قضايا

حدود الطب النفسي (٣): حين يصير المرض النفسي تهمة

سامي عادل البدريفلاديمير بوتين مثالاً

بدءاً علينا الاعتراف بأن الطب النفسي كان يستخدم كأداة قمع لمعارضي النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي فقد كان يجبر المعارضون السياسيون على دخول المستشفى النفسية لـ ”علاجهم“ مما كانوا يسموه (الفصام الكامن أو الخامل Sluggish schizophrenia)، ويبدو الأمر غير قابل للتصديق، لكنك لو تقرأ تفاصيل أعراض ذلك المرض المزعوم فستضحك ربما من تلك الكوميديا السوداء، فالأعراض يمكن أن تشمل: (أوهام الإصلاح reform delusions)، و(نضال من أجل الحقيقة Struggle for the truth)، و (المثابرة perseverance).

لكن تلك فترة مضت، وما يهمنا اليوم في هذه المقالة هو توضيح الرأي فيما يخص توصيف (فلاديمير بوتين) من قبل بعض أعداءه بأنه (فقد صوابه ويعاني من الهذيان)، ومصاب بجنون العظمة و(جنون الارتياب). ولم يقتصر اطلاق تلك الصفات على الصحفيين، بل على بعض رجال الدولة من حلف الناتو وأصدقائهم.

دعونا نترك ”تشخيصات“ السياسين ونلتفت إلى مقالة كتبها طبيب نفسي فرنسي شهير، وهو خبير محلف في المحاكم الفرنسية، اسمه (دانييل زاجوري Daniel Zagury)، إشتهر في الظهور في الإعلام للتحدث عن المجرمين والإرهابيين. كتب هذا الخبير مقالة نشرت مؤخراً في صحيفة فرنسية واسعة الانتشار (صحيفة يوم الأحد Le Journal du Dimanche) بعنوان (هل أصبح فلاديمير بوتين مجنوناً؟)

لم يتسنى له فحص بوتين سريرياً، فهو لم يلتقِ به ولم يكلمه، لكنه رغم ذلك لم يتردد في تسطير فحصاً تفصيلياً بعض الشيء، بالاعتماد على ما يراه من التلفاز على ما يبدو، فنقرأ في مقالته على سبيل المثال: (إن تلك الطاولة الطويلة، وذلك الأخراج التلفازي للإهانات، وتكشيرة الاحتقار تلك، والنظرة الباردة، بل المتجمدة، والحركات العصبية ليديه.. كل ذلك يقول لنا الكثير، حتى أكثر من الكلمات.)

يتم تشخيص بوتين في تلك المقالة من انه يعاني من (الشخصية الزورانية أو البارانوية) ويخبرنا الكاتب بأنه حين يواجه أصحاب تلك الشخصية ظروفاً صعبة فإنهم يميلون إلى الانتكاسة والتحول إلى الوهم وجنون العظمة بل حتى الافكار الانتحارية. يخبرنا بعد ذلك بأن بوتين يعاني من رفضه للتقدم في العمر، فهو يقترب من سن السبعين سنة، ثم أتت أزمة الكورونا التي أخافته كثيراً، حتى أصابه قلق شديد من أن يصاب بالفيروس. لم يقلها الكاتب بجملة صريحة لكنه بعد تلك المقدمات يجعلنا نستنتج بأنه يريد أن يقول أن بوتين المصاب باضطراب الشخصية البارانوية قد انتكس حالياً وصار يعاني من الوهم وجنون العظمة والافكار الانتحارية، وكأنه يقول أن الإقدام على إحتلال أوكرانيا ما هي إلا تجلي لأفكار انتحارية مريضة. 

وإن بدت تلك المقالة غريبة، فالحقيقة هناك بهذا الشأن مقالات أكثر غرابة. فهنالك تقريرٌ أعدته وزارة الدفاع الأمريكية عام ٢٠٠٨ يفيد بأن بوتين قد يكون مصاب بأحد أنواع التوحد، ويعتمد التقرير مرة أخرى على ملاحظات خارجية مثل تعابير وقسمات الوجه، ليستنتج بأن هناك خلل في نمو الجهاز العصبي!

أختلف الفقهاء!!

أما الرأي الأكثر مهنية فهو لإستاذ في الطب النفسي، وهو (أنطوان بيليسولو Antoine Pelissolo)، الذي قابلته احدى المجلات الفرنسية ليقول: (لا يمكن الوثوق بالتشخيصات التي تستند على الملاحظات الخارجية لشخص ما)، وبأن عملية التشخيص تطلب تواجداً مع الشخص لمدة تتراوح من ثلاثين دقيقة إلى ساعة كاملة، وبأن وجود علامة واحدة فقط غير كافية للتشخيص بل يجب تواجد عدد من الأعراض، هذا بالإضافة إلى وجوب حصول تدهور في ممارسة الوظائف.

ثم يذكر هذا الطبيب قاعدة أخلاقية مهمة تسمى (قاعدة غولدووتر Goldwater rule)، والتي تنص على عدم أخلاقية اعطاء الاطباء النفسانيين رأياً مهنياً بشأن شخصيات عامة لم يقوموا بالكشف عليهم شخصياً، ولم يحصلوا منهم على موافقة لمناقشة صحتهم العقلية على الملأ.

إن تلك المحاولات الغير مقنعة لتشخيص بوتين بمرض نفسي، كانت تهدف على الأغلب، كما نستنتج من سياقها وتوقيتها، لإهانته والنيل منه. إلا إن تلك المحاولات يمكن اعتبارها بمثابة إهانة لكل المرضى النفسيين. فالمرض النفسي ليس عيباً ولا سوء أخلاق. بل أنك لو وصفت سلوك أحدهم بأنه جريمة، ثم أضفت بأنه مريض نفسي ناوياً إهانيته، فأنت بذلك تبرئه مما تراه جريمة، سيكون مكانه المناسب حسب كلامك ليس السجن، وإنما المشفى.

يبقى أن نقول بأن أفضل من تكلم عن فلاديمير بوتين هم الصحفيون والمختصون في الشأن السياسي، فهذا (ميشيل إيليتشانينوف Michel Eltchaninoff) يعيد إصدار كتابه (في رأس فلايديمير بوتين) بطبعة منقحة بعد احتلال أوكرانيا، الذي يضع السياسة الروسية الحالية في سياقها الثقافي المنطقي ليجعلها مفهومة واضحة، وما فلاديمير بوتين سوى أحد تجلياتها.

وأخيراً تجدر الأشارة هنا إلى أهمية قول (لا أعرف) حين نجد أنفسنا أمام سؤال يتجاوز حدود معرفتنا واختصاصنا، ورجوعاً إلى منطلقنا الأول المتمثل  بالطب النفسي، فإنه من التخصصات الراقية جداً لانها تعطي أهمية خاصة للعلاقة بين المريض والطبيب، وتحترم فرادة كل إنسان على حدة، لكن ذلك التخصص يعاني أحياناً من تشوش في معرفة حدوده.

***

بقلم: سامي عادل البدري

طبيب نفسي من العراق

.................................

المراجع:

1. Bloch S. Soviet psychiatry and snezhnevskyism. In: van Voren R, editor. Soviet Psychiatric Abuse in the Gorbachev Era. Amsterdam, The Netherlands: IAPUP; 1989. pp. 55–61.

2. Daniel Zagury. (Vladimir Poutine est-il devenu fou?) Le journal du dimanche. Dimanche 9 mars 2022

3. https://www.lexpress.fr/actualite/societe/sante/vladimir-poutine-est-il-fou-il-a-au-moins-une-personnalite-megalomaniaque_2169181.html

 

في المثقف اليوم