قضايا

حسين علاوي: تأويل نهاية مفاهيم الأخلاق

حسين علاويبعد أن أضحت مفاهيم ونظريات الأخلاق الدينية والوضعية عاجزة عن إعادة الأخلاق أو جزء منها إلى سياقها الطبيعي.. ونحن نعيش الآن في خضم عالم انحلت فيه القيم والمبادئ والأعراف الأصيلة.. عالم كان يعتقد ويراهن محرروه بأنه سيستعيد إلينا حقّنا الفطري في التعامل في ما بيننا.. إلّا أنَّ هذه التنبؤات لم تكن إلّا مجرد أوهام، كانت تخفي وراءها المصائب الكبرى التي تواجه الناس وهم يطالبون بالعدالة والحرية في الحقوق والمساواة.. فإذا بهم تتصارع في أنفسهم كل حالات الجشع والطمع والأمزجة والأرواح الشريرة الحيوانية التي لا تشبع أو تقنع.. بعد أن أتيح لها أن تفعل ما تريد، فانغمست في الملذات، وإشباع النزوات، وقبول المصير والنهاية دون هدف خيّر وصالح..

ومهما بلغت قدرة الإنسان في المستقبل البعيد على تحسين نسله والاعتماد على نفسه وزيادة ثقافته، فإنَّ تجربتنا الحاضرة تثبت أنَّ حاجاته ستظل قائمة وتتكاثر، ومعها يفقد الشيء الكثير من أخلاقه وإنسانيته.. فقد أخفقنا في مواجهة التحديات الراهنة، وبدا علينا أننا لم ننجح إلّا في اتخاذ الأوهام التافهة والاستسلام، بدلاً من المعتقدات والأفكار التي تحافظ على إنسانيتنا وتوازننا..

وبعد أن أضحى الإيمان لدى جانب شكلي ومظهر مزيف.. وقد انصرف عنه، ولكن دون أن يفقد القابلية للإيمان.. كمعلق كما هو في الواقع بين السماء والأرض.. حيث لا يجد طعماً للراحة في أي مكان.. ولا يعتمد على سلطة روحية يلتجئ إليها.. بل أخذ يقتنع بكل ما تمليه عليه ملذاته وشهواته.. بعد أحل كل المحرمات.. واجتهدَ في كل السرقات.. ولم تكن له غاية في هذا الكون سوى جمع الأموال والملذات.. وهو خاضع لسيطرة ذاتية اجتماعية تحتم عليه أن يحذو حذوها.. ويسلك سبلها.. ويدخل في صراعاتها.. رغم إنَّ وطأتها ثقيلة على روحه وجسمه وشعوره بدرجة لا تقل عن سطوة السلطان أو الكاهن.. إلّا أنه مقتنع عقلياً بها.. رغم إنها تنافي العقل المستقيم.. وتخلو من نباتها الأخلاقي.. ومن السائد في القضاء المحتوم.. والذي يأتي مؤلماً في الكثير من الأحيان.. لأنه يخالف ميزان وإرادة الله العلي القدير..

وإحدى المشاكل المتعلقة بالطريقة التي يتم بها تحديد الأخلاق اليوم هي أنها تغمر على الذاتية لمعظم الناس.. بعبارة أخرى يحدد الأفراد ما هو أخلاقي وغير أخلاقي لأنفسهم.. ولا توجد معايير سلوك مقبولة بشكل عام، وهذا المعيار خلقَ الكثير من المشاكل في المجتمعات، وخاصة مجتمعاتنا التي تفتقد إلى القوانين الصارمة.. فاقتنع الكثير أنَّ في السرقة والفساد أمر طبيعي، رغم إنهما عقلاً وعُرفاً مذمومان.. ورغم إنَّ الكثير يعتبر أنَّ الانحلال الأخلاقي في أوساط الشباب سببه ألّا عدالة في وسائل العيش ومصادر الرزق.. إلّا إننا نجد أن أكثر هؤلاء هم من الأثرياء والمسؤولين الكبار الذين يتقاضون الملايين، ويسرقون قوت الفقراء من خلال الصفقات والمضاربات والبنوك الخاصة بهم.. وإنَّ العاطلين عن العمل ومدمني المخدرات وأكثر أسباب الجريمة والانتحار في أوساط الشباب، سببها جشع وفساد وسرقات هؤلاء..!!

ورغم إنَّ المعوّل كان على العقل والدين في المساعدة على ضبط الفعل.. إلّا أنَّ العقل أضحى عاجزاً عن فعل أي شيء، خاصةً أمام سارق يعرف كل مصادر ومدونات ومضامين الأخلاق الشرعية والقانونية.. يساعده على التلاعب بها بعض رجال القانون..!! بعد أن أضحت الكثير من النظريات الأخلاقية مثالية ولا علاقة لها بالواقع الذي نعيشه.. لأنها لم تُحدد بقوانين وضعية صارمة.. وقليل من البشر من يفلح في التمسك بمضامين وأحكام الأخلاق.. وهذا ما يؤكد عليه كانْت، إذ يقول: (إن الأخلاق اجتهاد ومواجهة دائمة ضد الطبيعة الإنسانية.. وقلما نخرج منها رابحين، بل غالباً ما تهزمنا الرغبة.. ويعتقد أن الأخلاق نضال وعمل فيه المكابدة والمجاهدة، لأنك تسعى نحو الخير المطلق القابع في أعماقك..) (فلسفة كانت، بونرو إميل، ترجمة: عثمان أمين، ص63)

فالفساد أصبح متأصلاً في المجتمعات وخاصة في مجتمعنا، مما أفقد الشعور الطبيعي لدى الناس بأفعال الخير، وقوانين تجتث وتعالج هذا الوباء وميوله الذاتية ورغباته ومنافعه الشخصية، وإلحاقه الأذى بالناس.. فشعور الفرد الطبيعي وإرادته الذاتية ليس بوسعهما الارتقاء إلى مرتبَتَيْ الشعور الأخلاقي والإرادة الطبيعية إنْ لم يلتزم الشعور بالقانون الأخلاقي فيبدي له احتراماً وتبجيلاً يليقان به.. فالشعور باحترام القانون الأخلاقي يرتقي إلى مرتبة الواجب، وهو بمثابة يقظة الضمير في الجزء الفردي من كينونتنا.. وعليه حين يبدأ الفرد من هذا الشعور، وحين يفكر في أحواله، يستطيع أن يعي الأخلاقية وعياً يزداد عمقاً، وأن يصعد إلى مبادئها.. (المصدر نفسه، ص77)

ورغم أن الإنسان لا يريد أن يكذب عليه الآخرون، إلّا أنه يكذب عليهم.. ويريد أن يصبح الكذب قانوناً عامّاً يدافع عنه.. وبذلك يتناقض مع نفسه ويفقد مكانته.

ويتساءل شلايرماخر، فيقول: ماذا إذا كانت القيم الأخلاقية لمجتمع أو لفرد تتناقض مع المثل الأعلى للبشرية؟.. ويعرب عن التزامه بالتميز الأخلاقي، دون انتهاك القوانين الإنسانية، سواء كانت لاهوتية أم وضعية.. ويكون الجواب: إن كل كينونة بشرية يجب أن تمثل الإنسانية بطريقتها الخاصة، وإنَّ ما هو قيّم هو الكينونة المتميزة للشخص وعلاقتها بالإنسانية.. (أنظر، فريدريش شلايرماخر، حول الدين، ترجمة: نبيل فياض)

غياب العدل:

أكدت الشرائع الدينية والوضعية على العدل والاعتدال.. وحثّت كل الناس وفي مقدمتهم المؤمنون على رسم قواعد العدالة في المجتمع.. وفي القرآن الكريم هناك العديد من الآيات التي تأمر بالعدل: (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ).. إلّا أنَّ هذه الآيات والكثير من الأحاديث النبوية أضحت لقلقة لسان، تُردّد دون أن تُطبّق.. ولا يعمل بها أحد.. رغم إن العدل قاعدة ومنهج للأخلاق، يشعر فيها الإنسان بكرامته، وعندما تدفع له حقوقه وفق ضوابط الشرع والقانون.. وينهار العدل عندما يتقاضى مسؤول ما الملايين دون عمل يُذكر.. ويسرق قوت الفقير الذي لا يتقاضى بضعة آلاف شهرياً.. فهل يبقى هناك عدل والسارق والقاتل يحكم ويسنّ القوانين..!!

القانون المعطل:

رغم إن كتب القانون تؤكد على إنه إحدى المؤسسات الجوهرية في حياة الإنسان الاجتماعية.. وإنّ الكثير من هالة الشرعية التي تحيط بسلطة القانون مرتبط بالاعتقاد بالتزام أخلاقي لطاعة القانون.. ولولاه لأصبح الإنسان مخلوقاً مختلفاً عما هو عليه.. إلّا أن القانون عندنا أضحى معطلاً، وإذا أُعمِلَ يعمل بانتقائية، من خلال تطبيق القوانين التي تتحدى الأخلاق، بل وتتحدى كل قوانين المجتمع.. فالقانون لم يحاسب سراق المال العام.. مما جعله عديم الثقة لدى المواطن وخاصة الفقير.. فنحن أمام واقع يتفكك وينهار كل شيء فيه.. بعد أن فقدنا نقاء الفطرة، وأضحى الفساد متأصلاً في حياتنا العملية والاجتماعية.. وفقدنا الشعور الطبيعي للبشر بأفعال الخير.. بطغيان منافعنا الشخصية ورغباتنا الحسية.. وإلحاق الأذى بالآخرين.. وبعد أن أضحى تعاملنا مع بعضنا تعامل منفعة ومصلحة لإرضاء ميول ورغبات وغرائز.. ولم يبقَ للأخلاق أي غطاء حتى ولو كان عقلياً يرشدنا إلى الأصلح.. وإلى النبل والسمو والنقاء.. لقد عدنا إلى الحيوان الذي يسكن دواخلنا.. ولا نعني حيوان داروين، بل حيوان الفلاسفة والمناطقة الذين صنّفوا الإنسان بالحيوان الناطق.. مثلما صنفوا الحصان بالصاهل.. وقد نجد الحيوان فينا وعاد إلى بدائيته.. ورُكِنَ كل التراكم المعرفي والعلمي والإنساني.. والبعض اقتطع منه ليشتغل به على حيوانيته في الطمع والأنانية والغدر وقتل أخيه الإنسان.. بعد أحرقَ ومزّق كل كتب الأخلاق التي كانت ترتفع وترتقي به وتحافظ على المشاعر البريئة.

فعدم الالتزام بالأخلاق والتقدّم بها، يُبقي كل شيء فاسد.. والابتعاد عنها يجعلها لا تصلح أن تكون مرشداً لأفعال الإنسان وتصرفاته.. إلّا بالقوانين الوضعية الصارمة!!.. ولا شك أن انهيار الأخلاق يعني نهاية كل شيء والعودة إلى شريعة الغاب.. فعلينا أن نكسر القوالب الجامدة والتي تسير كالسلحفاة في تطبيق القوانين وتعطلها.. والأفكار المثالية المخدرة.. وأنْ نبعد السراق وعبدة المال.. وذلك بسنّ وابتكار الجديد من القوانين الصارمة.. والأفكار التي تعيد تشكيل الواقع وإعادة تركيبه بتغيير بُنيته ومشهده، أو مساره ومجمل قوانينه وعلاقاته.. لكي نعيد ثقة الناس بالأخلاق والقوانين التي تجسد روح ومفاهيم الأخلاق..

 

حسين علاوي

 

 

في المثقف اليوم