قضايا

حسين علاوي: تأويل سيرة الوحي

حسين علاوي

بدأ العديد من الفلاسفة وعلماء الأديان الفصل بين علوم الطبيعة التي تعتمد الشرح، وعلوم الروح التي تعتمد الفهم.. وقد نقدوا العقل التاريخي وسَعَوْا إلى تأسيس هيرمنيوطيقيا فهمية تذهب إلى الأعماق الداخلية، ومتابعة أكبر للأنساق الثقافية، من خلال تأويل النصوص المقدسة التي تتعلق بالوحي.. بعد أن اعتُبرت ظاهرة الوحي ظاهرة غامضة.. ومبحث يخضع إلى التمجيد والتصديق.. أو إلى الطعن والتكذيب.. فهناك من يحاول تخليص ظاهرة الوحي من بُعدها العلوي المفارق (وهو شكل من أشكال القول في التخفي).. ومستواها الرأسي (الله – محمد)، والنظر إليها في علاقتها بالبشر.. ودراستها من خلال التاريخ الاجتماعي والمكاني والثقافي..

وإنَّ أكثر من اهتم وفسّر وأوّلَ الوحي في الفلسفة الغربية هو سبينوزا.. ورغم أنه يرفض النبوة، إلّا أنه يرجّح ما وصل إليه النبي إلى قوة الخيال.. فموسى والأنبياء يدينون في نَظَرِه بسلطانهم على العامي لقوة خيالهم.. ولكنهم لا يتعدّون مضمار الحواس.. ولا يبلغون إلى أية معرفة واضحة متميزة بالإلهيات.. وهو ما يتنافى مباشرةً مع طبيعة الله في أن يعطي شرائع جزئية إلى رجُل واحد أو شعب واحد وهو خالق كل شعوب الأرض.. (أنظر: رسالة اللاهوت والسياسة، ص126)، ويقول إنَّ المسيح اتصل بالله مباشرة اتصال الروح بالروح.. وإنه لم يتلقَ أي شخص وحياً من الله دون الالتجاء إلى الخيال، ويعتقد أنَّ النبوة لا تتطلب ذهناً كاملاً، بل خيالاً خصباً.. (أنظر: المصدر نفسه، ص143).

وفي الفلسفة الإسلامية فإنَّ أكثر من اهتم بالنبوة والوحي هو الفارابي، الذي أراد أن يثبت عدم تعارض الدين مع الفلسفة.. ويعتقد أنَّ النبي والفيلسوف يأخذان أفكارهما من مصدر واحد هو العقل.. وإنَّ جبرائيل هو العقل الفعال.. وإنَّ الأنبياء تختلف درجاتهم ومن ثَمَّ معارفهم، بحسب قوة مخيلتهم.. (آراء أهل المدينة الفاضلة، ص51-53).

ويقول الرازي: (إنَّ الله في القرآن الإيحاء الذي هو مصدر وحي.. وعند ذكر الفعل لم يذكر وَحَى الذي هو مصدر وحي، بل قال عند ذكر المصدر الوحي.. وقال عند ذكر الفعل أوحى)، (التفسير الكبير، مج14، 282)

وللوحي معانٍ عدة في كتب اللغة، فهو الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي من الغير.. ويصف القرآن الكريم في آيات عديدة أنَّ الغاية من الوحي هي الإنذار والإبانة والهداية والرحمة والاختيار والإعلام.. فبالوحي يتدخل الله في العالم لطفاً بالبشر، حتى لا تكون لهم عليه حجة.. وكأنَّ الوحي فعل رأفة مَرَدَّهُ إلى الله وحده..

وتعتبر لحظة تصديق الوحي لحظة خاصة تم فيها الانتقال من تصور للذات والكون والأشياء والمصير، إلى تصور جديد برمزيات جديدة..

وقد استعمل القرآن لفظ الوحي بمعناه الواسع.. فكان وحيُ الله إلى البشر وإلى الملائكة وإلى الحواريين وإلى النحل.. ووحي الشياطين إلى أوليائهم.. وقد ميّز القرآن بين الوحي الأصيل الصادق، والوحي الكاذب باعتبار الموحى.. فوحي الشيطان كاذب، ووحي الله صادق..

الوحي واختلاف الأديان الإبراهيمية..!!

هناك اختلافات ليست بالقليلة بين الديانات الإبراهيمية والتي تنتمي إلى مسار واحد من حيث النشأة، لكنها تختلف بتلقي الوحي.. وبتصنع يصل أحياناً إلى التعارض.. (ولا يستند وحي أنبياء بني إسرائيل إلى تعاليم نبي مؤسس واحد بعينه.. بل ينمو مطرداً خلال خمسة عشر أو عشرين قرناً محمولاً على أجنحة التاريخ.. وعند البعض منهم تُعتبر النبوة موهبة روحية تعلّم الإنسان ما لا يمكن أن يصل إليه بقواه الخاصة وحدها.. إلّا أنها بدون وحي، بل تعتبر شبيهة بالإلهام.. (للوَحِي معانٍ أخرى، دكتور محمد عثمان الخشت، ص108)

وتصل الكلمة في أغلب الأحيان إلى الأنبياء دون أن ترافقها أيّة رؤيا.. ولم يوضحوا طريقة صدورها إليهم.. وهذا ما يميز الوحي بين العهد القديم والعهد الجديد.. فيظهر ملاك (يهوه) أي الله دون الطور إلى إبراهيم وموسى وإيليا ويحيى وأشعيا وزكريا وحزقيال.. ولم يرَ وجهه قط حتى موسى.. فهناك طريقة للكلام المباشر من الله إلى الإنسان عن طريق الاستماع إلى كلام الله دون رؤيته.. وقد اصطفى الله موسى وكلّمه تكليما..  وهو شبيه بالنصوص الأسطورية التي رأت أنَّ الآلهة على صلة وطيدة بالبشر سلوكاً، وممارسة، وطبائع..

ولا يخرج هذا التصور من النص التوراتي الذي جعل في قصة الخلق آدم يحاور الرب الإله محاورة الأب لابنه.. ففي الإصحاح الثالث في سفر التكوين بعد أن سأل الرب الإله آدم: (من قال لك إنك عُريان..؟ هل أكلتَ من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها..؟)..

واتصاف الرب الإله بصفات البشر لم يقتصر على مشهد الخلق فحسب، وإنما تجلّى أيضاً في مشاهد أخرى أهمها ما ورد في الإصحاح الحادي عشر والثاني عشر في سفر التكوين يوم (قال الرب لأبرام: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك واذهب إلى الأرض التي أوريك.. فأَجعَل منك أُمّةً كبيرة وأباركك، وأُعظّم اسمك، وتكون بركة.. وأبارك مباركيك، وأَلعَن لاعنيك.. وتتبارك فيك جميع أمم الأرض).. ولم يحدد النص التوراتي اتصال المحاور بإبراهيم، لا من خلال وحي ولا إلهام، بل كان أقرب ما يكون إلى اتصال البشر فيما بينهم..

وفي الإصحاح الثامن عشر من السفر نفسه قَدِمَ على إبراهيم ثلاثة: رجلان والرب الإله، وكان الرجلان ملاكَيْن.. ويعتقد مفسري الكتاب المقدس أن يهوه وملائكته شيء واحد..!!

ومن أكثر الصفات التي نُسبت إلى الإله في العهد القديم والقرآن الكريم، صفة الكلام، ففي (التوراة) تجلّى الإله لأنبيائه، وكلّمهم كلام البشر للبشر.. وقطع لهم العهود والمواثيق، وأخبرهم بما لم يحدث بعد.. وفي القرآن الكريم (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً) النساء: 164.. وفي سفر الخروج في الإصحاح الرابع (يدور حوار بين الرب وموسى.. ويرفض موسى في البداية ما يطلب منه الرب قائلاً: (من أنا حتى أذهب إلى فرعون، حتى أُخرِج بني إسرائيل من مصر..؟).. والتكليم أمر ألفيناه موجوداً في النص التوراتي القرآني (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)..

أما الوحي في الديانة المسيحية فهو مبحث شديد التعقيد.. إذا ما عرفنا أنَّ البعض من الأناجيل تعتبر المسيح ابن الله.. ففي إنجيل يوحنا: (الابن في الرب كيان واحد) 10-30، وذلك بقول المسيح: (أنا والأب واحد)..

أما يسوع الناصري في المسيحية فهو الإله.. وتارةً ابن الإله، وهذا ما يجعله مختلفاً عن سائر الأنبياء.. وكان حواريوه يخاطبونه في الأناجيل: (فأنت هو المسيح ابن الله الحي).. والمسيح يقول: (أنا هو وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة واثباً في سحاب السماء).. أو (إنَّ الذي أرسلني هو معي).. و (ما أتيتُ من نفسي، ولكن الذي أرسلني ينطق بالحق وأنتم لا تعرفونه، فيما أنا أعرفه لأني منه أتيت وهو الذي أرسلني).. و (الحق الحق أقول لكم: كنتُ قبل أن يكون إبراهيم).. و (الأب فِيَّ وأنا في الأب).. فالمسيح يعلن عن نفسه أنه أكثر من أن يكون إنساناً.. وأكبر من أن يكون نبياً.. إنه ذو طبيعة إلهية، وعلاقته بالله علاقة متميزة، إنها علاقة (بنوة)، فضلاً عن إصراره -حسب العقيدة المسيحية- على وجود وحدة وعلاقة باطنية مع الإله الرب..

ويعتبر مدوني الأناجيل أنَّ (متي، ومرقس، ولوقا، ويوحنا، باعتبارهم موحى إليهم من الروح القدس)، ففي نص متي المسمى كتاب الحياة: (شاء روح القدس في القرن الأول للميلاد، أن يوحي إلى أربعة رجال دونوا الإنجيل، وهو البشارة بالمسيح مخلّص العالم.. فتولى كل منهم التركيز على جانب معيّن من جوانب حياة يسوع وشخصيته الفريدة) (ص120).

بينما في القرآن إنَّ الله أوحى لعيسى ابن مريم من خلال وسيط هو الروح القدس (جبريل في الإسلام).. فالإسلام ينزّه الله تعالى بشكل مطلق من التداخل مع الطبيعة البشرية، وإنه ليس له ابن بأي معنى حسي أو معنوي أو مجازي، ويتعالى عن الحلول في هيئة بشرية.. والوحي بالمعنى المسيحي لا يقبله العقل السببي والاستدلالي الذي يفصل بين الوجود الإنساني والوجود الإلهي..

فالنصوص المقدسة الثلاثة تتعدد فيها أشكال الوحي.. وتختلف في تحديد ماهيته.. فإذا وافق النص القرآني النص التوراتي في بعض الآيات، فالنصوص الإنجيلية عَدّتْ الوحي كلمة تجسدت في المسيح..

الوحي والعقل:

لم يظهر الوحي مرة واحدة، بل على مراحل، فلا توجد نبوة واحدة.. بل عدة نبوات متتالية.. مختلفة في طريقة النزول.. هنا يبدأ سؤال العقل: إنَّ التطور والحركة هما السمتان الغالبتان على حركة النبوة منذ فجر التاريخ.. فلماذا تتوقف هذه الحركية فجأة في المرحلة التي تسمّى ختم النبوة؟.. ولماذا يتوقف الزمن والحركة عند المرحلة الأخيرة من النبوة؟.. أَلَا تعتبر فترة سكونية وفجوة بين الإنسان والسماء؟.. فهل يعني اكتمال الوحي إلغاء الرسالات وإعدام الأنبياء؟.. أم إنَّ العقل وريث الوحي، وإنَّ الوحي قد أكمله وبه استقلّ الشعور فختم النبوة.. فلا بد أن توصف أنها إعلان الاستقلالية للعقل لا تبعيته.. وهي لحظة ولادة لا وفاة.. لنضع المبررات الواقعية التي تجعلنا ننظر إلى فكرة ختم النبوة بالمعنى التراثي، نظرة ريبة ونقد.. فالأنبياء أدوا مرحلة تاريخية، والنبوة مرحلة تاريخية.. وهي لا تظهر حالياً بل ظهرت في محيطهم وزمانهم.. ثم سلموا المشهد للعقل ليكمل المسيرة، فالعقل هو وريث النبوة، والعلماء ورثة الأنبياء.. (أنظر: مجلة الإسلام والحداثة، ندوة مجلة مواقف، العدد الأول، ص218)

هل الوحي أمر ممكن علمياً:

يؤكد العلماء أنَّ إمكانية الاتصال بين أطراف متباعدة في لمح البصر وبطريقة غير مرئية، أضحى أمراً ممكناً.. بعدما كان في الماضي أمراً صعباً.. أمّا الآن فقد صار واقعاً حيّاً نعيشه بعد كل التقدم العلمي الذي حدث.. وسوف تصل البشرية إلى أكثر مما وصلت إليه في المستقبل.. فوجود اتصال بين السماء والأرض.. بين العالم العلوي وعالم الإنسان أمر ممكن، لا سيما أنَّ التخاطر عن بُعد أصبح ظاهرة مؤكدة، رغم عدم وجود وسيلة اتصال مرئية.. وهذا شكل من الأشكال التي تفتح المجال للقول بإمكان وجود اتصال عن طريق آخر غير الطرق المعروفة.. وما وصلنا إليه من معارف علمية لا يعارض وجود الوحي، خاصة وإنَّ معرفتنا بالكون وطبيعة مخلوقاته وعددها، ضئيلة جداً.. لذا فمن التسرع بمكان إنكار وجود مخلوقات ملائكية تقوم بدور الوسيط بين الله وبعض البشر.. لا سيما وإننا لم نكتشف بعدُ كل الكون.. وبالتالي لم نجد فيه لحدّ الآن ملائكة..

وقد اشتمل وحي القرآن على كثير من المعارف، كانت موجودة في بداية نزوله وعصر تدوينه.. ولا يمكن التحقق منها بوسائل العصر آنذاك.. ومن ثم ثبوتها بعد ذلك في العصور التالية.. وهذا دليل على أنَّ القرآن غير بشري؛ إذ كيف لمحمد -حتى لو كان عالماً- أنْ يعرفها وهي فوق القدرات المعرفية السائدة آنذاك.. إضافة إلى أنَّ الإيمان بالله كان لا يتم دون وحي..

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم