قضايا

محمود محمد علي: الفرنكوفونية وأزمة عولمة الثقافة الفرنسية (1)

محمود محمد عليلا شك في أن التحديات التي تواجهها دول الوطن العربي في وقتنا الحالي خطيرة في غاياتها وأهدافها، متعددة في أشكالها وجوانبها، فهي تستهدف الكيان العربي سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، ففي الجانب الثقافي الذي هو محور هذا المقال تكشفت في السنوات الأخيرة الهجمة التي يقودها الغرب من خلال الغزو الثقافي الهادف إلى مسخ الثقافة العربية الإسلامية، وترسيخ القيم الغربية تحت شعارات شتي، ولعل من أبرزها ما يطلق عليه حديثا بــــ" عولمة الثقافة" .

وفي هذا الإطار تنامي نشاط الفرانكوفونية، وأصبح صداه يتردد في مختلف وسائل الإعلام وبين أوساط المثقفين العرب، وستنتاول هنا في هذا المقال ماهية السياسة الفرانكوفونية وأهدافها وتطورها وأساليب عملها ومستقبلها.

يعد مصطلح الفرنكوفونية le Francophone  مصطلحا معاصرا، إذ أطلق هذا اللفظ من قبل الجغرافي الفرنسي " أونسيم ريكلوس Reclus Onesime (1837-1917م) والذي أعطاها الصيغة اللغوية حسب الجغرافيا التي تنتشر فيها اللغة الفرنسية (ولا سيما فرنسا، وشمال أفريقيا)، إذ وصفها في كتاباته بأنها " فكرة إنسانية وعلاقة جغرافية"، والفرنكوفونية مفردة مكونة من مقطعين (فرانكو) ومشتقة من فرنسا (وفوني) من صوت، وفي المعنى الدلالي، تعرف الموسوعة الاجتماعية والاقتصادية الفرانكوفونية بأنها مجموعة أنصار اللغة التي تمثل تياراً ثقافياً نودي به في أعقاب استقلال البلاد التي كانت خاضعة للسيادة الفرنسية بقصد الإبقاء على الصلات الثقافية المشتركة المتمثلة في معرفة اللغة الفرنسية وثقافتها، وتطور الأمر في إنشاء حركة، أو منظمة فرانكوفونية، وتشكيل أمانة عامة لها ومستويات مختلفة من القمة الفرانكوفونية والتوسع في توثيق الصلات العسكرية والسياسية والاقتصادية بين دول الأعضاء وفرنسا " ألأم" (1).

في حين يري بعض الباحثين العرب بأن حقيقة الفرانكوفونية هي :" أيديولوجيا تعيد إنتاج علاقات التبعية، مستثمرة الموروث اللغوي الاستعماري الأغراض سياسية واقتصادية (2) ؛ في حين يري باحثون بأن هذا المصطلح " لا يركز على الجانب المادي كما هو الحال في الاحتلال البريطاني، بل يسعى أساساً إلى الهجوم على الجانبين الفكري والثقافي (3).

ونظرا للمحيط العلمي البحت الذي وُضع مصطلح "الفرانكوفونية" في إطاره، فإن هذا المصطلح لم يُكتب له السريان والشيوع لا في المحيط العلمي والثقافي اللذين نشأ فيهما، ولا في مجالات علمية أو معرفية أخري، وعليه فإن الفرانكوفونية سرعان ما تحولت إلى حركة فكرية ذات بُعد أيديوولوجي، تهدف إلى تخليد قيم فرنسا الأم في كل مستعمراتها التي خرجت منها عسكريا، وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية بوصفها ثقافة مشتركة بين الدول الناطقة بها كليا أو جزئيا، وكان المنبر الفكري الذي صدح عليه أولئك السياسيون وأمثالهم، وروجوا للفكر الفرانكوفوني من خلاله مجلة " روح" Esprit، خصثوصا في عددها الخاص المعنون " اللغة الفرنسية لغة حية Le Francais langue vivante، إذ أشاد فيه " سنغور" وأمثاله باللغة الفرنسية بوصفها لغة الفكر والحضارة الحقة، ودعوا إلى ضرورة تعميمها العولمي في جميع مجالات الفكر والثقافة، خصوصا في المستعمرات الفرنسية والشعوب التي ما زالت في سبيل النهوض الحضاري (4).

كما قدم المفكر المصري " محمد سيد أحمد " تعريفا آخر للفرانكوفونية واصفا إياها :" .. إنها مجموعة بلدان يعتبر سكانها اللغة الفرنسية هي لغتهم العادية، وفي بعض الحوال لغتهم الرسمية، والفرنكوفونية هي قبل كل شئ حقيقة لغوية، غير أنها أيضا حقيقة اجتماعية، وهي مفهوم سياسي وجغرافي حديث النشأة (5).

وهكذا يبدو للمتبع أن الفرانكوفونية لم تقف عند حد توثيق الروابط الثقافية بين الدول المنضوية تحت مظلتها، كما كانت الحال في بداية نشأتها، فقد أُضيفت إلى البعد الثقافي أبعاداً سياسية واقتصادية، وتكرست تلك التوجهات بشكل أكبر تأثيرا، منذ مطلع التسعينات من القرن الماضي، وخاصة بعد بروز الولايات المتحدة الأمريكية كقكب أوحد في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي السابق مع نهاية عقد الثمانينات من ذلك القرن (6).

وثمة نقطة أخرى جديرة بالإشارة، نود أن نشير إليها، ألا وهي أن مفهوم الفرانكوفونية قد أثار في أغلب البلدان العربية، جدلا محتدما بين فريقين : أحدهما ناقد ورافض لها، وآخر مؤيد ومناصر، وهو في الوقت نفسه، هو يثير إشكالا يحمل في طياته مفاهيم متعددة، ففي الوقت الذي يُنظر إليه كصيغة استعمارية جديدة لدي الطائفة الأولى، ولا سيما في بلدان المغرب العربي، الذي عاني من الاستعمار الفرنسي أكثر من غيره، في حين ترى الطائفة الأخرى بأنها تمثل إشعاعا ثقافيا وتواصلا حضاريا مع بلدان ناطقة بالفرنسية، وأنها جدار الصد لمقاومة العولمة والقطبية الأحادية وجميع أشكال التنميط الثقافي والإعلامي والهيمنة الأنكلوفونية (7).

كما يمكن تمييز قسمين أساسيين من الفرانكوفونية، القسم الأول، يُدعي بـ" الفرانكوفونية الداخلية"، والتي تجمع مختلف النشاطات والأعمال المتعلقة بنشر واستخدام وإثراء اللغة الفرنسية وتتكفل بها المفوضية العامة للغة الفرنسية واللغات الفرنسية التابعة لوزارة الثقافة والاتصال، وهي النشاطات الت تمارس داخل فرنسا، حيث تمعل على تحسين الرأي العام بمكانة اللغة الفرنسية وترقية وسائل نشر أفكار الكتاب الفرانكوفونيين وبالخصوص رفع الحواجز بسبب نشر كتاباتهم والسهر على تعليم اللغة الفرنسية . أما النوع الثاني " الفرانكوفونية الخارجية"، والتي تُعني بترقية الإشعاع الفرانكوفوني في العالم، والجزء الكبير من هذه الأخيرة يرتبط بالتعاون مع المنظمات الدولية ذات الطبيعة والوجهة الفرانكوفونية، والتي تتكفل بها وزارة الشؤون الأوربية من خلال أمانة الدول المكلفة بالتعاون والفرانكوفونية التي تقوم بتسييرها مديرية عامة للتعاون الدولي والتنمية ومصلحة الشؤون الفرانكوفونية (8).

والسؤال الآن : ما هي بدايات ظهور فكرة الفرانكوفونية وتطور مؤسساتها؟

يستند الفكر الفرانكوفوني إلي تاريخ طويل، ولعل الأدباء الفرنسيون – في العصر الاستعماري خير من ترجموا هذه النزعة بجلاء، وافصحوا عنه بلا مواربة، ومن أولئك الكاتب الفرنسي "رولاند ليبل Roland Lebel واضع أهم مجموعة من المختارات الأدبية الإفريقية المكتوبة بالفرنسية بعنوان ( إفريقيا الغربية في الأدب الفرنسي منذ    1870م)، وكان ذلك عام 1825م، وصرح أن الهدف من هذه المجموعة هو خدمة الأهداف الاستعمارية، قال :" سوف تتضمن قيمة اثنوغرافية (عرقية)، وتترجم عن نفسيات الأجناس في المجال الاستعماري، وحب الاستطلاع الطبيعي ذاك، يكتسب أهمية محددة، ألا وهي : التعبير عن حاجة المعرفة المعمقة عن الأرض وعن ساكنيها، وهي معرفة ملزمة لهيمنتنا (9).

وقبل ذلك صرح الفيلسوف التنويري " فولتير" (1700-1788م) أن الفرنسية قد وصلت نقطة الاكتمال والاصطفاء علي أيدي كبار أدبائها، أمثال : موليير، وراسين، وأنها غير قابلة – بعد هذه المرحلة –لأي زيادة أو نقصان، بل زعم " ريفازول" بقوله عن الفرنسية ونقائها :" إن كل ما ليس واضحا فليس بفرنسية " (10).. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط 

...........................

هومش المقال

1-وليد قاصد الزيدي: الفرانكوفونية دراسة في المصطلح والمفهوم والتطور التأريخي، العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، النجف، العراق، 2020، ص 15.

2-عبد الإله بلقريز : الفرنكوفونية أيديولوجيا سياسات تحد ثقافي- لغوي، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية / 2011/ ص 66.

3- عبد الله ركيبي : الفرانكوفونية مشرقا ومغربا، الجزائر، دار الكتاب العربي، 2009، ص 18.

4-علي يعقوب : الفرنكوفونية وتحدياتها للغة العربية في بلاد غرب إفريقيا، الجامعة الإسلامية بالنيجر، العدد الثامن عشر / شوال / ذو الحجة 1434 ه، أكتوبر – ديسمبر 2013، ص 73.

5-محمد سيد أحمد : مؤتمر للفرانكوفونية في لبنان، مجلة الأهرام العربي، القاهرة، العدد 225، يوليو / تموز 2001، ص 78.

6- وليد قاصد الزيدي: المرجع نفسه، ص 18.

7-المرجع نفسه، ص 19.

8-المرجع نفسه، ص 28.

9- علي يعقوب : المرجع نفسه، ص 74.

10- المرجع نفسه، والصفحة نفسه.

 

في المثقف اليوم