قضايا

سامي عبد العال: الموت والأمل

سامي عبد العال" تعددت الأسبابُ والموتُ واحدٌ ".. مقولةٌ شائعةٌ جددت دلالتها على خلفية جائحة كورونا. وانتبه إليها الناس فجأة آملين في إيجاد العزاء عن المآسي التي وقعت يومياً نتيجة لعنة المرض. لكن المقولة الآن ليست صحيحة على الأقل بشقها الأول، لقد تعطلت عن العمل كماكينةٍ صدئةٍ ضاعت معالمها. فقد جاء فيروس كورونا (سبباً وحيداً – لا أسباباً مختلفة)، بينما تعددَّ شكلُ الضحايا وإنْ كان (مصيرُهم) موتاً محققاً في الأخير.

كانت الإصابات الفيروسية والأعراض واحدةً مع تباين حيوات البشر، لأنَّ المرض مستجدٌ دافعاً إلى نهايةٍ معروفةٍ وآخذاً في الفتك بمن يقابله في الطرقات والنواصي. وربما من المرات النادرة أنْ يأتي سبب الموت مشتركاً بين أُناس كثيرين (مئات الآلاف من البشر) باختلاف قارات العالم. هذا الحال عندما كان يحدث في المجتمعات القديمة، فالأغلب أنَّه كانت وراءه كارثة غير قابلة للوصف تحصد الأرواح معاً.

لكم استهدف كورونا اسقاط الحياة بيولوجيا رغم أنه جزء منها، أخذ ينعق كالعدم بأي مكان يحل فيه. بينما نحن البشر مسكونون بالحفاظ على الذات، الخوف من المجهول، الحذر من المصير، تجنب المرض ومقارعة الفناء. ونحن في الحقيقة نزرع وجودنا الحميم أينما نذهب، نتنفس الآخرين حباً وكراهية أيضاً. وحقيقي بيننا كبشر وبين الموت صراعات طويلة دون كللٍّ ولا ملل منذ سحيق الوقت، لكن لم تنته أغلبُها لصالح الإنسان وإلاَّ ماذا عن تفسير نهاية كلِّ من سبقُونا. فالموت - من منظور واقعي- قانون تاريخي كوني لم يفلت منه كائن ولا شيء. ومع ذلك كانت تلك الصراعات مع الفناء هي (وبكل تأكيدٍ) صراعات تُخرج أبرز ما لدينا من إبداعٍ وتنوع.

الحضارة ذاتها (وليدة الموت) الذي يلاحقنا أينما كنّا، هي قفزة إلى الأمام، إفراز متحضر وإنساني مقاومةً للفناء، إنَّ تاريخ الإنسان تأجيل متواتر لما يقربه من النهاية المحدقة. الحياة مجموعات لا متناهية من المقاومات تجاه أزمنة الوهن والسقوط والتلاشي والمصير. وبالتالي لم ولن يجد كورونا بصدد الإنسان خصماً سهلاً يجرِّعه كاس الموت العلقم كما قد يُظن. النهاية ليست سهلة المنال لكائن أبدع الحياة ذاتها. فإذا كان وجودنا هبةً من السماء (لو الجود ما كان الموجود على حد قول ابن عربي)، فلن تكون النهاية غير هبةٍ بالمثل. يستحيل أنْ تكون كما يريدها  الخوف من المجهول مقايضةً مع موت فيروسي ولو كان شرساً.

الفيروس كان ومازال يشدُ الإنسانَ إلى الماضي (حين لم يكن شيئاً مذكوراً)، الماضي الآتي بصيغ الموت (الوهن، المرض، الوباء، العجز، الضعف، التلاشي)، بينما ظلت إنسانيتنا تشده إلى المستقبل، قُطعت كلُّ الأحبال التي يمسكها الطرفين دون مهرب. لسبب بسيط أنَّ الأحبال الواهية أحياناً هي الحياة التي نتمسك بها حتى أخر رمق، تلك المساحة التي تضعنا نحن والفيروسات وجهاً لوجه منذ آلاف السنين. ومكر فيروس كورونا أنه ينازعنا أخص من نملك، أخص ما يجمعنا ويفرقنا، أخص ما يضعفنا ويقوينا، أخص ما يوحدنا ويمزقنا في الوقت نفسه. أي مساحة المرض (الموت الكامن داخلنا) التي هي البداية والنهاية معاً. كورونا فيما يبدو من خلال عمله يدرك ذلك جيداً كما أنَّ السياسة والاقتصاد والشرور تعمل بهذه المنطقة الحرجة من كياننا المترامي. إنها نقطة اتصال العدم بالوجود، الفناء بالبقاء، المستحيل بالممكن.

هكذا غدا كورونا خطّاً واضحاً لهذه الموت الذي لن ينال من الإنسان بسهولةٍ، رغم أنه قد يسقطه أرضاً أحياناً في بعض المعارك الجانبية والخاصة. المقاومة (بأشكالها) هي الأمل المتبقي لما يقوي جبهة إنسانيتنا. فرغم تقطُّع أوصال الحياة، إلاَّ أننا كأُناس نقطن أرضاً واحدة ونلتحف السماء ذاتها. وبالتالي أصبحنا رغم البعد أكثر قرباً من بعضنا البعض.

المفارقة التي كانت على مقربة من البشر أنَّه رغم دعوات العزل بين الجماعات والأنشطة وأنواع الاختلاط والاندماج، إلاَّ أننا ملأنا الحياة بمشاعر التقارب الروحي والاتصال النفسي الحميم واستحضار الإنسانية الغائبة. كم هرولت الشعوب الحية لإخراج أفضل ما تملك. فالإنسان يكشف عن أبعاده الثرية والمدهشة أوقات الأزمات. ليس من انسان إلاَّ وينتمي إلى آخر حتى وإن كان أقرب المقربين إليه وحتى لو كان أبعد الناس منه.

كانت تبدو أصوات الموت ناعقةً كالغربان على الطرقات وردهات المدن، لكن المنازل تشتعل بالآمال والحيوية وتتدثر بأغطية الحب والتعاطف. الغناء، الموسيقى، الأشعار، الأفكار، الحوارات الحميمة، العلاقات الإنسانية، تبادل عبارات الود والتراحم.. جميعها كانت أدوات مقاومة نافذة التأثير، تقهر سخافة الفيروس. كأنَّ البشر يسخرون بطريقتهم النوعية، يتلاعبون بزمن الوباء. والفيروس بالحقيقة يستحق تلك السخرية إلى مدى بعيد، وليس ذلك انحرافاً عن العلاج ولا عن الإجراءات الوقائية، لكن الأمر إحياء للروح الإنساني، واشعال الأمل في كل مكان. فالإنسان القادر على الإبداع بأشكاله لن ينال من وجوده أي فيروس. ففي هذا الحال سيتحول الإنسان إلى مادة قابلة للخلود، أصبح قوة رمزية لا ينال منها، أصبح ذاكرة حية للمستقبل.

جرى لاحقاً فيما نتذكر ترديد عبارة أنه " لم تعد الأرض كافية للجثث"... على خلفية أعداد ضحايا كورونا بإيطاليا واسبانيا وانجلترا تحديداً والتي بلغت الآلاف الضحايا بين مصابين وأموات. والعبارة تبلغ قسوتها لدرجة استحضار مقولة أبي العلاء المعري: " خفف الوطءَ ما أظنُ أديمَ الأرضِ إلاَّ من هذه الأجسادِ"... والمعنى لا يفوتنا حيت تلمح العبارة الأولى بصدد كورونا إلى حجم المأساة، وتشير إلى قدرة الفيروس على النيل من وجودنا المشترك. لكن مقولة المعري نوع من (العزاء الهادئ والواقعي) الذي يقدر الإنسان روحاً وجسداً. وهي استهوال ما يصير إليه الإنسان وسط الكوارث التي مر بها التاريخ. ونظرة أبعد باعتبار الأرض جسداً لا ينبغي الوطء علية بعنف كالدواب، لأننا في النهاية نحن نطأ اجساداً هي جزء من تكويننا الحي.

كورونا أخذ يدشن الأرض فعلاً من الأجساد المهترئة التي ألحق بها النهاية، وكشف حجم العدم الذي يترصد الإنسان... فالأرض التي كانت تتكدس بها الجثث (أرض أوروبا) هي أرض الأجساد المبتهجة. السعادة البيولوجية biological happiness إجمالاً جزء من تكوين حياة الشعوب الراهنة. قد تترجم في ممارسة الرياضة وارتداء الأزياء وأساليب الأناقة والحياة المنطلقة ومظاهر الصحة. وفي حينه لم يدرك أوروبي واحد أنَّ جسده الحيوي سيزاحم جسداً آخر على نهايته الفاجعة. ففي اسبانيا تكدست الجثث داخل مواقف السيارات وعمت رائحة الموت جميع الأماكن والحارات والشوارع، وتزاحمت مظاهر الإصابة من مدينة لأخرى متخطية حدود المئات يومياً.

الشيء نفسه حدث بإيطالياً التي كان الفيروس يمرحُ فيها جيئة وذهاباً كوحش كاسر، وقد اخفقت منظومتها الصحية في استيعاب اعداد المرضى ناهيك عن عدم استيعاب المحارق للجثث. ولف الحزن الشوارع الإيطالية إلاَّ من شرفات مضيئة تشرخ (أجواء الحداد الصامت) بالغناء وأصوات الموسيقى. وكانت تخرج الموسيقى فرحة، راقصة كالآمال التي تتسلل وسط أطلال الواقع.

ظل الأمل هو قدرتنا المناعية التي تخص الروح الإنساني ليس أكثر. وكان أخطر شيء- رغم الموت- أنَّ تتساقط حبات الأمل من بين أيدينا، إنَّ دأب الأطباء والعلماء والباحثين عن علاج الفيروس هو الأمل الذي كان يمشي على رجلين. كان هو بصيص الحياة الذي يحوطنا من أيِّ اتجاهٍ رغم خفوت المسير والمصير وضيق الطريق. فالأمل يفسح هذه الأشياء دون نهاية وإن كانت قريبة، وليس حتى البقاء بالمنزل إلاَّ أوقات الحظر تعبيراً أخيراً عن أمل فيما هو قادم. لم ولن يستطيع كرونا القضاء الإنسانية، التفاؤل دوماً يخرج من الأطلال ويندرج بين كياننا من فينة للأخرى. مظاهر التقدير والحداد المقاوم للإصابة والحزن البالغ لذروة حقيقتنا الإنسانية، تلك الحقيقة المؤكدة لقدرتنا على صناعة المستقبل.

لم يكن العلاج المادي هو المنتظر فقط وإن ظهر في اللقاحات العديدة، لكن الشيء الأهم هو تغيير وجه الحياة إجمالاً نحو الأفضل وأنَّ ابداع آفاق جديدة للتواصل والتحرر من (قذارة الاستعباد) هو المأمول. العلاج الطبي كان جزءاً بسيطاً ستأتي به العقول يوماً ما، حتى إن توقفت عليه حياتنا خلال لحظات حاسمة من تاريخ الإنسانية كالعلاجات التي انهت الاوبئة الشهيرة في أوروبا. أما الحياة بمعناها الإنساني، فكانت تحتاج -مع كورونا- إلى تجديد البديهيات والأولويات وتغيير الأسس واعادة بناء الإنسان، هي حياة يجب أنْ تكون آملة باستمرار في غد أجمل وأكثر انفتاحاً على الآخرين والأزمنة المختلفة. وأن تكون السياسات الاقتصادية وانظمة الاستبداد والتخلف في طريقها للانزواء مع فيروس كورونا. يجب أن يدفن كل ذلك الركام جنباً إلى جنب في مقبرة واحدة. هذه الأشياء هي الجثث العفنة كوليمة مباشرة للموت والفناء.

بعد هذا التاريخ القريب لكورونا، فقد كشف خريطة العدم الحقيقية في حياتنا. إنها خريطة هذه الأنظمة السياسية والقوى الاقتصادية الاحتكارية والممارسات اللاإنسانية التي تناشد الفيروس تخليص الأرض من نصف سكان الأرض.  ولذلك كان الأمل ابداعاً فعلياً لجميع مناحي الحياة التي سرقتها عولمة الموت في الحروب والصراعات والنعرات الطائفية والإقليمية. كورونا أخذ يتمدد على خطوط الرأسمالية الوقحة (وليست المتوحشة فقط) التي عممت الهوس الاستهلاكي وانتجت الفساد ولاهوت القتل والدمار. حتى أن كورونا بات مجرد سلعة مجانية لتخويف الشعوب وضمان التكالب على المستلزمات الطبية والوقائية، وضمان أنْ يكون العلاج (الدواء) عن طريقها أيضاً فظهر احتكار اللقاحات وتصدير البقايا للشعوب المقهورة.

أثبتت الجائحة أن الأمل في النهاية هو عودة الإنسان إلى واجهة الأولويات باختلاف حيواته، الإنسان هو الإنسان دون اقصاء أو تهميش بأي مكان من العالم. وصحيح الموت هو نهاية مادية وميتافيزيقية يستحيل التخلص منها أو حتى تجنبها، لكنها بمثابة النهاية الكاشفة لقدراتنا على الصمود والتفرد. بامكاننا اعتبارها نهاية لكشف معان الإنسانية داخلنا وكيف نتصرف في الأوقات الكارثية. الأمل في الحقيقة نوع من الواقع - ويجب أن يكون كذلك- لأنه وعدُ تمارسه الإنسانية في المنعطفات الحرجة. وهذا الأمل ليس ضعيفاً ولا بعيداً، لكنه قوة مهُولة قابلة للترجمة من حين لآخر. أمل تحركه الأديان والفلسفات وأنماط العيش والثقافات الثرية وحتى الحيوات البسيطة التي تفرز العلاقات الطبيعية بين البشر.

 

سامي عبد العال

 

 

في المثقف اليوم