تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

درصاف بندحر: انتبه إلى من يُحدثك: تألم وتعلم!

درصاف بندحرعندما نصف شخصيتنا الاجتماعية فنحن نَصف الذات التي يقدمها الواحد منا للآخرين. ونكون هنا بصدد الحديث عن ذات خارج ذاتنا.. عن "شيء" خارجنا، عن صورتنا في أعين الآخرين.

أما ذاتنا الحقيقية، الحية بداخلنا فهي ليست صورة نصفها كما نَصف الأشياء. ذاتنا الداخلية الحقيقية عصية عن كل وصف.

يقال في الواحد منا الكثير ونوصف بالكثير.. يتحدث الناس عن شخصيتنا، عن أقوالنا عن أفعالنا عن مواقفنا.. الناس لا يرون إلا الصورة الخارجية فيقيّمون ويُصدرون أحكامهم دون أن يستطيعوا الولوج إلى الحقيقة، إلى الذات الداخلية.. قلة هم من يفعلون.. قلة ممن حولك من بمقدورهم الاقتراب منك.. من ذاتك الحقة.

إنني كذات لا يمكن لأي كان أن يجتاز الحاجز الذي يفصله عني إلا من خلال ارتباطه ارتباطا حيا بي..

في هذا يقول الفيلسوف الروسي فيدور دستيوفسكي Fyodor Dostoevsky (1821 - 1881) وهو واحدٌ من أشهر الكُتاب حول العالم والذي تنطوي رواياته على فهم عميق للنفس البشرية، يقول:" قد يكون في أعماق المرء ما لا يمكن نبشه بالثرثرة، إياك أن تعتقد إنك تفهمني بمجرد أنني تحدثت إليك".

هناك من يتحدث إليك مجرد الحديث لغاية الحديث ولكن هناك من يتحدث إليك فيكون في حضرتك حاضرا، حيا، نشيطا.. يتبادل معك الكلام مستعملا طاقته الإنسانية استخداما مثمرا.. عندما تتبادل الحديث مع البعض تلاحظ جليا هذه الطاقة وهذا الحضور المميز.. ولكنك قد تلاحظ عند البعض الآخر العكس.. تتحدث إلى الواحد منهم بكل طاقتك واهتمامك ومبالاتك ويبادلك الحديث دون إبداء أي تجاوب أو اهتمام بما يشغلك أو يقلقك أو يسعدك.. يتحدث إليك وهو لايفكر إلا في دعم حضوره واستعراض ما حققه من نجاحات في ماضي حياته.. يتشدق بمواهبه، ويجهد نفسه في أن يُظهر لك كم يساوي.. هذا النوع من الناس الذين نتحدث إليهم ويتحدثون إلينا لهم قدرة واضحة على التأثير في الناس ويرجع ذلك إلى امتلاكهم لمواهب فائقة على برمجة حسن آدائهم وهم يتحدثون إليك وإلى غيرك. وهم يؤثًّرون بصفة خاصة على أولئك الذين ليس لهم القدرة الكافية على الحكم عليهم حكما سليما. أن تحكم حكما سليما على محدثك الذي لا يهدف في حديثه معك سوى إلى تلميع صورته هو أن تكون لديك القدرة على معاينة الفرق بين حديثك معه وبين حديثك مع نوع آخر من المتحدثين. نوع آخر يتحدث إليك تاركا على حدة كل ما يملك من معارف ومراكز، يتحدث إليك دون أن تقف ذاته عائقا بينك وبينه فيكون حديثكما صادقا عفويا.. يتجاوب مع أفكارك فتتولد عن الحديث أفكار جديدة. هذا النوع من الناس يتحدث إليك وهو ينطلق، معك، نحو أفاق رحبة بعيدا عن كل تمركز حول الذات.. التمركز حول الذات يجعل الفرد منشغلا كليا ومنكبا على عالمه الخاص الداخلي مما يجعله غير قادر على إدراك الآخر لا فكرا ولا إحساسا بشكل لا يُتيح له أن يدرك أن الحقيقة قد تكون مختلفة.. ويحدث أن يكون اهتمام هذا المتحدث مسلطا فقط على جزء من حديثك معه، الجزء الذي يهمه، الجزء الذي يخدم مصلحته فلا يعير انتباها إلى كافة حديثك بل فقط ينصب هذا الاهتمام على الجزء الذي يمكن أن يضيف إلى مكاسبه، مكسبا، عاجلا أو آجلا.. ونحن ننتبه إلى من يتحدثون إلينا ونتحدث إليهم نخلُص إلى أنهم ينقسمون إلى صنفين: صنف يتشبث بما يملك من أفكار ولا يتجاوب مع ما لديك من أفكار فيكون متخشبا متكلفا فلا يخلف حديثه فيك إلا الأثر السيئ.. وصنف آخر يكون وهو يتحدث إليك متجاوبا مع ذاتك تجاوبا حقيقيا.. أما عن ذاته فيطلق سراحها لتتجاوب هي الأخرى معك فيكون حديثه إليك، تلقائيا لا استعراض فيه. إن تفريقنا لهذين الأسلوبين في الحديث ونحن نتبادله مع الآخر هو تفريق بين من يتحدث معك وفقا لأسلوب الاستهلاك.. حديثا من قبل الحوارات المفتوحة التي لا تقدم لك أي إضافة، ذلك أنه في هذه الحوارات المفتوحة على اللاشيء لا فائدة ترجى ولا مصلحة تتحقق.. حديث يمضي معه الوقت سدى. ينتهي الحديث مع هذا الصنف من المحدثين فتشعر بالإحباط وتندم على حديث أضعت فيه الوقت ومن وراه جزءا من العمر.. هو تفريق بين من ذكرنا وبين من يحدثك وتكون كينونته حاضرة، إيجابية، فاعلة، منفتحة على ما تقوله أنت وما تعبر عنه بصدق فيجيبك بما هو أصدق وأعمق.. هذا الحديث تجد نفسك فيه، تجدها تنمو وتتدفق لتتجاوز مع محدثك سجن الذات المعزولة إلى حوار فيه من السؤال، من الإنصات من العطاء ما يغنيك عن كل الأحاديث التافهة، السطحية، الجافة. هذان حديثان أو لنقل نمطان من الحديث، حديث فيه نشاط داخلي إيجابي.. فيه ارتياح ونشوة متبادلة، فيه إحساس لا يمكن وصفه بالكلمات. أما الحديث الثاني فلا ينطوي إلا على التجاهل لوجودك وبالتالي الخنق والإهلاك لذاتك حيث تكون أنت موجودا ولكنك كمجرد وسيلة.. كمجرد شيء وكأنك في وضع من يتحدث بمفرده.. أن يستمع إليك محدثك بكل كينونته* وأن تستمع إليه بكل كينونتك، أن تتجاذبا الحديث في إطار هذا النمط هو أن ينبذ كل واحد منكما أنانيته وحبه لذاته، هو أن تجعلا نفسيكما خاليين من كل ما تحملون ما عدى حمولة الإنصات والرد على من هو أمامكـ، تحدثه بكل مبالاتك فيجيبك بمثل ما حدثته به. قد لا يكون الحديث النشط الفاعل لمحدثك دليلا قطعيا على المحبة ولكنه من العلامات الدالة عليها.. ألاّ أحدثك بكامل كينونتي وألا تفعل في بعض الأحيان قد يكون مرده الانشغال أو الإرهاق.. لكن أن تكون القاعدة هي أنه في كل المرات التي تتبادل فيها الحديث مع محدثك لا يتعاطى فيها معك إلا من أجل أن يدعم حضوره ويستعرض نفسه فهذا دليل على السلبية.. على الشلل، على عدم التكافؤ بين منزلته لديك ومنزلتك عنده. تأملوا جيدا وجه من لا يحدثكم بكينونته وأنصتوا جيدا إلى نبرة صوته فلن تروا جمالا ولن تنصتوا إلى موسيقى، لن يصلكم إلا القبح. الجمال لا يعكسه إلا من كان نشطا حيا متفاعلا.. ولا نعني بالجمال هنا جمال الخلقة بل ما نعنيه هو جمال الروح.. الجمال الذي لا يرى بالعين بل جمال يصل من القلب إلى القلب. وبمناسبة ذكر القلب، تحر قلبك جيدا وأنت تستمع إلى حديث من يحدثك فهو دليلك الذي سيخبرك أنك لم تُخدع ولكنك تَخدع نفسك بمواصلة الحديث مع من لا يقيم لكينونتك اعتبارا، من يريد أن يمتلكك ليضعك في قفص بجوار أقفاص أخرى لعصافير قد تشبهك وقد لا تشبهك ولكن محدثك يتملكها. عندما تنصت إلى نفسك ستجد الدليل بل الأدلة في إشارات كثيرة تلقيتها ولم تشأ أن تتوقف عندها.. إشارات في زلات اللسان.. في تعابير ظاهرها هزل ولكن في باطنها نظر وتحقيق، في إيحاءات تكون غايتها إحراجك.. عندئذ ستصل إلى الفكرة، فكرة أنك كنت تهرب من مواجهة الحقيقة، حقيقة محدثك. حينها فقط ستراه بعين جديدة وستجد أن هذا الجديد كان منذ البداية ماثلا أمامك ولكنك كنت تقاوم تصديقه.. لم تكن تريد أن تصدق ما يصلك من لامبالاة وسطحية لأنك كنت تهرب من ألم مواجهة الحقيقة. من المُؤكَّد أن خيبتك تكون شديدة حين تجد أن ذاتا كلما تحدثت إليها تحدثت بكل كينونتك ولكنها اختارت، جبنا أو غرورا، أن تتحدث إليك بكل سطحية.

وفي هذا السياق، ولأنه لا شيء يحدث دون علة، يذهب إيريك فروم Eric Fromm(1900-1980) عالم النفس والفيلسوف الألماني إلى أبعد من السطحية في كتابه "الإنسان بين الجوهر والمظهر" وذلك في معرض حديثه عن مجموعة من الأنشطة اليومية التي تمارس بدون انفتاح وبدون مشاركة وبأسلوب التمركز حول الذات، يُرجع فروم هذا المنهج في التعاطي إلى كون هؤلاء " يستندون إلى ما يملكون.. يخنقون أنفسهم بالتوتر والقلق بشأن ما يملكون وتكون عملية التخاطب معهم بمثابة تبادل لسلع المعلومات والمعارف والمراكز.. " ربما هم يخشون، إن تشاركوا الحديث مع الناس بكامل كينونتهم أن خسارة ما يملكون.. صحيح أنه لا يحق لأحد أن يلزم أحدا بأن يتحدث إليه بكامل كينونته وأن يبادله الاهتمام باهتمام ولكن من حق نفسك عليك أن تتوقف عن التواصل مع من لا يريد من حديثه معك سوى أن يسوق ذاته، من يطفو على السطح ولا يجازف بالغوص في عمق الفكرة، توقف عن التواصل بكامل كينونتك مع من لا يتواصل معك بكينونته، من لا يبادلك الاهتمام باهتمام**.. كن شجاعا ولا تخَفْ من فِعل الألم فيكَ.. اخترق الظاهر.. ابحث عن الحقيقة.. جدها.. ولا بأس إن تألمت لأنك لم تستمرئ هذه الحقيقة.. فإن لم تتألم فأنت لن تتعلم.. تعلم دون أن تنسى، في سياق حديثنا عن الحديث، أن الإنسان حديث من بعده، وعلى الأرجح حديثان.

 

درصاف بندحر

.........................

الهوامش

* تعرف الفلسفة الحديثة الكَيْنُونَة بما هي الحياة، الوجود. تجد الكينونة تعبيرا لها في مختلف نواحي الحياة: التكلم، التفكير، الشعور..

* يقول هايدقر (1889 -1976): العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مجرد علاقة بين موجودين كائنين في المكان أو مجرد صلة بين ذات وموضوع وإنما هي علاقة وجودية قِوامها الشعور بالاهتمام.

المراجع:

""الفلسفة، الهوية والذات" مارتن هايدجر، ترجمة الدكتور محمد مزيان

 

 

في المثقف اليوم