصعب وأخطر عمل يقوم به الإنسان، وليست للمظهرية "شو بزنز"!!

خامس عشر: ضعف مهارات المحاجّة

المعلق عندما لا يتفق مع ما جاء بالموضوع الذي يريد التصدي له، لا يمتلك مهارات المحاجّة العقلية الدالة على المعرفة والقدرة على تفنيد التصور الآخر، وإنما يلجأ للإنفعالية وينطلق منها لبناء ما يشبه الأوهام تجاه الموضوع الذي يتناوله.

وتبدو طروحاته من بنات أوهامه وتهيؤاته، حتى لتغدو وكأنها لا صلة لها بالموضوع المطروح.

بينما الذي يريد أن يخوض غمار التحاور عليه أن يكون مؤهلا ومجيدا لآليات المجاجّة، وتقديم الأدلة والبراهين الداحضة أو المؤيدة لما يذهب إليه، لا أن ينتهي بالشجار وعدم الإحترام.

سادس عشر: الظنِّية

أحيانا تجد بين الأخوة المُعلقين مًن يحسب المكتوب ضده " يأخذ على نفسه"، وكأنه هو المعني بالمقال أو النص، وهذه ظاهرة غير صحية ولا تنم عن ثقة بالنفس وإيمان بالنشاط الإبداعي الذي يمارسه، فلكل ما نكتبه هناك من يتفاعل معه بإيجابية أو سلبية، وتلك هي الطبيعة البشرية.

فلا يعني أن الذي ينهال على ما ننشره بما يحلو له من الهجمات، سيفت من عضدنا أو يحبطنا، وإنما هذا هو رأيه فنحترمه ونتعلم منه مهما كان قاسيا وعدوانيا، فبعض البشر بطبعه لا يرى أحدا سواه، وأنه في محطات العلاء.

ولكل مخلوق دماغه وعقله الذي يملي عليه ما أدركه ووعاه.

سابع عشر: النرجسية المفرطة

من حق أي مبدع أن يعتد بنفسه وبما ينتجه، وليرى نفسه كما يراها ويتصورها، ولا يجوز فرض الرؤية الذاتية على الآخرين، فلكلٍّ رؤيته لذاته وموضوعه، وعلينا أن نحقق سلوك الإحترام المتبادل، والتفاعل الإيجابي الذي يساهم في التعلم والتقدم، فالمبدعون بحاجة لبعضهم لكي يتحقق تيار الوعي والتنوير، وتتعلم الجماهير منهم مهارات الكينونة الأرقى.

أما التوحل بمستنقعات النرجسية ومآلاتها، وإضطراباتها السلوكية بأنواعها، فأنه يتسبب بتداعيات تفاعلية مستنزفة للطاقات ومجففة للإبداع.

ثامن عشر: التفاضلية

لا يوجد إبداع كامل، فشيمة ما ينتجه الإنسان النقصان الدائم، لأن الأرض تدور وما عليها يتجدد ولا يتجمد، ولا توجد مقاييس ثابتة بتقييم الجودة الإبداعية، والزمن بأجياله المتعاقبة هو الحَكم الذي يمنح درجة ما من الجودة لهذا الإبداع أو ذاك.

أما القول بأن ما قدمته أفضل مما قدمه غيري، ففيه قصر بصر، وضيق أفق، فالمهم أن يبدع الإنسان، ويطلق أحسن ما فيه، ويدع التقييم لإرادة الحياة المتواكبة في نهر الأجيال. 

وفي الختام نأمل أن تكون تفاعلاتنا مدرسة نكتسب فيها مهارات الحوار المثمر المنير، فهي جديدة علينا، ومن معطيات التواصل الإليكتروني، الذي علينا أن نتعلم مهارات إستثمارها إيجابيا، لكي نتواكب ونتحقق في عصرنا المتنوع التطلعات والإبتكارات.

ومن الواضح أن أساليبنا في طرح تعليقاتنا تشير ببراهين متكررة، بأننا نفتقد لثقافة الحوار، ولا نمتلك روحية المطاوعة والمرونة، وهو إنعكاس لمراسيم وتعاليم نشأتنا، وعدم تعليمنا كيفيات طرح الرأي والمحاجة والإتيان بأدلة، وإحترام رأي الآخر، فالسائد في مجتمعاتنا، معارضة الرأي عدوان، وعدم تقدير وإحترام، والسمع والطاعة هو الساري والفاعل فينا، وعلى هذا الإيقاع، كلٌّ يرى أن دينه هو الدين وغيره لا دين، وهكذا هي التداعيات تتوالد وتتعزز في مجتمعاتنا المنكوبة بنا.

ويبدو أن مسؤولية تأريخية وأخلاقية تقع على عاتق المثقفين والمفكرين والكتاب والفنانين وجميع النخب، أن يقدموا قدوة حضارية حسنة في التفاعل المعرفي المتبادل، المبني على الإحترام والتقدير لجهود الآخرين، والتواصل معها بما يحقق المنفعة العامة، فالكلمة مسؤولية، ومن يمسك بالقلم عليه أن يدرك حجم الدور الذي يقوم به في المجتمع.

ولابد من القول بأن العديد من التعليقات ثرية المعارف وجادة، تضيف للكاتب معلومات مهمة، تساهم في إتساع فضاءات إدراكه وتواصله الإبداعي.

فهل سنتعلم من بعضنا لنكون؟!!

 

د. صادق السامرائي

7\2\2021

...........................

* المقال مكتوب قبل أشهر وترددت كثيرا في نشره، وأرسلته للمثقف بشرط أن تحصل موافقتها على نشره.

 

 

في المثقف اليوم