تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

فاطمة الثابت: الظاهرة التي تختبئ خلف النص.. الترجمة من وجهة نظر سوسيولوجية

تشكل الترجمة وتتشكل من خلال العلاقات الاجتماعية وديناميكيات القوة والتفاعلات الثقافية، فالترجمة ليست مجرد نشاط لغوي، ولكنها ظاهرة اجتماعية وثقافية معقدة تتضمن نقل المعنى عبر اللغات والثقافات المختلفة، يدرس علماء الاجتماع الذين يدرسون الترجمة جوانب مختلفة، بما في ذلك الأدوار والممارسات الاجتماعية للمترجمين، والأطر المؤسسية التي تحدث فيها الترجمة، وتأثير الترجمة على العلاقات الاجتماعية والديناميكيات الثقافية. يحللون كيف تتوسط الترجمة التواصل بين مختلف الفئات الاجتماعية وكيف تؤثر على بناء الواقع الاجتماعي.

ويشير عالم الأجتماع الفرنسي بيير بورديو في مقالته "الشروط الأجتماعية لتناقل الأفكار عالمياً " الى الترجمة كرأس مال ثقافي وعلاقتها بديناميكيات السلطة، وشدد على دور المترجمين كعوامل للتكاثر الثقافي واستكشاف التوزيع غير المتكافئ للموارد اللغوية فيرى في مقالته المذكورة /ت نائلة منصور:

"أرغب اليوم أن أقترح عليكم بعض التأملات، التي تبتغي الهروب من طقوس الاحتفاء بالصداقة الفرنسية الألمانية والاعتبارات الإجبارية حول الهوية والآخَرية. أعتقد أنه في شأن الصداقة، كما في شؤون كثيرة، ليس جلاء الرؤية بمضاد للعاطفة، بل على العكس تماماً. وهكذا فإني أودّ أن أعرض عليكم بعض التأملات حول الشروط الاجتماعية للتناقل العالمي للأفكار، أو بعبارات اقتصادية لها دائماً أثر القطيعة مع ما سبق، تأملات حول ما يمكن أن نطلق عليه الاستيراد والتصدير الفكري، ما أريد توصيفه، إن لم تكن القوانين، حيث لا أملك تلك اللغة المدّعية، فهو على الأقل الاتجاهات في هذه التبادلات العالمية، التي عادة ما نصفها بلغة صوفية أكثر مما هي لغة عقلانية. باختصار، أريد اليوم أن أقدم برنامجاً لعلم العلاقات الدولية التي تنظم الشأن الثقافي أن عمليات النقل والترجمة ليست بريئة من هذه الحسابات، ولكنها تجري بشكل آخر عبر البلدان، ويدخل فيها الحقل الثقافي الخاص بكل بلد، وأيضاً سوء الفهم الناتج عن عدم تناظر أو تطابق الشروط والسياقات بين البلدان المتناقلة للأفكار والنصوص".

وفي نفس الأتجاه ترى منى بيكر (مصرية مختصة في دراسات الترجمة ومديرة مركز الترجمة والدراسات الدولية في جامعة مانشستر بإنجلترا)، في كتابها "الترجمة والصراع "

حيث أنطلقت بيكر من السرديات كمدخل للترجمة وتعرفها" هي القصص التي نحكيها لأنفسنا أو غيرنا عن العالم الذي نعيش فيه فالسرديات تمثل مجموعة من القصص العامة التي نؤمن بصحتها، ومن ثم نجعلها موجهاً لسلوکياتنا وليست فقط تلك التي نرويها على الأخرين- ونتخذ منها إدراك للطبيعة، أن النظرية السردية تعطي أفضلية للهوية الأختزالية کالعنصر، والجنس والعرق والدين، بل تقر بالكتب القابلة للتفاوض بالنسبة للواقع الأجتماعي والسياسي و تُحِظَرْ حُذْف الفاعلين الاجتماعيين ومن بينهم المترجمين كأفراداً من الحياة الحقيقية الى مجرد تجريدات نظرية و تُتيح لنا النظرية السردية أن نفسر السلوك تفسيرا حرکياً إذ تشجعنا على التفکير والتشکيك في السرديات التي نتبناها وتشکل سلوکنا، لکنها في الوقت نفسه تفترض تحررنا من تلکؤنا حتى مع تشککنا فيها،إضافة الى ذلك تقرأ النظرية السردية البنى الأجتماعية وتأثيرات النظام السائد، لهذا يمکننا تطبيق النظرية السردية على کل من اللغة والترجمة، فالنظرية السردية هي الدينامية التي تمنحها هذه النظرية للباحث في دراسة سلوك المترجمين خارج القوالب لنظريات الترجمة السائدة" فضلاً عن ذلك تؤكد بيكر " نحن في حاجة لتبني فهم أوسع للترجمة ووضع خطاب واقعي منفتح للدراسين من الحقول المعرفية الأخرى ولعامة الجمهور إضافة الى اتساع حقل دراسات الترجمة، حيث أصبح يستوعب المزيد من القضايا والسياقات، بما فيها موقع المترجم من صناعة النشر العالمي، والترجمة داخل تكتلات المؤسسات الإخبارية، والمنظمات الدولية والقومية، وفي صناعة الأفلام، وفي الشركات متعددة الجنسيات".

ومن هنا نستطيع أن نقر فهماً أوسع للترجمة كما يراه علم أجتماع الترجمة بوصفه عدسة اجتماعية يمكن من خلالها فهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية لعمليات الترجمة، وإلقاء الضوء على تعقيدات التواصل والتبادل الثقافي في عالم متنوع ومترابط، ووفقاً لذلك تشكل الترجمة فهماً واسعاً يتجاوز النص الى حقلاً يوظف المفاهيم الأتية:

- القوة والإيديولوجيا: يُنظر إلى الترجمة على أنها موقع يتم فيه التفاوض على علاقات القوة وإعادة إنتاجها، يحلل علماء الاجتماع كيف تؤثر اختلالات القوة بين اللغات والثقافات والمجموعات الاجتماعية المختلفة على ممارسات الترجمة، كما يفحصون كيف يمكن استخدام الترجمة كأداة لتعزيز أو تحدي أيديولوجيات معينة.

- الوكالة والوساطة: يُنظر إلى الترجمة على أنها ممارسة اجتماعية وثقافية يقوم بها الأفراد الذين يتخذون القرارات ويمارسون الوكالة، يستكشف الباحثون دور المترجمين كوسطاء بين الثقافات، ويفحصون القرارات التي يتخذونها والقيود التي يواجهونها.

- الشبكات والمؤسسات الاجتماعية: تحدث الترجمة ضمن سياقات اجتماعية ومؤسسية محددة، يدرس علماء الاجتماع الهياكل التنظيمية والمعايير والشبكات المهنية التي تشكل عمليات الترجمة. يقومون بالتحقيق في كيفية تأثير هذه السياقات على جودة النصوص المترجمة وإمكانية الوصول إليها وتوزيعها.

- النقل والتحول الثقافي: تلعب الترجمة دورًا حاسمًا في تداول الأفكار والمعرفة والمنتجات الثقافية عبر المجتمعات المختلفة، يبحث العلماء في كيفية تأثير الترجمة على الإنتاج الثقافي والاستقبال والتفسير، يستكشفون أيضًا كيف يمكن للترجمات أن تساهم في التهجين الثقافي وتشكيل الهويات الثقافية غير الوطنية.

- العولمة والتوطين: يبحث علم اجتماع الترجمة في التوترات والديناميكيات بين قوى العولمة والثقافات المحلية، يستكشف كيف تتأثر ممارسات الترجمة بالتدفقات العالمية للمعلومات ورأس المال والأشخاص، فضلاً عن كيفية مساهمة الترجمات في الحفاظ على الثقافات المحلية أو تحويلها.

بشكل عام تعتبر الترجمة أكثر من مجرد نشاط لغوي - فهي جزء لا يتجزأ من السياقات الاجتماعية، وتتأثر بالديناميكيات الاجتماعية، ولها آثار على العلاقات الاجتماعية، والتبادل الثقافي، وتوزيع الموارد. يساعد فهم الترجمة كوظيفة اجتماعية في إلقاء الضوء على تأثيرها وأهميتها المجتمعية الأوسع.

***

د. فاطمة الثابت

في المثقف اليوم