قضايا

محمود محمد علي: الحفر الأركيولوجي والإبستمولوجي لسلسلة أفلام "جيمس بوند" الجاسوسية (2)

محمود محمد عليكانت أفلام بوند تعرض في مصر عروضا عامة وتلقى إقبالا كبيرا في وقت كانت قبضة الرقابة مشدّدة على كل ما يروّج للقيم "الرأسمالية" الغربية، وكانت البارانويا الناصرية وقتذاك تشك في أن كل أجنبي قادم إلى مصر من الممكن أن يكون جاسوساً، فما بالك بأفلام سيد الجواسيس، لماذا كانت تنتشر وتروّج حتى بعد عام 1967، وما جرى فيه من نكبة كبرى لا تزال الأمة تدفع ثمنها غاليا؟.. كانت هناك على ما يبدو رغبة في جعل الناس ينسون الهزيمة المرة، ولذلك فشلت الدعوة التي أطلقها البعض وقتها لمقاطعة الأفلام الأمريكية بدعوى أن أفلام هوليوود "تخدم المخطط الإمبريالي" وهي أفكار لا تزال تجد لها بكل أسف، صدى حتى يومنا في بعض وسائل الإعلام، خاصة تلك التي تتبنى خطابا "إسلامويا"؛ وقد منعت الرقابة في مصر الفيلم الثاني في سلسلة أفلام بوند "من روسيا مع حبي"، بدعوى "الإساءة لدولة صديقة" وكان المقصود بالطبع "الاتحاد السوفيتي" فقد كان الفيلم يدور حول محاولة بوند التسلل إلى روسيا لكي يأتي بعميلة للمخابرات السوفيتية (حسناء جدا بالطبع) تريد أن تهرب إلى الغرب، ومعها جهاز لفك الرسائل والشفرة ثمين للغاية (9).

وهنا يظهر جليّاً أنّ أفلام جيمس بوند كانت تمهيداً باكراً للانتصار في الحرب التي خاضها الغرب مع "إمبراطورية الشر"، أي الاتحاد السوفيتي، بحسب وصف الرئيس الأمريكي "رونالد ريجان في خطاب ألقاه عام 1983. لم يكن ريجان نفسه سوى ممثّل سينمائي استطاع إسقاط الاتحاد السوفيتي بعدما أجبره على خوض "حرب النجوم". إلى الآن، ليس ما يثبت هل برنامج "حرب النجوم" كان حقيقة... أم مجرّد فيلم على طريقة أفلام جيمس بوند. كشف برنامج "حرب النجوم"، الذي يعني بين ما يعنيه نشر منظومة صاروخية في الفضاء، ضعف الاتحاد السوفيتي، تكنولوجياً واقتصادياً، وعجزه عن خوض سباق تسلّح مع الولايات المتحدة (10).

وفي سياق مشاركته في الحرب الباردة، حجز "جيمس بوند" دوراً للاستخبارات البريطانية. من خلاله أعطى هذه المؤسسة دوراً في تلك الحرب في وقت كانت "بريطانيا العظمى" تدخل مرحلة التحوّل الى قوّة أقلّ من عادية على الصعيد العالمي، بعدما كانت إمبراطورية "لا تغيب عنها الشمس". بدأ الانحدار البريطاني بعد فشل حملة السويس عام 1956 التي سبقها التخلي عن "درّة التاج" التي اسمها الهند. لعب جيمس بوند، أي "شون كونري" (العميل الرقم 007)، دوراً في إبقاء الأسطورة البريطانية حيّة. ساهم في تحويل الوهم الى حقيقة في انتظار وصول "مارجريت تاتشر" الى موقع رئيس الوزراء عام 1979. أوجدت تاتشر لبريطانيا، بتصالحها مع الحقائق الدولية، دوراً في النظام العالمي القائم. كان ذلك لفترة محدودة، في عالم يلعب فيه الأشخاص دوراً في صناعة الصورة التي يرى العالم من خلالها موقع دولة معيّنة وحجمها ودورها... وهي صورة قد تكون حقيقية وقد لا تكون، تماماً مثل صورة "جيمس بوند" التي صنعها ممثل اسمه "شون كونري" (11).

ولهذا يعد شون كونري الممثل الذي صنع نفسه بنفسه انطلاقاً من لا شيء بفضل ذكائه الحاد الذي مكّنه من أن يصبح رجلاً على علم بكل ما هو جميل في هذا العالم. من الفنادق إلى المطاعم الفخمة، الى طريقة اختيار الملابس والسيارات، إلى الشراب الذي يتناوله (فودكا مارتيني)... إلى الخبرة في النبيذ والنساء الجميلات. من رجل عمل سائقاً لشاحنة، إلى رجل ذي ذوق رفيع يقود سيارة "استون مارتن"، قطع شون كونري طريقاً طويلة في أقصر وقت ممكن. وهذا ما لا يستطيع عمله غير الأذكياء، أي أولئك الذين يمتلكون حسّاً مرهفاً، فضلاً، في طبيعة الحال، عن حاسّة اسمها الذوق.

كما يعد شون كونري البطل الأسطوري الذي لا يقهر ويخرج من كل معركة أقوى مما كان قبلها، والذي اشتهر في العالم من شرقه إلى غربه بشخصية العميل السري جيمس بوند، أغمض عينيه مرة أخيرة، وكاد أن ينسى كل شيء أنجزه، لكن جمهوره لن ينسى. وعلى الأرجح ستغذي أفلامه الباقية إلى الأبد ذاكرته السينمائية. وعلى الرغم من الشيخوخة ظلّ كونري محاطاً بشيء من السحر والغموض، بذقنه الأبيض وصلعته المميزة، إذ كان الأكثر بريقاً بين أقرانه، حتى بعد سنوات طويلة قضاها في التمثيل الذي وضعه على عرش النجومية.

وشون كونري بوسامته وشخصيته الكارزمية تمكن من إبهار الجمهور وسلب عقولهم وقلوبهم ، فقد كان في شخصية "العميل 007" ما يوقظ، ولو بقدر، أطياف "البطل الشعبي"، الممتد من حكايات الفروسية والكونت دومونت كريستو، وصولاً إلى سوبرمان؛ وإذا كان في حكايات الفارس المغامر ما يستدعي صورة "البطل المخلّص"، الذي يشعل النار بقلعة الظلام في اللحظة الأخيرة، فقد كان في ملامح سوبرمان، الذي أوكل إلى ذاته هزيمة الشر، ما يقول برسالة إلهية واجبة الانتصار. ساعد على تفعيل الصورة، في شكليها، حرب أيديولوجية بين الشيوعية والرأسمالية أخذت شكل معتقد ديني. خالط البطل الشعبي الحديث، الذي ارتدى حلّة أنيقة، حنين إنجليزي مخذول، ذلك أنّ بريطانيا، ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، كما كان يقال، كانت مستعمراتها تتأهّب للاستقلال، تاركة الأسد البريطاني يجتر ذكريات سعيدة ماضية، مثلما ألمح أمبرتو إيكو ذات مرّة. ولعلّ هذا الحنين المخذول هو الذي جعل فليمنغ يرسل ببطله الأثير، أكثر من مرّة، إلى مستعمرات بلاده السابقة، مثل مصر وهونغ كونغ وجامايكا والشرق الأوسط وجبل طارق، وأملى على ذاكرته أن تستعيد "الشرق"، كما رأته، دائماً، غامضاً وغريباً ولا يحسن النطق بلغة رشيدة (12).

إضافة إلى فارس نجيب لا يُحبط عزيمتَه حنين مخذول، عمل "فليمنغ" على صوغ شخصية متفرّدة، لا تلتبس بغيرها، لها من الغموض الفاتن ما يكفيها، ولها من العادات ما يبرهن أنّها ليست شخصية عادية. فلجيمس بوند كحوله المفضّل، الذي لا يقبل به غيره بالضرورة، وله نوع من السجائر يلازمه، وله ولاّعة خاصة وفطور في مكان خاص، قبل أن يقع على خيّاط يؤمن له أناقة ساحرة. وإذا كان في هذه الخصائص ما يفصل البطل عن غيره، فإنّ فيها ما يحوّله إلى "ماركة شهيرة"، طالما أنّه يختلف عن الآخرين ويعطي اختلافه المثير للفضول صفات الثبات والديمومة. فالسيد بوند ماثل في مشيته وأناقته وطريقة كلامه، التي تجمع بين الدقة والدعابة، وماثل أكثر في هوامشه، التي تجعل شرابه المفضّل يغاير ما يشربه الآخرون. ومع أنّ الرجل يكاد ينحصر في شخصية مسيّجة إلى حدود العزلة، فإنّ مجاله المكاني، وهو الإنسان الخيّر الذي يطارد الشر، منفتح على العالم كلّه، براً وبحراً وماءً، يطارد الأشرار في الفنادق الضخمة ويقتفي آثارهم في قاع المحيطات. وواقع الأمر أنّ بوند منتصر، دائماً، مرّتين: منصور هو بالخير الذي ينصره، فلا مكان في هذا العالم إلاّ لخير وحيد، ومنصور هو بكفاءته الذاتية، التي تلغي معنى الصدفة والمفاجأة، لأنّ المفاجأة لا معنى لها لدى عقل يقظ شديد الحسبان، مؤمن برسالة مقدّسة (13).

وفي عام 1962 كانت الفرصة الحقيقية للممثل الاسكتلندي بأن يكون أول من يجسد أشهر عميل سري على الشاشة الفضية هو "جيمس بوند"، في فيلم "Doctor No".، وأدى النجاح الهائل للفيلم وأجزائه المتتالية "From Russia with Love"  و"Goldfinger" إلى جعل أفلام "جيمس بوند" ظاهرة عالمية وكونري كشخصية عالمية (14).

وبخلاف شخصية "جيمس بوند" التي ميّزته بين جمهوره ومحبيه، فإن لشون كونري العديد من الأدوار الخالدة على شاشة السينما، منها تجسيده لدور شرطي من مدينة شيكاغو الأمريكية في فيلم "The Untouchables"  إنتاج 1987، والذي كان السبب في فوزه بجائزة أوسكار الوحيدة في حياته، وخلال سنواته الأخيرة انتشرت له صور عدة عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ترينا إياه كهلاً ثمانينياً يمشي متكئاً على عصاه، عابراً الشارع مع مرافقه. هذه الصور لوحدها كفيلة بإنعاش ذاكرة أجيال عدة من محبي السينما وعشاقها، الذين ارتبط بهم "كونري" ارتباطاً زمنياً، فهو للبعض منهم بمثابة الأيقونة التي ما استطاع أحد من بعده ارتداء سموكينغ "جيمس بوند" من دون أن يقارن به، أما للبعض الآخر فكان الممثل اللافت الذي جسد أدواراً في أفلام مثل "الرجل الذي أراد أن يكون ملكاً" لـــ"جون هيوستن" (15).

وبين اتجاهين أحدهما فني خالص والثاني جماهيري، شق شون كونري طريقه وصولاً إلى ذروة المجد، وعرف كيف يكون صلة الوصل بين الأجيال والأنواع السينمائية المختلفة. لم تكن له موهبة مارلون براندو ولا إدوار دانيال داي لويس المركبة، لكنه كان ممثلاً ممتازاً خدم كل دور تقمصه إلى أبعد حد. هو ابن مدبرة منزل وعامل بسيط، تحدر من بيئة متواضعة، وترك المدرسة باكراً ليعمل في مهن متفرقة قبل أن ينضم إلى البحرية لثلاث سنوات. كان بارعاً في الرياضة، فاشتغل طويلاً على لياقته البدنية التي أسهمت مع وسامته في دفعه إلى الواجهة، فأصبح رمزاً للرجل الأنيق الذي يتشبه به الرجال وترغبه النساء. لا نكرهه حتى عندما يشهر مسدسه. وقف كغاو كبير في وجه نساء، مثل "جينا لولوبريجيدا"، و"بريجيت باردو"، و"جوان وودوارد "، و"كاثرين زيتا جونز".. وغيرهم (16).... وللحديث بقية..

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.....................

(9) زكرياء بلعباس: المرجع نفسه.

(10) خيرالله خيرالله: وفاة جيمس بوند... أحد أسلحة الحرب الباردة.. نشر في: 06 نوفمبر ,2020: 05:44 ص GST

(11) المرجع نفسه.

(12) فيصل درّاج: أسطورة جيمس بوند... بطل الغرب الذي بدا بطلاً للجميع، نقلاً عن " الحياة" 17/04/07//

(13) المرجع نفسه.

(14) المرجع نفسه.

(15) شيماء عبد المنعم: أعماله لا تنسي .. تعرف على أبرز أدوار الراحل شون كونري .. فيديو .. الأحد، 01 نوفمبر 2020 11:30 ص

(16) ريهام عاطف: وداعا شون كونري.. من النوم في درج الدولاب إلى أسطورة السينما.. 01 نوفمبر 2020 01:18 م.

 

 

في المثقف اليوم