قضايا

ليلى الدسوقى: اللغة العربية فى مأزق

ليلى الدسوقياللغة العربية لغة الضاد وسبب تسميتها بلغة الضاد لأنّها اللغة الوحيدة التي تحتوي على حرف الضاد (إِنَّ الَّـذي مَلَأَ اللّـغاتِ مَحـاسِناً .. جَعَلَ الجَمالَ وَسَرَّهُ في الضّادِ) الشاعر أحمد شوقى

و قال الشاعر الإماراتي حمد بن خليفة أبو شهاب أيضا عن لغة الضاد

لغة القــــرآن يا شمس الهدى   صانك الرحمن من كيد العدى

هل على وجه الثرى من لغة   أحدثت في مسمع الدهر صدى

استمدت أهميتها من القرآن الكريم الذى نزل على سيدنا محمد ﷺ فهى لغة عبادة لذا استطاعت ان تبتلع اللغات المحلية التى كانت تتكلم بها شعوب كثيرة

و التسامح فى الاسلام اوجد رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية ويتمثل ذلك المبدأ فى الاثر النبوى الشريف الذى رواه المؤرخ الشهير ابن عساكر (ليست العربية من احدكم بابيه ولا بامه وانما العربية لسان فمن تكلم العربية فهو عربى)

واصبحت اللغة العربية لغة العلم والحضارة لمدة تزيد على ثمانية قرون من عمر الزمان عندما كانت الامة قوية فقويت معها لغتها واقبل علماء اوربا على تعلمها وترجمة تراثها العلمى الى اللاتينية فيما يعرف بعصر الاستعراب الاوربى 

ويحتفل العالم باليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من كانون الأول / ديسمبر من كل عام.

وقد وقع الاختيار على هذا التاريخ بالتحديد للاحتفاء باللغة العربية لأنه اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة.

وقد أبدعت اللغة العربية بمختلف أشكالها وأساليبها الشفهية والمكتوبة والفصيحة والعامية، ومختلف خطوطها وفنونها النثرية والشعرية، آيات جمالية رائعة تأسر القلوب وتخلب الألباب في ميادين متنوعة تضم على سبيل المثال لا الحصر الهندسة والشعر والفلسفة والغناء.

وتتيح اللغة العربية الدخول إلى عالم زاخر بالتنوع بجميع أشكاله وصوره، ومنها تنوع الأصول والمشارب والمعتقدات. ويزخر تاريخ اللغة العربية بالشواهد التي تبيّن الصلات الكثيرة والوثيقة التي تربطها بعدد من لغات العالم الأخرى، إذ كانت اللغة العربية حافزاً إلى إنتاج المعارف ونشرها، وساعدت على نقل المعارف العلمية والفلسفية اليونانية والرومانية إلى أوروبا في عصر النهضة.

ونرى ان اعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسى واعظم شيوخ الحديث البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وكلهم من اصول غير عربية ومن بلاد شديدة البعد عن شبه الجزيرة العربية

ومن المؤسف ان اصبحت اللغة العربية فى وطننا العربى شبه غريبة على ابنائها فى هذا العصر الذى نعيش فيه (عصر العولمة) فتعثرت ألسنتهم وصارت عبئا ثقيلا عليهم فى جميع مراحل التعليم

ومن المعروف ان اللغة وسيلة اتصال وتفاهم بين الناس ومن ثم يصبح اتقانها ضرورة من ألزم الضرورات وليس نوعا من الترف كما يتوهم الناس

فاللغة هى العامل الذى يشكل هوية الانسان ويضفى على المجتمع طابعه الخاص فالهوية نتاج المعانى التى يشيدها الافراد عبر اللغة والطابع الخاص للمجتمع وليد تفاعل ما يسرى داخله من خطابات لغوية

واللغة كما ورد فى تقرير التنمية الانسانية العربية عام 2003 ابرز سمات المجتمع الانسانى ومن اهم مقومات الشخصية وابرزها فهى الاطار الذى يحفظ كيان اصحابها ويحدد هويتهم وهى العمود الفقرى للقومية

ولا شك ان اللغة هى الفكر والهوية والماضى والحاضر والمستقبل

ومن اهم التحديات التى تواجه اللغة العربية انتشار اللهجات العامية بما يلفها من ابتذال وترخص وسوقية وتدن وظهور ما يسمى اللغة الشبابية (لغة الروشنه) مثل (فكك منى- كبر دماغك) وقد احدثت الفضائيات المتعددة تقارب فى الالسنة العربية فى كل الاقطار العربية بفهم ادق وسهولة

ومن مظاهر اللغة العربية عدم توافر سياسة لغوية على المستوى القومى واهمال تطوير اللغة العربية لتناسب عصر التكنولوجيا وضمور سلطات المجامع اللغوية وقلة مواردها وضعف التنسيق بينها وتعثر عملية التعريب وجمود التنظير اللغوى وقصور الوعى بدور اللغة فى تنمية المجتمع والصعوبات التى تثيرها ثنائية الفصحى والعامية وضعف النشر الالكترونى باللغة العربية وقلة البرمجيات المتقدمة فيها

وزادت مدارس اللغات الاجنبية وزاد تهميش اللغة العربية منذ مراحل الطفولة الاولى ومن باب السخرية ان يتم تدريس مادة الجغرافيا وتاريخ العرب فى كثير من المدارس باللغة الاجنبية فتصبح اللغة الاجنبية اللغة الاولى واللغة العربية اللغة الثانية على لسان الطفل وفى تفكيره

بالاضافة الى ضعف المستوى اللغوى للمعلمين ومستوى التعليم الحكومى مما ادى الى عزوف اولياء الامور عن المدارس الحكومية والفرار الى المدارس الاجنبية (الانترناشونال)

ومن التحديات ايضا ضعف مناهج اللغة العربية وما تحتويه من مادة علمية لان اللغة لابد ان  تتطور مع تطور الحياة، وليس معنى هذا رفض اللغات الاجنبية لانه لا يمكن لامة ان تكون مبدعة بغير لغتها فهناك بلاد مثل اليابان وكوريا والصين وفرنسا حتى اسرائيل وصلت الى مستويات متقدمة فى مجال العلوم والتكنولوجيا تدرس العلوم بلغتها

فنجد ان فرنسا فرضت غرامة باهظة على كل من يستخدم اثناء حديثه فى الاذاعة او التليفزيون لغة غير لغة الوطن لدعم الهوية وتاكيد الانتماء والولاء لبلدهم فرنسا

ونتذكر ترك الرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك المؤتمر الاوربى لرجال الاعمال فجأة بسبب تحدث رجل اعمال فرنسى باللغة الانجليزية وليس بلغته الفرنسية وهذا ابلغ دليل على خوف الفرنسيين على لغتهم الوطنية

اما عندنا ففى الصحافة كثرت الاعلانات باللغات الاجنبية او كتبت باللهجات العامية او الاجنبية وفى بعض المسلسلات والافلام يتم تشويه صورة مدرس اللغة العربية اذ يصبح مجال للسخرية والتفكه (مثل نجيب الريحانى مدرس اللغة العربية)

وبرغم ان لغتنا العربية احدى اللغات الرسمية المعتمدة فى اليونسكو وفى منظمة الامم المتحدة فان ممثلى الدول العربية يلقون بياناتهم باللغة الاجنبية من دواعى الفخار لا من اهدار الهوية والانسلاخ من الانتماء الذى يوحى به حديثنا باللغة القومية وهى المستودع الزاخر بالمعانى والافكار والقيم

لذا نقول ان اللغة العربية اصبحت فى مأزق من ابناؤها انفسهم !

وظهر التلوث اللغوى كما وصفه الاستاذ الدكتور كمال بشر نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة الذى امتد ليصل الى الافتراء بان اللغة العربية غير قادرة على تحقيق وظيفتها فى التواصل بين البشر

ومن اهم التحديات التى تواجه لغة الام ظاهرة اللافتات التى تعلو واجهات المتاجر والاماكن العامة والتى تكتب باللغة الاجنبية كما تنقل الكلمة الاجنبية بحروف عربية دون ترجمة لها اى تكتب بالعربية المغربة (مثل محل كريزى للمخبوزات)

واستاثرت الشركات والمؤسسات العالمية بمنافذ العمالة وجعلت اتقان اللغات الاجنبية شرطا للتعيين بها

و فى ضوء هذه التحديات التى تواجه اللغة العربية يجب على المجامع اللغوية القيام بتعريب المصطلحات العلمية والرياضية والفلسفية والتكنولوجية والادبية والتاريخية وغيرها وترجمة كل ما يصدر من كتب ومراجع علمية وتكنولوجية متطورة فى جميع المجالات العلمية والزراعية والهندسية وغيرها لعدم تراجع اللغة العربية والحفاظ على الامن القومى العربى والهوية وتعميقا للانتماء

ولا ننسى ما قام به الخليفة العباسى المأمون من تشجيع كل من يترجم كتابا الى العربية اذ انشأ والده هارون الرشيد "بيت الحكمة" فى بغداد وازدهر في عصر المأمون الذي تعهّد بترجمة مجموعات من الكتب اليونانية في العلم والفلسفة إلى العربية، كما وضع جلّ اهتمامه في العناية بجلب المراجع ومكافأة المترجمين.

وكانت بغداد مدينة مزدهرة وغنية جداً ما سمح للمأمون بتوفير النفقات بغية شراء مزيدٍ من الأعمال، بما في ذلك كتب من بلدان أخرى، حتى قيل إن الخليفة المأمون قد سمع عن مكتبة صقلية الرائعة, وراسل ملكها مطالباً إياه بِجميع المراجع الفلسفية والعلمية اليونانية، حتى يتم دمجها في "بيت الحكمة".

وأرسل ملك صقلية محتويات المكتبة إلى الخليفة المأمون بناءاً على نصيحة الأساقفة في بلاده، الذين رأوا أن محتويات هذه الكتب لم يكن مفيداً للشعب في ذاك الوقت.

وقال المؤرخون أسماء ثلاثة أدباء أشرفوا على إدارة "بيت الحكمة" في عصر المأمون، أوّلهم سهل بن هارون، وكان كاتباً حكيماً وشاعراً فصيحاً، وثانيهم سلم الفارسي، وله مؤلفات ترجمها من الفارسية إلى العربية، أبرزها كتب الخرافات والأسمار والأخبار.

أما الأديب الثالث فيتمثّل في محمد بن موسى الخوارزمي، أشهر العلماء الذين انقطعوا لـ"بيت الحكمة" في زمن المأمون، وهو من أصحاب علم الهيئة ممّن قاموا بالحسابات الفلكية، وألّفوا كتباً في الزيج والعمل بالإسطرلاب.

وعمل في بيت الحكمة عدد كبير من التراجمة، منهم يوحنا بن البطريق، والحجاج بن مطر، وحنين بن إسحاق، وقسطا بن لوقا، وجيش بن الحسن، وغيرهم.

كما عمل أيضاً حشد من النُسّاخ، أشهرهم علان الشعوبي الوراق، العارف بأنساب العرب.

ودخلت التجربة طور الجمود والإهمال حتى سقطت بغداد في يد هولاكو عام 656 هـ الموافق 1258م، والذي حوّل "بيت الحكمة" وغيره من خزائن الكتب العامة والخاصة إلى خرائب، وألقى المراجع في نهر دجلة.

ولحل ازمة اللغة العربية لتأصيل الهوية وتعميق الانتماء ومواجهة التحديات الاتية والمستقبلية تجدر الاشارة الى ما يلى:

اولا: الاستفادة من الثورة العلمية التى تشهدها اللغويات الحديثة

ثانيا: تشجيع الباحثين فى مجال نظرية الادب وعلم النص الحديث والمعجميات والانجازات التى اثبتت جدواها فى معالجة اللغة العربية اليا وخاصة فى علم الصرف والنحو

ثالثا: استخدام الكمبيوتر فى بناء المكانز العربية

رابعا: تطوير مواقع لخدمة اللغة العربية

خامسا: اعادة اعداد معلم اللغة العربية اعدادا سليما متكاملا وتدريبه على استخدام الوسائط المتعددة فى تعليم اللغة العربية وتنشيط ملكة الابداع والابتكار لدى الطلاب ومقاومة عادة الحفظ والاستظهار

و قد خطى مجمع اللغة العربية بالقاهرة الى مجلس الشعب وطلبوا تفعيل التوصيات اللغوية للمجمع وقراراته ونفخ روح القانون وقوته فيها

واخيرا وافق مجلس الشعب فى 22 مارس 2008 على تعديل المادة الثالثة من القانون رقم 14 لسنة 1982 باصدار اعادة تنظيم مجمع اللغة العربية

وفى الختام فان من الحقائق المقررة ان اللغة العربية هى وعاء الفكر وذخيرته ومستودع القيم الثقافية والاجتماعية وتوهين لغتنا واضعافها قد يؤدى الى بلبلة فى فكر ابنائنا وقيمهم العريقة وفى معانى الهوية والانتماء

لغتي وأفخر إذ بُليتُ بِحبها...... فهي الجمالُ وفصلُها التبيان

عربية، لا شك أن بيانها......متبسم في ثغرِه القرآن

 

الكاتبة ليلى الدسوقى

 

في المثقف اليوم