قضايا

الحكم اعتماداً على العقول الناقصة

توفيق السيفكيف نوكل أمورنا الدينية والحياتية إلى عقل تتغير استنتاجاته بين يوم وآخر وبين شخص وآخر؟ وأي عقل هو المعيار: عقل الفقيه، أم عقل الفيلسوف، أم عقل الطبيب، أم عقل السياسي، أم عقول عامة الناس؟ وما العمل إذا اختلفت عقول الناس واختلفت آراؤهم، في أمور كبيرة تستدعي وحدة الرأي والموقف؟

هذه الردود هي الأوسع انتشاراً بين معارضي دور العقل في التشريع. والحق أنها صحيحة في ذاتها، لكنها لا تصلح للاستدلال. بعبارة أخرى، فإن العقل لا يتوقف عن نقد نفسه، فقد يتبنى اليوم رأياً وينقضه غداً. كما أن الناس ينظرون إلى نفس الموضوع أو يستعملون نفس الأدلة، لكنهم يتوصلون لنتائج مختلفة. وهذا ينافي الثبات والوحدة المفترضة في الأحكام الشرعية والقوانين العامة.

إن استقرار القانون وقابلية التنبؤ مسبقاً بنتائج التزامه أو مخالفته، ركن مهم من أركان العدالة.

هذا يوضح أن تلك الاعتراضات ليست ضعيفة أو هامشية. بل هي موقف العقلاء جميعاً. لكنها مع ذلك، لا تصلح لإنكار دور العقل-العلم في التشريع.

بيان ذلك: أن نقاشنا يتناول مرحلتين:

الأولى يوضحها سؤال: هل يستطيع العقل-العلم كشف الحسن والقبح في الفعل أم لا؟ هذا سؤال قائم بذاته، أصلي وتأسيسي، يجب قبوله أو رفضه من حيث المبدأ، وبغضّ النظر عن كون الكشف المدعى طويل الأمد أم قصير الأمد، ثابتاً أم متغيراً.

المرحلة الثانية: إذا قبلنا بفرضية أن العقل-العلم قادر على كشف الحسن والقبح في الأفعال، فما الطريقة الصحيحة لتحويل هذا الكشف من رأي لم يتفق عليه الناس، وهو قابل للتغيير أيضاً، إلى رأي ثابت ومورد إجماع، كي يشكل أساساً سليماً للحكم الشرعي والقانون؟

قلت سابقاً إنه لا توجد طريقة لإقناع معارضي دور العقل-العلم بتغيير موقفهم. أكثر ما نستطيع هو دعوتهم للتأمل في علاقتهم هم بالعلم والعقل والعرف، التأمل من دون قيود أو مخاوف، فذلك هو الطريق. لكن دعنا في الوقت الحاضر نفترض أنهم قبلوا بالمرحلة الأولى، أي قابلية العقل-العلم لكشف المصالح والمفاسد. لكن اعتراضهم مركّز على المرحلة الثانية، أي اتخاذ قرارات العقل-العلم أساساً للحكم الشرعي. والجواب عن هذا يعرفه كل العقلاء. فالعلماء في مختلف الحقول يدرسون المسائل ويتوصلون إلى نتائج (دعنا نطلق عليها رأياً علمياً أو فتوى علمية). ثم تقدم هذه الآراء والفتاوى لصاحب الشأن. صاحب الشأن هذا، هو الشخص أو الهيئة المخولة بوضع الأحكام الشرعية أو القوانين: ربما يكون قاضي المحكمة أو مجلس الشورى أو البرلمان أو الفقيه المرجع أو المفتي... بعبارة أخرى فإن الرأي العلمي قد يُصدره فقيه في الشريعة أو أستاذ في القانون أو خبير في الاقتصاد أو كبير مهندسين أو كبير أطباء أو غيرهم، فيعامَل بوصفه رأياً علمياً محترماً. لكنه غير ملزم لأحد. فإذا اختاره صاحب السلطة المختصة، فسوف يتحول إلى رأي ملزم لكل الناس، مثل حكم القاضي أو قانون البلد. وإذا تم إصداره على هذا النحو، فسوف يكون مستقراً لفترة زمنية معقولة، ولن يلغى إذا تغير رأي العالم أو تغيرت قناعة القاضي أو رئيس الدولة. إن تغيير الحكم أو القانون الذي دخل مرحلة التطبيق العام، سيخضع لنفس الإجراءات التي يمر بها حين ينتقل من رأي علمي شخصي إلى حكم عام.

***

توفيق السيف

كاتب ومفكر سعودي

 

في المثقف اليوم