قضايا

محمود محمد علي: المواطنة والهوية المدنية في وثيقة المدينة المنورة (1)

محمود محمد عليكثرت في العقد الأخير من القرن العشرين الكتابات حول المواطنة بمفهومها العالمي الجديد، وتوالت في الظهور العديد من الاستراتيجيات السياسية وما يلزمها من استراتيجيات تربوية بغية تعميق قيم تربوية تجعل الأفراد أكثر تفاعلاً وانخراطاً في ذلك المفهوم الجديد للمواطنة الذي يحاول وفق المنطق الديمقراطي الغربي المعاصر– إحلال هوية جديدة وحيدة محل الهويات المختلفة المتشابكة والتي تنشأ علي أساس الديانة– الجنس – العرق والطبقة الاجتماعية والنوع، وتؤكد أن " الهوية المدنية" هي الهوية الوحيدة التي تمتلك المساواة لكل المواطنين في الدولة بغض النظر عن الاختلافات السابقة؛ إذ إن الهوية المدنية مشاعة لكل المواطنين، وترتكز هذه الهوية المدنية علي الالتزام الحر بمبادئ مدنية معينة، وقيم الديمقراطية التي تذوب في طياتها الاختلافات الجنسية والعرقية، بل والدينية لتصبح" الهوية المدنية" هي الرابط الذي يضم المواطنين جميعاً في نظام سياسي وحيد (1)

وهنا وجدنا الكثير من الباحثين والدارسين يؤكدون علي أن المواطنة كلمة استحدثت للتعبير عن تحديد الوضع الحقوقي والسياسي للفرد في المجتمع، والمواطن هو إنسان يستقر في بقعة أرض معينة وينتسب إليها، أي مكان الإقامة، ويعود مفهوم المواطنة قديمًا إلى زمن الديمقراطية المباشرة الإغريقية التي تعتبر أساس ديمقراطية العالم اليوم. وجوهر المواطنة يعتمد على انتماء الفرد وولائه لوطنه، وهذا يحتم أن تكون المواطنة قائمة على أساسيين جوهريين هما: المشاركة فى الحكم، والمساواة بين جميع المواطنين (2).

وفي هذه الورقة سأحاول أن أغرد خارج السرب، حيث أن المواطنة في اعتقادي ليس مفهوم غربي حديث، بل المواطنة مفهوم قديم قدم الإنسان علي الأرض، والمواطنة علاقة عضوية تربط الإنسان بالمكان وتتوافر هذه المواطنة بقدر ما تتوافر قيم المشاركة الاجتماعية والمشاركة في الحياة السياسية والعلاقة بنظام الحكم وعدم الإنسان بالتهميش وقبول الآخر، وكذلك تشير المواطنة إلي الحقوق التي تكفلها الدولة لمن يحمل جنسيتها والالتزامات التي تفرضها عليه، أو قد تعني مشاركة الفرد في أمور وطنه، وما يشعره بالانتماء إليه، وباختصار شديد، فالمواطنة تعني المساواة بين أبناء الوطن الواحد في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم علي أي أساس كان، سواء أكان هذا التمييز عنصري أو عرقي أو ديني، فالمواطنون سواسية في المجتمع.

وهنا في هذه الورقة أتناول قضية مبدأ المواطنة ممثلا في سيدنا رسول صلي الله عليه وسلم بوصفه رئيس الدولة العربية - الإسلامية، حيث ظل عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الإسلام حتى هيأ لله قيام دول إسلامية في المدينة المنورة، وهاجر صلي الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة فوجد فيها غير مسلمين سكنوا المدينة من قديم فمنهم من كان على شرك، ومنهم من كان من أهل الكتاب وتحديدا اليهود، ومن المعلوم أن أي دول لها أركان: شعب، وأرض، ودستور، ورئيس الدولة، فالشعب هو كل من سكن المدينة من مسلمين ويهود ومشركين، والأرض أو الوطن: المدينة المنورة، ورئيس الدولة ممثلا في شخص رسول صلي الله عليه وسلم، بقي الدستور الذي سيحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم، فلم يتجه تفكير النبي صلي الله عليه وسلم إلى رسم سياسة للإبعاد أو المصادرة والإلغاء بل قبل عن طيب خاطر وجود اليهود والوثنية وعرض على الفريقين أن يعاهدهم معاهدة الند للند على أن لهم دينهم وله دينه (3).

فكان المثال أو النموذج الأول للمواطنة  (صحيفة أو وثيقة المدينة المنورة)، وهي وثيقة النبي صلي الله عليه وسلم بوضعها بعد الهجرة إلي المدينة المنورة، والتي تسمي بصحيفة المدينة، أو دستور المدينة، وبمحتوي هذه الوثيقة أصبح الجميع مجتمعاً واحداً، ويداً واحدة في حفظ المدينة، وفي صد أي عدوان عليها من الخارج، فنقول وثيقة المدينة هي أول دستور مدني في تاريخ الدولة الإسلامية، وقد تمت كتابة هذه الوثيقة فور هجرة النبي صلي الله عليه وسلم إلى المدينة.

وقد سُميت في المصادر القديمة بالكتاب والصحيفة، وأُطلقت الأبحاث الحديثة عليها لفظة “الدستور” ولقد تعرض الدكتور أكرم ضياء العمري في كتابه "السيرة النبوية الصحيحة" لدراسة طرق ورود الوثيقة، وقال:” ترتقي بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة”، وبيّن أن أسلوب الوثيقة ينمُّ عن أصالتها، فنصوصها مكونة من كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قلّ استعمالها فيما بعد، حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فرداً أو جماعة، أو تخص أحد بالإطراء، أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية، وغير مزورة (4).

ولقد عرف الإسلام هذا الحق ورسخه منذ أربعة عشر قرنًا، فحين هاجر الرسول  إلى المدينة وجد فيها عقائد مختلفة وقبائل شتى، تشكلت بعد استقراره إلى فئات ثلاث في ذلك المجتمع الجديد، هم: المسلمون، واليهود، والعرب المشركون، ويتألف المسلمون من المهاجرين والأنصار الذين يتألفون بدورهم من الأوس والخزرج، وهو ما يمثل نسيجا غريبا ومخالفا لتقاليد العرب وأعرافهم في ذلك الوقت في الجزيرة العربية (5).

ولم تقتصر هذه الوثيقة على تنظيم علاقات المسلمين مع غيرهم، وإنما تعرض جانب كبير – بل هو الجانب الأكبر – منها إلى تقرير قواعد كلية، وأسس عملية للعلاقات بين المسلمين أنفسهم" كما اعتبرها " من أهم الوثائق القانونية، التي لا بد أن يدرسها علماء القانون والتشريع بدقة متناهية، لاستخلاص الدلائل والأحكام منها، وأيضاً لمعرفة الغايات التي يرمي لها الإسلام، والضوابط التي يرتضيها، ومقارنتها بغيره

وهذه الوثيقة اشتملت علي أربعة بنود رئيسة وثمان وأربعين (48) فقرة في العلاقة والمواطنة والتعايش. والبنود هي:-

البند الأول: الأمن الجماعي والتعايش السلمي بين جميع مواطني دولة المدينة. البند الثاني: ضمان حرية الاعتقاد والتعبد. البند الثالث: ضمان المساواة التامة لمواطني دولة المدينة في المشاركة الفاعلة في مجالات الحياة المختلفة تحقيقا لمبدأ أصيل تقوم عليه الدول الحديثة في عالم اليوم وهو مبدأ المواطنة الكاملة فضمن دستور المدينة هذا الحق لكل ساكنيها في وقت لم يكن العالم يعي معنى كلمة الوطن بالتزاماته وواجباته. البند الرابع: ترسيخ إقرار مبدأ المسؤولية الفردية وأصل هذه المسؤولية الإعلان عن النظام وأخذ الموافقة عليه. وعلى أثر هذه الوثيقة زادت رقعة معاملة المسلمين لغير المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله على أساس مبدأ التسامح الذي فاضت به نصوص القرآن الكريم وبينته السيرة النبوية قولا وفعلا بعد ذلك. وتعد هذه المعاهدة الوثيقة الأولى التي احتوت على بنود محققة للمواطنة وحقوق المواطنين وواجباتهم من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية.

كذلك هذه الوثيقة حددت حقوق المواطن وواجباته دون تفريق بين مسلم وصاحب كتاب أو مشرك، فالجميع لهم حقوق عليهم واجبات ما داموا يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، ويتمتعون بأمنها واستقرارها، فبعد هجرة نبي الرجمة إلي المدينة المنورة، كان المجتمع في المدينة المنورة، ما بين المسلمين، أو اليهود، أو بعض الوثنيين، فكان لا بد من وجود دستور، أو قانون ينظم العلاقات بين هذه  الطوائف، وهذه الفئات، فقام المصطفي صلوات الله عليه بوضع صحيفة وثيقة المدينة لكي ينظم العلاقات بين هذه الطوائف الموجودة في المدينة المنورة .

وهنا نقول بأن الهدف من وثيقة المدينة المنورة يهدف هذا الدستور أو هذه الوثيقة إلي تحسين العلاقات وتنظيم العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة، وعلي رأسها المهاجرين والنصار والفصائل اليهودية وغيرهم، وحتي يتمكن بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي علي المدينة المنورة ؛ أي أن يتحد الجميع في الدفاع عن المدينة المنورة.

وكذلك نقول أيضا لقد صيغت في وثيقة المدينة المنورة علي قيم المواطنة  واستفاد منها الغرب، وهذه الوثيقة تحتوي علي 47 بند، فلو قرأنا هذه الوثيقة سنكتشف أنها أعلنت حقوق الإنسان العالمي بـ " 1850" سنة، وسنكتشف أن بها مبدأ الليبرالية، والمواطنة في أفضل تطبيقاتها، فلقد أرسي نبي الرحمة دولة المدينة جاءت من المدينة المنورة، وقام بوضع هذا الدستور من هذه الوثيقة، وهي لا تزيد عن أربع ورقات، وفيه الكل يدافع عن المدينة مثل لليهودي أن يؤمن كما يشاء، وكذلك المسيحي، ولمن لا يؤمن بدين أن يعتنق ما يشاء، وهذه مفاهيم جدية تماما وتقدمية بكل ما تحويه الكلمة من معني، فالمسلم فليس هناك فرق بين مسلم الأنصار ومسلم أصحاب المدينة، علاوة علي دعوتها علي أن الدفاع عن الوطن واجب مقدس للجميع، ومن هنا أرسي قواعد المواطنة بكل ما تحمله الكلمة من معني .

ولو استعرضنا هذه الوثيقة نجد إنها بالفعل تدشن لتأسيس دولة مدنية علي أعلي مستوي، من خلال الحديث عن مجال المواطنة، وأٍساسها، وشعارها، وعمادها، فأما فيما يخص مجال المواطنة فإنها تستوعب جميع المواطنين في ديارهم، دون إهدار حقوق غير المسلمين الذين يسكنون داخل الدولة الإسلامية، وأما أساس المواطنة فتعول علي الحرية وعدم الاستبداد والظلم، وأما شعار المواطنة فتعني المساواة بين الموطنين في الحقوق والواجبات، ودون النظر للدين أو المذهب، أو العرق، وأما عماد المواطنة فتعول علي كوها تمثل نظام سياسي يخدم الجميع ونظام اجتماعي يعتمد علي حب الوطن ومراعاة السلوك العملي المعبر عن احترام حقوق الوطن علي أبناءه، كما أنها نظام قانوني لمعرفة حقوق الإنسان والمواطن وواجباته تجاه الوطن وتجاه غيره من أفراد الوطن ... وللحديث بقية..

 

اٍلأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط

..................

الهوامش

1- Joh I. Cogan and Ray Derricott, citizenship for the 21 St century an international perspective on education, Kogan page, England, 1999, pp. 103: 107.

2- د . حنا عيسى: الدين والمواطنة علاقة وثيقة ووطيدة، مقال منشور بتاريخ تاريخ النشر : 2014-11-03

3- د.حسين مؤنس: دراسات في السيرة النبوية، الناشر الزهراء للإعلام العربي، ط 2، القاهرة، 128.

4- أكرم ضياء العمري:  السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، 1415 – 1994، ص 145-148.

5- الدكتور علي جمعة: وثيقة المدينة ودستور المواطنة.. مقال منشور بتاريخ Jan 15, 2011.

 

 

في المثقف اليوم