قضايا

محمود محمد علي: "ميتافيرس" ونظرية البعد الثالث للإنترنت (2)

محمود محمد عليذكرنا في المقال السابق كيف أشار مصطلح "ميتافيرس" إلى عالم ما وراء الإنترنت، كما نعرفه اليوم، حيث سيستخدم الأشخاص أجهزة الواقع الافتراضي والواقع المعزز، بدلا من أجهزة الكمبيوتر المحمولة والهواتف، للدخول إلى مساحات افتراضية، ولهذا رأينا مارك زوكربرج يسعي من خلال "الميتافيرس" إلى إنشاء عالم افتراضي، يسد الفجوة بين العالمين الواقعي والرقمي، لينشأ بذلك عالم ثالث افتراضي، يستطيع فيه الأفراد إنشاء حياة افتراضية لهم عبر مساحات مختلفة من الإنترنت، بحيث تسمح لهم بالتلاقي والعمل والتعليم والترفيه بداخله، مع توفير تجربة تسمح لهم ليس فقط بالمشاهدة عن بُعد عبر الأجهزة الذكية كما يحدث حاليا، ولكن بالدخول إلى هذا العالم في شكل ثلاثى الأبعاد عبر تقنيات الواقع الافتراضي (11).

فمن خلال استخدام نظارات الواقع الافتراضي والواقع المُعزز وارتداء السترات والقفازات المُزودة بأجهزة استشعار، يستطيع المُستخدم أن يعيش تجربة شبه حقيقية، تعمل فيها هذه التقنيات الذكية كوسيط بين المُستخدمين فى عالم "الميتافيرس"، لإيصال الشعور بالإحساس المادي، فيستطيع أن يرى المُستخدم الأشياء من حوله بصورة ثلاثية الأبعاد عبر النظارة، كما يمكن أن يشعر فيها بالمؤثرات الجسدية الحسية، كإحساس السقوط فى المياه أو اللكمة فى الوجه أو غيرها، من خلال المستشعرات الموجودة فى السترات والقفزات التى يرتديها، فيحصل على تجربة أشبه بالواقعية حتى وإن كانت غير مباشرة (12).

والسؤال الآن : كيف تكون الحياة في العالم الافتراضي "الميتافيرس"؟

والإجابة كما يري مارك تكون من خلال تحويل الإنترنت إلى مجتمع يحيط بك بواسطة خاصية ثلاثية الأبعاد، ومن ثم يدخل المستخدم إلى هذا العالم ليجد نفسه داخل مجموعة من العوالم الافتراضية المترابطة التي لا نهاية لها، كما يمكنه الالتقاء بعدد كبير من الناس والتعامل معهم، ولا يقتصر المجتمع الافتراضي على المعاملات الاجتماعية فقط، يمكنك اللعب والعمل وعقد اجتماعات العمل بشكل افتراضي، وتدريجيًا ستتأثر جميع أنشطة الانسان التي يمارسها مستخدم الإنترنت داخل العالم الافتراضي من خلال نظارة وسماعة ، حيث يقول :    أضعُ نظارة الواقع الافتراضي (أوكيولوس 2) وأمسك وحدات التحكم، وخلال ثوان انتقل من غرفتي في لندن، إلى عالم آخر.. أدخلُ عالما رقميا تبدو فيه الأشياء مشابهة لأشكالها الحقيقيّة التي أعرفها. أمسك أشياء حولي فأشعر بها وكأنها حقيقية بفضل تقنية المحاكاة اللمسية الـ"هابتيك - Haptic"..ثم أصمم الـ"أفاتار" الخاص بي؛ أختار شعرا وثيابا تحاكي شكلي وأسلوبي في الحقيقة، لأدخل عالم "في أر تشات - VRchat" وأجد نفسي في غرفتي الرقمية التي صممتها بنفسي أيضا.. قد يتطلب الأمر وقتا للتعوّد على هذا العالم الجديد بسبب رؤية جسد غير جسدك الحقيقي يتجوّل في مكان يختلف عن المكان الذي توجد فيه فعليا.. شخصيا، أصبتُ بالدوار لدى دخولي هذا العالم للمرة الأولى ، آخرون ربما يشعرون بالضيق أيضا، ولكن بعد مرور بعض الوقت في هذا العالم، ستبدأ بالتكيّف وتتعود على الحركة فيه. وسيزداد انغماسك فيه تدريجيا فتمضي وقتا أطول داخله (13).

بيد أن استخدام تقنية الميتافيرس ليس أمرًا سهلا، لاسيما الدول النامية التي تتأثر فيها المجتمعات بتقنية الصورة، والتي تجعل الانسان جزءًا من الحياة الافتراضية؛ استخدام تقنية الميتافيرس ليس أمرًا سهلا، لاسيما الدول النامية التي تتأثر فيها المجتمعات بتقنية الصورة، والتي تجعل الانسان جزءًا من الحياة الافتراضية، وأما عن إذا كان المستخدم سيصبح جزء من العالم الافتراضي أم لا، يتنبأ خبير الاتصالات والمعلومات أنه في المستقبل القريب إذا تم توفير سماعة الرأس مع انترنت سريع ستتغير التقنية في تعاملها مع المستخدم ليتحول من مستخدم إلى جزء لا يتجزأ من هذه الحياة داخل الميتافيرس (14).

وقد أشار البعض إلى أن "ميتافيرس" هو مفهوم إما غير واقعي وإما خيالي تماماً، فإذا كان بإمكان المُستخدم إنشاء عالمه الخاص داخل «الميتافيرس»، وهو عالم خال من المشكلات أو الهموم، وعالم يحقق فيه طموحاته الشخصية، ويبنى فيه منزله ومدينته المثالية، ويتعرف فيه على أصدقاء مشابهين له، ويستبعد منه من لا يروق له؛ فهو بذلك يبتعد كل البعد عن عمران الأرض وبناء الحياة الإنسانية. فقد تتحول حياة المُستخدم الحقيقية شيئا فشيئا إلى كابوس من دون أن يدرى، فلا يهتم بشكل منزله الحقيقي، ولا بشكل مدينته الحقيقة، ولا يسعى إلى تعمير الأرض التي يسكن فيها، ويكتفى ببناء جنة خيالية فى عالم افتراضي، يعيش فيها طيلة اليوم ولا يتركها إلا عند النوم، فلا هو يعيش حياته الحقيقية ليلا ولا نهارا، ولا يعلم شيئا عن واقعه؛ فكل ما يهم حينها هو العالم الافتراضى الذى بناه وحقق فيه أحلامه التى اكتفى ببنائها فى عالم "الميتافيرس" (15).

وقد يروق هذا الوضع للبعض، الذين اصطدموا بمشاكل الحياة، واكتأبوا منها، وقرروا الانتحار، فيكون عالم "الميتافيرس" ملجأ لهم من الواقع وبديلا جيدا للانتحار. لكن كيف سيكتمل العمران البشرى حينما يغيب الناس عن مواجهة حقيقتهم ومصيرهم، وأن يسعوا بجد إلى تغيير وضعهم إلى الأفضل دائما، وألا يستسلموا بالذهاب إلى عام افتراضي يسهل تحقيق الإنجاز فيه. فمن سيقوم بمهمة تربية الأجيال القادمة حينما ينشغل الجيل الحالي عن حقيقته بالواقع الافتراضي، وكيف يتحقق العمران الذى يتطلب التدافع البشرى وتعمير الأرض، وليس تعمير مساحات افتراضية غير واقعية؟ (16).

لكن تلك الحياة ستكون افتراضية بصورة كلية للأجيال القادمة، وهذا ما يخطط له مارك زوكربيرج، المؤسس والرئيس التنفيذي لموقع فيس بوك، أو كما سماه مؤخرًا "ميتا"، وهو تغير مهم على مسار مشروعه "الميتافيرس" أو "العالم الماورائي" والذي من شأنه تغيير مستقبل البشرية؛ كما يزعم زوكربيرج؛ فبدلاً من أن تكون التفاعلات البشرية واقعية ومحسوسة عبر التلاقي المادي أو تكون غير مادية وغير محسوسة عبر التلاقي الرقمي من خلال شاشات الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، سوف يكون هناك طريق ثالث يسد الفجوة بين هذين العالمين (الواقعي والرقمي)، ليظهر عالم ثالث افتراضي يأخذ من الواقع شيئاً، ومن الإنترنت والتقنيات الذكية أشياءً وخصائص أخرى.

وبهذه الطريقة، سيمكنك التواجد مثلا فى اجتماع بدبى، وحضور مباراة كرة قدم من الملعب في لندن، ولعب "دور" شطرنج مع صديق فى أمريكا، وجها لوجه، وهكذا!.. حتى الثورات والمظاهرات ستصبح افتراضية، يمكنك المشاركة فيها من منزلك، دون أن يقبض عليك!.. ولكن الثورة الحقيقية ستكون في التسوق الإلكتروني، حيث سيمكنك الوجود أمام أرفف المتجر الذى تريد الشراء منه، لتشاهد السلعة بنفسك، بل وتجربها أيضا، قبل شرائها، كل ما ستحتاجه فقط هو "نظارة" معينة تتيح لك دخول هذا العالم الافتراضى والانعزال بداخله عن العالم الحقيقي، يعنى "أبشروا"، فأولياء الأمور الذين يصرخون في أبنائهم ليتركوا الموبايل لدقائق لأداء الصلاة أو لعمل الواجب المدرسي، لن يجدوا أبناءهم أصلا، لأنهم سيكونون فى عالم آخر تماما، هذا إذا افترضنا أن الأب أو الأم نفسيهما سيكونان "فاضيين"!..إذن، نتحدث هنا عن انهيار أسرى واجتماعي بامتياز، و"توحد" من نوع آخر جديد تماما!.. كل هذا فى كفة، والمخاوف الأمنية فى كفة أخرى، فلا أحد يستطيع تصور خطورة ما يعنيه تواجد شخص فى مكان ليس فيه، أو وجوده فى مكان لا يجوز له الوجود فيه.. لن تكون هناك أسرار في أي مكان. لن تكون هناك غرف مغلقة، لا غرف اجتماعات، ولا حتى غرف نوم. كل تفاصيل الحياة في أي مكان ستكون متاحة للجميع. الجواسيس ستصبح مهمتهم أسهل وأمتع. مهن ستنقرض تماما. أشكال الأشياء والأماكن ستختلف (17).

وهنا نتساءل كيف ستغير تقنية الميتافيرس من شكل الأعمال في المستقبل؟

وهنا يجيبنا قال العالم المصري، حاتم زغلول، فيقول : ستسارع الدول إلى الاعتماد على تقنيات الجيل الخامس خلال الفترة المقبلة لتتمكن من مواكبة تقنيات الميتفافيرس أو الواقع الافتراضي، مثلما ساهمت تقنيات الجيل الرابع في ازدهار صناعة الفيديو عبر الإنترنت، وساهمت الجيل الثالث في انتشار التواصل الاجتماعي، ستسهم أيضا تقنيات الجيل الخامس في انتشار تقنية الواقع الافتراضي ميتافيرس.. سنجد خلال الفترة القادمة سعي الحكومات إلى طرح تقنيات الجيل الخامس، وتحسين البنية التحتية التكنولوجية لتتواكب مع تكنولوجيا المستقبل، وهذا يعني توجه جزء كبير من الأعمال إلى بيزنس البنية التحتية وتقنيات الجيل الخامس.. كذلك سنجد ازدهار في صناعة التطبيقات المتعلقة بالواقع الافتراضي التي تلبي احتياجات المستخدمين المستقبلية، ولمصر فرصة قوية في هذا الشق وخاصة أن العقول المصرية متميزة جدا في صناعة البرمجيات، ويمكننا العمل على إنشاء تطبيقات تتناسب مع تقنيات الواقع الافتراضي ولكن بشكل يتناسب مع قدرات الدول النامية.. كذلك ستنتعش صناعة الهاردوير الخاصة بتقنيات ثلاثية الأبعاد مثل النظارات، لتلبي احتياجات مقدمي الخدمات بما يتناسب مع مستخدمي نظارات الواقع الافتراضي، ونتوقع ضخ استثمارات ضخ من جانب الشركات في هذا النوع من الصناعة (18).

وفى النهاية، يبقى القول إن شركة فيس بوك قد حاولت سابقا طرح مفاهيم وتقنيات جديدة، مثل عملة «ليبرا"، ومشروعات الذكاء الاصطناعي التي لم تر النور، والتي فشل بعضها وتم إغلاقه بالفعل، ويعتبر مشروع "الميتافيرس" أحد المشروعات الواعدة أيضا؛ لكنها ما زالت قيد الاختبار مثل غيرها من المشروعات التي لم تتحقق. وحتى وإن اكتمل مشروع "الميتافيرس" خلال 5 سنوات من الآن كما تسعى فيس بوك، فإن هذا التطور سوف تقابله مقاومة من التيار الإنساني التقليدي، الذى يرفض هذه السرعة المُبالغ فيها فى التطور، ويثمن الحياة التقليدية فى كثير من جوانبها (19).

 

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........................

هوامش المقال

11- إيهاب خليفة: «ميتافيرس».. عالم ثالث افتراضي قد يتحول إلى كابوس، المرجع نفسه.

12- المرجع نفسه.

13-  حسام فازولا: الواقع الافتراضي: أين تذهب هذا المساء في الميتافيرس؟، بي بي سي عربي نيوز، 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021.

14- همسة هشام : المرجع نفسه.

15- المرجع نفسه.

16- هاني عسل: "مبتافيرس"، الأهرام المصرية، الأربعاء 27 من ربيع الأول 1443 هــ 3 نوفمبر 2021 السنة 146 العدد 49275.

17- المرجع نفسه.

18- علاء حجاج: عالِم مصري: الميتافيرس هو المستقبل ويجب أن نسارع لتكون لنا الريادة في صناعة تطبيقاته (حوار)، مصراوي ، نشر السبت 13 نوفمبر 2021.

19- همسة هشام : المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم