قضايا

محمود محمد علي: المواطنة والهوية المدنية في وثيقة المدينة المنورة (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن المواطنة والهوية المدنية من خلال الوثيقة حيث نجد أن لها ثلاثة أركان، هي الانتماء للأرض، والمشاركة، والمساواة، وهنا نبدأ مع العنصر الأول وهو مكونات المجتمع المدني من خلال الوثيقة، حيث نجد أن تلك المكونات تتكون من المسلمين، واليهود، وبعض الوثنيين، بالإضافة إلي بعض من إخواننا المسيحيين، والمسلمون منهم الأنصار والمهاجرين، والأنصار تضمنت قبيلتي الأوس والخزرج، وأما اليهود؛ فنعني بهم أي القبائل اليهودية التي كانت تسكن المدينة المنورة، ومن ذلك يهود بني قريظة، ويهود بنو النضير، ويهود بنو قينقاع، وغيرهم، وأما بغض الوثنيين من الأوس، والخزرج وغيرهم الذين ظلوا علي معتقداتهم ولم يدخلوا الإسلام، وأما المسلمون ونعني بهم المهاجرين والأنصار، وقد اعتبرتهم الوثيقة فيما بينهم، فضت بذلك علي القبلية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، حيث اعتبرت قبيلتي الأوس والخزرج " أمة".. ومعني كلمة " أمة " ؛ أي جماعة بشرية متماسكة، كما أقرت الوثيقة الحقوق بينهم دون تفريق في ذلك بين قبيلة وأخري، وهذه الوثيقة اعتبرتهم إخوة فيما بينهم، فقال الله تعالي " إنما المؤمنون إخوة"، وهذا فيما يتعلق بمكونات المجتمع المدني بالنسبة للمسلمين.

والمكون الثاني للمجتمع المدني، وهم اليهود، وقد جاء في نص الوثيقة أن اليهود أمة مع المؤمنين، حيث لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وهنا نجد أن الوثيقة قد اعترفت لليهود بالحقوق المدنية والدينية، كما اعترفت لهم بحرية ممارسة الدين، وحرية ممارسة المعتقد، وأساس مواطنتهم هو الولاء للدولة الإسلامية، لأن حق المواطنة لا يستلزم وحدة العقيدة، ولا وحدة العنصر .

والمكون الثالث لدستور المدينة المنورة، وهم الوثنيون، ونقصد بذلك ممن بقي من الأوس والخزرج، وقد قبل بهم النبي رضوان الله عليه، وألزمهم ببعض الواجبات، فقد اعترف عليه السلام بوجودهم وألزمهم بألا يجيروا أحد من الخارجين عن قيم المواطنة، وبهذا يكون العرب جزءً من هذه لكونهم من الموالي، فحسب الأعراف العربية إذا دخلت قبيلة أو عشيرة في معاهدة، فإن حلفائها السابقون يكونون طرفاً غير مباشر في تلك المعاهدات، وجاء في الوثيقة لليهود ينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم.

ونستفيد من ذلك أن المواطنة من خلال وثيقة المدينة المنورة أنها جاءت  لترسي مبادئ العيش المشترك والوئام والمحبة والتعاون بين أتباع الأديان والأعراق المختلفة الذين يعيشون سويًا.. فأكد فيها النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله على احترام "الاختلافات" ونبذ "الخلافات" وأقر التعددية الدينية وحرية الاعتقاد فجاء فيها: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم‏،‏ مواليهم وأنفسهم‏،‏ إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ- أي يهلك-‏ إلا نفسه وأهل بيته" (6).

وليس ذلك فحسب.. بل أكد النبي صلى الله عليه وآلة وسلم على أن اليهود وغيرهم من غير المسلمين فى المدينة هم مواطنو الدولة الإسلامية لهم الحقوق والواجبات‏، وعنصر من عناصرها‏ دون تمييز‏ فقال فى الصحيفة‏: «‏وإنه من تبعنا من يهود،‏ فإن له النصر والأسوة غير مظلومين‏،‏ ولا متناصر عليهم‏»،‏ كذلك قال‏: «‏وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين» أى ضمن دولة المسلمين (7).‏

كما حفظت تلك الوثيقة المحمدية حقوق غير المسلمين المالية والاقتصادية، فجاء فيها: "وإنّ على اليهود نفقاته، وعلى المسلمين نفقاتهم»، وأشركهم فى المسؤولية والمواطنة والدفاع عن وطنهم فقال: «إنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة وأنّ بينهم النصح والنصيحة، والبرّ دون الإثم، وإنّه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإنّ النصر للمظلوم، وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين" (8).

كذلك حوت الوثيقة علي  كثيرًا من المبادئ الدستورية التي تسهم بشكلٍ كبيرٍ في تأسيس حياةٍ مدنيةٍ تعطي حقوقًا متساويةً لكل سكان المدينة بعيدًا عن أعراقهم وأديانهم، كما يلاحظ على الوثيقة تركها الإشارة إلى الفئات المهددة للوجود السياسي الاجتماعي للدولة الإسلامية سواء من المنتمين إلى الأنا (المنافقون، والفاسقون، والمرتدون)، أو إلى الآخر الداخلي (أهل الكتاب المحاربون وغيرهم)، واقتصار الحديث على الآخر الخارجي (قريش أو غيرها)، مما يدل على المستوى المتقدم في التفكير السياسي السليم للقيادة النبوية، التي أرادت من الوثيقة أن تكون وثيقة موادعة مع الآخر الداخلي، تطمينا له بضمان حقوقه وواجباته من جهة، وتعزيزا لثقة أفراد الجماعة المؤمنة بعضهم بالبعض الآخر من جهة أخرى، لتكون الحصيلة تحصين الجبهة الداخلية للدولة الإسلامية في مواجهة الخطر الخارجي المحدق بها، وجعل نموذج الدولة الذي يبشر به المشروع السياسي الإسلامي مشروعاً جاذبا ومحفزاً للآخرين للانضمام إليه (9).

والسؤال الآن : إذا كانت نظرية العقد الاجتماعي، واحدة من النظريات المفسرة لنشوء الدولة تاريخيا، فهل ترقى وثيقة المدينة لتكون العقد الاجتماعي الأول للاجتماع السياسي الإسلامي الذي أرسى أسسه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هجرته المباركة من مكة إلى يثرب؟

إن الجابة عن هذا التساؤل بحاجة إلى معالجة الوثيقة من حيث القواعد التأسيسية للدولة التي أنتجته لقيم المواطنة وهي تتجسد علي النحو التالي:

1- مفهوم الأمة: عملت وثيقة المدينة على إزالة الغموض حول مفهوم الأمة، فقد حددت تصورين لهذا المفهوم: الأول: ضيق قائم على الانتماء الديني، والثاني واسع قائم على الانتماء السياسي. فالأمة في الإطار الديني مثلتها الجماعة المؤمنة، وهذه الأمة قابلة للتوسع بقبول آخرين للمشروع السياسي والعقائدي للدولة الإسلامية، أما الأمة بمفهومها السياسي الواسع، فتتسع لتشمل أكثر من جماعة دينية واحدة، مما يجعل المجتمع الإسلامي سياسياً متكون من فئات عدة لها انتماءات دينية مختلفة، كما وضحت ذلك الفقرة "25" التي نصت على :" وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم"، وهذا النص بسياقه السياسي جعل المواطنة ركيزة مهمة من ركائز المجتمع السياسي الإسلامي، قد تتساوى مع الانتماء الديني حين يكون المجتمع السياسي كله ذا انتماء ديني واحد، فيتحد في الآخر المعاش، مفهوم الأمة مع مفهوم الوطن، والدولة، والمواطنة، وقد لا تتحد هذه المفاهيم في مصداق واحد، فتكون أمتان أو أكثر في الانتماء الديني في وطن واحد، ومجتمع سياسي واحد، ودولة واحدة، فالأمة الواحدة في المعنى السياسي التنظيمي للوثيقة، تشكل مجتمعا سياسيا واحداً مكوناً من أمتين من حيث الانتماء الديني وقد يتكون من أكثر من أمتين في بعض الأحيان (10).

2- القيادة السياسية العليا في الدولة: حددت الوثيقة الجهة التي تمثل القيادة العليا في الدولة الإسلامية –آنذاك- من خلال النص على قيادة النبي (صلى الله عليه واله وسلم) للأمة السياسية، ورئاسته للدولة، ومرجعيته لها وتحديد القيادة العليا، من الأمور الحيوية التي البد أن تنص عليها المواثيق الدستورية، وعدم إغفال ذلك في نص الوثيقة يعزز قيمتها الدستورية المهمة (11).

2- نطاق سيادة الدولة (حدودها الجغرافية): نصت الوثيقة علي أن ثمة مكاناً محددا تسري فيه أحكام  الوثيقة، له حدوده المعلومة، التي يكون تجاوزها خروجا عن هذا المكان، وعدم تجاوزها قعودا فيه، وإن الدولة الإسلامية –آنذاك- لها أرض ضمن حدود، والانتماء إلى مجتمعها السياسي، يكون بالانتماء إلى هذه الأرض، وقوانينها وأوامرها السياسية نافذة المفعول على أرضها، وضمن حدودها، وعلى المنتمين إليها دون غيرهم، وإن كانوا مسلمين. وحدود هذه الدولة قابلة للتوسع والامتداد، بانضمام آخرين إلى مشروعها السياسي والعقائدي، ويدل على تحديد النطاق الجغرافي للدولة، قيام الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بإرسال بعض أصحابه لبناء أعلام تحدد حدود الدولة من الجهات الأربع (12).

4- تنظيم الحقوق والحريات ومتطلبات الأمن: حرص الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) من خلال وضع الوثيقة على تنظيم الحقوق والحريات ومتطلبات الأمن في الدولة الإسلامية –آنذاك- وفق الظروف والمعطيات الحاكمة للمجتمع السياسي.

وثمة نقطة أخري مهمة وجديرة بالإشارة، وهي أن الوثيقة دعت إلي الاعتراف للآخر بجملة من الحقوق  الإنسانية المهمة، ومنها:   الحق في المواطنة، والحق في حرية الاعتقاد، والحق في المشاركة السياسية، والحق في حرية التنقل (13)، التكافل والتضامن فيما بين المسلمين، فهم جميعا مسؤولون عن بعضهم في شؤون دنياهم وآخرتهم... العدل، إن العدل التام الكفيل بفض نزاعات المسلمين وخصوماتهم وخلافاتهم وتنظيم شؤونهم، إنما هو في شريعة الله تعالى وحكمه، وهو ما تضمنه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واقتضته مقاصد الشريعة وقواعدها في رعاية المصالح ودرء المفاسد.

كما وضعت الوثيقة الدستورية حقوقا وواجبات للمواطنين في الدولة دون النظر إلى الانتماء الديني والقبلي، وأشارت الصحيفة إلى المساواة بين أفراد الدولة في السلم والحرب، كما حددت الوثيقة لمواطنيها على حد سواء كيفية العلاقة مع القوى المعادية لها فمنعت إقامة علاقات تجارية أو مالية أو خاصة مع هؤلاء الأعداء حتى وإن كان الفرد في الدولة يتشارك معهم في الانتماء كالشرك، وبينت الصحيفة صراحة مفهوم المواطنة في مواطنيها من اتباع الديانة اليهودية حين حددت لهم واجبات وحقوق كما هي للمسلمين في حماية الدولة وأمنها، كما وضعت الصحيفة أسس الدولة الحديثة والقواعد الديمقراطية للدولة الإسلامية في مقدمتها المساواة تبين جميع رعايا الدولة وهذا أساس مفهوم المواطنة في النظم الديمقراطية وأعطت المثال الحقيقي للحرية التي لا تزال الإنسانية تبحث عنها إلى يومنا هذا (14).

 

اٍلأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط

........................

الهوامش

6- هاني ضوة: وثيقة المدينة.. دستور نبوي أسس لمبادئ المواطنة الكاملة «1-2».. المصري اليوم ..

7- المرجع نفسه.

8- المرجع نفسه.

9- خالد عليوي جياد: حقوق الآخر في ضوء وثيقة المدينة المنورة : تأصيل إسلامي لمبدأ التعايش، مجلة رسالة الحقوق، السنة الرابعة. العدد الثاني..2102 م،  ص ص 154-155.

10- المرجع نفسه، ص 157.

11- المرجع نفسه، ص 158.

12- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

13- المرجع نفسه، ص 159.

14- د. حامد الرفاعي: الإسلام وحقوق الإنسان وواجباته، رابطة العالم الإسلامي،  السنة الساسة عشر، العدد 146عام 1419هـ، ص99.

 

 

 

 

في المثقف اليوم