قضايا

قاسم المحبشي: هل تستطيع الثقافة ترميم خراب السياسية؟

قاسم المحبشيتزخر المجتمعات العربية الراهنة بتراث ثقافي وفني وأخلاقي وجمالي مشترك غني ففي كل بلد عربي يوجد مستودع خصيب للهوية الثقافية العربية المشتركة المتمثل في اللغة والعادات والتقاليد والقيم والمعتقدات والنقوش والآثار والازياء والاطعمة والرمز وغيرها. كل تلك المقومات تجعل الإنسان العربي في كل قطر يقيم به انسانا مندمجا ثقافيا ولا يشعر بالغربة والاغتراب الا حينما يتذكر البسبور الذي يحمله بوصفه موطنا من دولة عربية أجنبية.

تداعت هذه الفكرة إلى ذهني وأنا في الطريق إلى مملكة مصر العليا بصحبة نخبة من الاكاديميين العرب من النوع الاجتماعي ؛ من ليبيا والعراق وفلسطين واليمن والاردن والخليج وتونس والجزائر وغيرها. أتينا بغرض المشاركة في مؤتمر المراة الافريقية الذي نظمه الاكاديمية الدولية للدراسات الاجتماعية والإنسانية والدولية لريادة الأعمال في مدينة الأقصر وأسوان على مدى اربعة أيام. هناك اجتمعنا واستمعنا إلى لهجات الشعوب العربية المحلية الحميمة وشاهدنا أزياءها في مشهد ثقافي بانورامي باذخ الجمال والمعنى.

وفي اثناء تجولنا في طيبة الأثرية شهدنا ما لم يكن يخطر على البال من كنوز أثرية وتراث ثر من الاثار الخالدة وادهشتني قدرة مصر على توظيفها حضاريا بما جعلها جاذبة للسياح من مختلف اصقاع الأرض. إذ استطاعت مصر الراهنة جعلها مزارا دائما للزوار إذ يشعر الزائر لأم الدنيا منذ الوهلة الأولى بانه في مكان حميم لا يشعرك بالغربة أبدًا. وتلك خاصية مصرية بامتياز لم أجدها في أي بلد عربي زرتها. في مصر فقط ثمة اندماج اجتماعي وثقافي قل نظيره إذ تختفي كل الهويات والمرجعيات الاجتماعية والعقائدية والجهوية والأيديولوجية وتحضر الهوية الوطنيةالمصرية القوية، إذ لا تعرف من محدثيك أي إشارة أو نبرة تدل عن هويات أخرى غير هوية مصر الوطنية الإنسانية الحانية. ومن منظور الدراسات الثقافية يمكن القول أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي

استطاعت توظيف التراث الثقافي ببراعة في نسق جدلية الحضارة والتراث وهذا ينتمي إلى حقل الدراسات الثقافية التي أزهرت في السنوات الأخيرة على تخوم العلوم الإنسانية والاجتماعية وهو نسق من الدراسات جعلت من الثقافة بما هي القوة الإبداعية في التاريخ علمًا وأدبًا وفنًّا، رهانها الرئيس؛ نعم هي الثقافة التي تبقى بعد نسيان كل شيء! وهي مستودع الممكنات ومورد الإبداعات. والتراث هو عمودها الفقري بوصفه خلاصة تجارب الحياة والممارسات في مختلف المجالات، في الزراعة والعمارة والصناعة والفنون الشعبية والأزياء والقيم والعادات والتقاليد والأعراف والعلاقات والقيم والرموز، وكل ما يتصل بحياة الناس بوصفهم أعضاء في المجتمع. وتلك النظرية هي التي صاغها الدكتور حاتم الجوهري إذ كتب:

" يمكن القول إن هذه الدراسة تطرح فرضية وغاية جديدة في مقاربة التراث وعلاقته بالحضارة، تتمثل في: الإدارة الثقافية للتراث وتعظيم دوره الحضاري، من خلال العنوان الجامع: "إعادة توظيف التراث" لخلق النمط الثقافي المصري/ العربي مجددًا في عالم ما بعد "جائحة كورونا" وتجاوز أثر "المسألة الأوروبية"، وفق سياسة ثقافية جديدة بالعنوان ذاته، تتخذ منهج "تشكيل النمط" الثقافي سبيلًا، وتتجاوز مرحلة الدراسات الوصفية التي ارتبطت بتوثيق التراث ورصد سمات "النمط". بما يجعل هدف البحث من هذه السياسة الثقافية هو إعادة خلق وتكوين الهوية الجماعية المصرية/ العربية واستعادة سماتها المتفردة، في خضم عالم يبحث عن النماذج الحضارية الصاعدة فيما بعد الجائحة" [ينظر، حاتم الجوهري، مجلة، الفكر المعاصر١٩، ص١٥٨- ١٥٩].

وأنا اشاهد جموع السياح تتدافع على بوابة معبد الاقصر ومعبد الكنرنك والقرية النوبية ومعبد حتشبسوت ادركت معنى نظرية إعادة توظيف الثقافة والتراث الثقافي التي نادى بها صديقي دكتور حاتم الجوهري إذ تعني " ويضم مجموعة العادات والعناصر الثقافية التي يمكن اختيارها، وإعادة دمجها في الحياة المعاصرة لوجود وظيفة مباشرة يمكن أن تقوم بها في الحياة المعاصرة، وقد يشمل هذا المجال مثلًا، مجموعة من الأكلات الشعبية وتقاليدها وإعادة تقديمها في ثوب معاصر جديد بالاتفاق مع سلسلة مطاعم محترفة وطهاة بارعين، مع الحرص على تقديمها في شكل جديد، وما قد يتطلبه ذلك من إضافات وتعديلات على العنصر الثقافي الأصلي ليواكب الوظيفة الجديدة واشتراطاتها الآنية في العصر الحالي، وتضم الفنون الشعبية، الأزياء، الأطعمة، الطب البديل وغيرها"

اعادة التوظيف للتراث الثقافي يحتاج إلى سياسيات دول قائمة ومستقرة كما هو حال مصر وحينما سألت الزملاء والزميلات من الوفود المشاركة في الرحلة من العراق وليبيا عن احوال التراث الثقافي كانت الاجابات مخيبة للأمال بسبب الخراب السياسي التي تعيش بلدننا واولها اليمن السعيدة فهل يمكن اعادة توظيف التراث الثقافي في ظل الغياب السياسي دكتور حاتم الجوهري؟ الجواب في الفقرة الآتية:

السياسة الثقافية الجديدة لإعادة توظيف التراث ستراعي الاستفادة من الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنشاط الثقافي التي وقعت عليها الدول العربية، بحيث يمكن تكييف النطاقات الثلاثة التي ذكرناها سابقًا لمشروع إعادة توظيف التراث، لتدخل ضمن بروتوكولات تلك الاتفاقيات جزئيًّا أو كليًّا، خاصة اتفاقيات اليونسكو المبرمة عام 2003، لصون التراث الثقافي غير المادي، واتفاقية 2005، لحماية التنوع الثقافي، ومعايير الأمم المتحدة للتنمية المستدامة وشروطها، واتفاقيات الشراكة مع دول الاتحاد الأوروبي؛ "كل ذلك يعتمد على السياسية الثقافية للدول التي تهدف بكل وضوح إلى التدخل من قبل الدولة ومؤسساتها الثقافية لإعادة تشكيل النمط الثقافي/ الحياتي السائد في مصر والبلدان العربية، وتجاوز إطار الدراسات الوصفية أو التحليلية التي تقف عند رصد سمات النمط الثقافي وخصائصه لقطاع جغرافي لإطار التراث والعادات والتقاليد الموروثة. وفي هذه الحالة تعمل الدولة كمركز لصنع وتشكيل النمط السلوكي/ الثقافي/ الحياتي/ الهوياتي، مقدمة النموذج الذي قد تندرج فيه وتساعد في عمله وتشكيله، المؤسسات غير الحكومية. فدور الدولة هنا يكون هو الأساس ومركز وماكينة صنع النمط الثقافي ونحت ملامحه، فهنا "تعتبر السياسات الثقافية أحد مسؤوليات الدولة بالأساس، ففي أغلب الأحيان تكون الدولة هي المطبّق لتلك السياسات". " والسياسة بوصفها فن إدارة الشأن العام هي (الفارموكان) حسب أفلاطون بمعنى السم والترياق ، فإذا خربت خرب كل شيء في المجتمع وإذا صلحت صلح كل شيء في المجتمع، وليس هناك شيء آخر يؤثر في حياة الناس بإشد مما تفعله السياسة ، حتى الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ؛ ك البراكين والزلازل والفيضانات والعواصف والجفاف والجدب والخصب والبر والحر والأوبئة هي أخف وطئة على حياة الناس في كل المجتمعات من أثر الشرور السياسة ومداراتها الفاجعة. فما حدث في العراق وليبيا وسوريا واليمن والصومال وافغانستان ولازال يعتمل من أزمات وتصدعات سياسية وحروب وخرابات في السنوات القريبة الماضية لا يمكن مقارنة أثرة الفاجع في حياة المجتمعات مع ما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية واقعية أو محتملة.  وهكذا صار العرب اليوم  دولا وشعوبا وافرادا في مهب العواصف السياسية الجائحة! والسياسة هي الزمن الذي لا يمر ! بمعنى إنها دائمة الحضور والفعل والتأثير في حياة الناس في كل مكان وزمان ، فأما أن يتمكن الناس من ترويضها والسيطرة عليها وتقنينها وتقعيدها في نظم مؤسسية دستورية عادلة ومستقرة وأما أن تسحقهم بعنفها ووحشيتها التي لا حدود لها. وبهذا نفهم قول دوبرية في كتابه المهم  (نقد العقل السياسي) : "الساسة في كل الأزمان جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة فاقدي العقل"  ) إنها هي فحوى التاريخ  الذي  يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسها أبدا! فمتى يدرك العرب أهمية وضرورة تقعيد السياسة في مجالها الخاص على أسس مؤسسية قانونية عادلة ومستقرة، ويشيدون بيتهم السياسي الخاص مثل سائر شعوب العالم المستقرة في دولها المزدهرة اليوم ؟ومتى يدركون ويفهم الأسباب العميق لمأساتهم الفاجعة، ويقبضون على مفتاح السر  في كونهم كذلك منذ أقدم العصور في حروب دائمة ومستمرة بدلا من الأوهام الزائفة التي لازالوا يستجرونها من ماضيهم السحيق عن ذاتهم وعن الآخرين، وحينما نتقبل أنفسنا كما نحن في الواقع لا كما نتوهم حينئذ فقط يمكن لنا أن نتقدم. ولا قيمة ولا أهمية للشعوب والمجتمعات بدون دول ومؤسسات مهما كانوا عليه  من دين وأخلاق.

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم