تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قضايا

سعيد بوسامر: العربية أم الفارسية؟ أم الإثنان معاً

خارطة لغوية لأطفال الأهواز

تتسائل الكثير من الأسر الأهوازية عن كيفية مجابهة الحالة اللغوية عند الأطفال ولاسيما الأطفال المقبلين على دخول المدارس الحكومية التي تدار على أساس اللغة الفارسية أي اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد. فماذا ينبغي أن يفعل الأبوان في هذه الفترة، قبلها، وبعدها؟ في هذا المقال وفي السطور القادمة المحكّمة بنتائج البحوث العلمية نرسم خارطة نأمل أن تفي بالغرض وتهدي الأسر الأهوازية سبيلا، حتى لا تخسر الأسرة طفلها المرتبط ارتباطاً نفسياً بلغته الأم ولا تخسر مستقبله المرتبط-إلى حد كبير- باللغة الفارسية.

بالنظر إلى تشكيلة المدارس في إيران فإنها تقتصر على منهجية أحادية فارسية لا تعترف باللغات  الأم للأطفال وليس هنالك خيارات. تُكتب وتؤلف الكتب الدراسية ويُدرّب المدرسون على أساس متلقين يتقنون الفارسية، عكس ماهو متداول في أغلب الدول المتحضرة ككندا وسويسرا والنرويج (الإيرانيون في ولاية بريتيش كلمبيا في كندا مثلا يمكنهم الدراسة بلغتهم الأم) وحتى في دول غير متحضرة كالدول المجاورة لإيران مثل أفغانستان التي تعترف بالباشتو والداري كلغتين رسميتين بهما يتم التعليم في جميع المدارس الحكومية؛ وفي العراق أيضاً الأكراد يدرسون بلغتهم الأم إلى جانب العربية. يحاول واضعو سياسة التعليم في إيران أن يوحّدوا كل الشعوب المتواجدة في هذه الجغرافية لغوياً وثقافياً تحت غطاء واحد-الدولة الأمة-  ولامراءَ أنّه أمر محال لكنه وفي مشروع احتواء شامل يؤثر على عقول البسطاء من الناس. تأتي المنهجية التعليمیة لتبدأ من التمهيدية أي روضة الأطفال باللغة الفارسية مما تسبب حالة نفور عند الطلبة العرب الأهوازيين الذين لم يمارسوا اللغة الفارسية في طفولتهم فهم من بيئة عربية يتحدث أفرادها باللغة العربية في حياتهم اليومية. وحالة النقل المفاجئ هذه تؤثر نفسياً على نمو شخصيته وتسبب له الاضطرابات لا محال (عازار، ۲۰۱۳).

ومن هذا المنطلق هنالك الكثير من الأسر الأهوازية  -بناءً على الإعلام الخاطئ والهادف لشطب اللغات الأم-تحاول محاولة غير دقيقة وغير علمية لمجابهة هذا الدخول المفاجئ للمدرسة فيبدأ كل من الأب والأم  أولاً باختيار اسم فارسي للطفل أو الطفلة ومن ثم التحدث معه بالفارسية دون العربية. يؤكد علماء النفس على أنّ ليس للأهل الحق أن يشطبوا اللغة الأم للطفل فهذه العملية ستدخل الطفل في نوبة نفسية قد تحبطه في الكثير من المهارات الإدراكية في المستقبل (هودال، ٢٠٠٥؛ ٢٨٦). نرى في أغلب الأحيان أنّ الأهل يتحدثون العربية مع بعضهم  البعض والفارسية مع أطفالهم وهنا يبقى الطفل يردد في نفسه لماذا الأب والأم والأقارب يتكلمون العربية ويمنعونها منّي؟ ومن هنا تبدأ عملية الانفصام من الأسرة والأهل. ينبغي أن يعرف الأبوان أن فطم الطفل من لغته الأم هو في الحقيقة فطمه من مجتمعه الذي يريد أن يربى فيه. إنّ اللغة الأم توحد الأسرة وتصلها بأمتها وهويتها وتأريخها وعملية فصل الأطفال عن لغتهم الأم -لا شك-سوف تفصلهم عن ثقافتهم ليتقمصوا ثقافة أخرى ويصبحوا غرباء في وطنهم.  يحث الباحثون الأهلَ أن يساعدوا الطفل في تنمية شعوره بهويته من خلال اللغة الأم لتقليل الآثار النفسية كالازدواجية والانفصام. تأسيساً على ذلك نؤكد على حلٍ درسه كاتب هذا المقال على أطفال في أسرته وقدمه لآخرين مما حقق الغاية المطلوبة في الظرف الذي يعيشه الأهوازيون. ولا غرو أن هذه النتيجة حالها حال أغلب الأبحاث والدراسات الميدانية ليست دقيقة مئة في المئة لكنها نفعت العينة أي أطفال الأسر القريبة من الكاتب.

ينطلق مشوار التعليم من البيت وهنا يأتي دور الأبوين ولاسيما الأم لأنّها تتعامل مع الطفل بنسبة أكبر. تقسم العشر سنوات الأولى من حياة الطفل إلى ثلاثة حقب تعليمية لغوية(ولا يفوتنا أن ننوه أنّ هذه العملية لا تطلب وقتاً وتنسيقا وبرمجة بل تأتي من تلقاء نفسها وبشكل عشوائي واعتيادي). الحقبة الاولى تبدأ من الأشهر الأولى من حياة الطفل حتى سنّ الخامسة. في هذه الفترة لا يمكن إدراج أية لغة غير اللغة الأم فمن الضروري أن يتشبع الطفل بلغته العربية في سنواته الخمس الأولى. هذه هي الفترة الحرجة التي سبق وتكلمنا عنها في مقالات عدة. (سيغلر،٢٠٠٦ و بوسامر ٢٠١٩). فاستناداً إلى ما سبق، على الأبوين أن يجعلا الطفل عرضة للغة العربية السليمة-الغير مشوهة- مما يضمن لهم أن الطفل يتلقى الصوتيات السليمة للغة العربية ويبدأ يفكر ويتحدث بلغته الأصلية بطلاقة .(رحاب البلد، ٢٠٠٥)  تأتي سلامة اللغة المعروضة على الطفل من خلال أساليب عدة منها قراءة القرآن الكريم، القنوات الفضائية الكرتونية العربية، قراءة القصص العربية عند النوم وحفظ الاشعار العربية .

أمّا الحقبة الثانية التي شرعنا بتجربتها تبدأ من عمر خمس إلى سبع سنوات. هذه الفترة تسمى فترة "التعليم الثنائي" حيث أدخلنا في عالم الطفل اللغة الفارسية كلغة ثانية إلى جانب لغته الأم كي نعدّه إلى الدخول إلى المدرسة وكي لا يصاب بصدمة عاطفية في المدرسة مع أقران ومدرسين يتحدثون الفارسية. هذه الحقبة الثنائية حقبة زمنية مهمة جدا بالنسبة لمستقبل الطفل وحياته المعيشية في إيران حيث لا مجال لدخول الجامعات ولا للتوظيف والعمل الحكومي والحر إلا باتقان اللغة الفارسية الرسمية.  ومن اللافت أن الحكومات دائما تحث أبناء القوميات على اتقان اللغة الفارسية(الخالية من اللكنة) من أجل التعليم والحصول على عمل أو الحصول على حياة كريمة.  لا مناص من القول هنا أننا دائما نكتب ونؤكد ضرورة التعليم باللغة الأم في المدارس الحكومية والمؤسسات التعليمية وتطبيق المواد الدستورية ١٥ و١٩ لكن، في الوقت الراهن لا يمكن إعمال ذلك ولا توجد أي بادرة أمل من قبل واضعي السياسات لهذا الامر رغم المطالبة الحقة والمستمرة من قبل الباحثين والناشطين من مختلف القوميات المتواجدة في جغرافية إيران؛ ويرى الودغيري أن الحكومات المهيمنة تمارس إزدواجية في الخطاب فإنها من جانب تدعوا إلى التعددية وتحسبها قوة لبلادها  ومن جهة أخرى تبذل المليارات لنشر لغاتها وفرضها على الشعوب الضعيفة (الودغيري، ٢٠١٣). في ضوء ما سبق تأتي وظيفة الأب والأم في فترة التعليم الثنائي بعرض اللغة الفارسية لساعتين -أقل أو أكثر- في اليوم (من خلال مشاهدة أفلام وكرتونات بالفارسية، المحادثة مع الطفل، قراءة القصص الفارسية، وترجمتهن للعربية). وتجدر الإشارة هنا أنّ الأبوين بهذه العملية قد يهيئان الطفل لغوياً وثقافياً للانخراط في المجتمع الأصغر-المدرسة- وثم إلى المجتمع الأكبر. إذن، هنا تعلّمَ الطفل وأتقن لغته الأم وتعلم لغة ثانية وأصبح ثنائي اللغة وهذه ميزة لكلّ طفل فالطفل الثنائي اللغة أقوى وأحكم دماغيا وعاطفيا من الطفل ذوي اللغة الواحدة. (باك وآخرون، ٢٠١٤).

تجربة الطفل للغة ثانية تعطيه المزيد من الإدراك في المفاهيم التي حوله ومرونة في نظامه العصبي وكفاءة أكثر في تعامله الاجتماعي قياسا مع الأطفال الذين لم يتقنوا سوى لغة واحدة أو الأطفال الذين يضحي أولياء أمرهم باللغة العربية للغة الفارسية فيشطبوها شطباً تامّا. لا ننسى أن نذكر أن للطفل القدرة على تعلم لغات عدة قبل سن السابعة فيمكن للأبوين أن يعرضوا الطفل للغة ثالثة (الإنجليزية مثلا) وبالممارسة والإصرار على التحدث بكل لغة على حدها وعدم الاختلاط بين اللغات ستأخذ كل لغة مكانها الخاص في دماغ الطفل.

الحقبة الثالثة والأخيرة تسمّی "الاستمرارية في الإشراف" وهي فترة تتحلى باستمرار العرض اللغوي المفيد والكافي حتى يتشبع الطفل بكل اللغات التي تعلمها من شهره الاول حتى سن السابعة. تبدأ هذه الحقبة من السابعة حتى العاشرة ويشرف الأب والأم على توفير الأدوات اللازمة من كتب وقصص وأفلام وبرامج تحكّم وتعزّز اللغات التي عُرضت على الطفل من عربية وفارسية وإنجليزية. تكتمل هذه الحقب الثلاث، والحصيلة ستكون طفلا متوازناً ادراکیاً وعاطفیاً يتحدث ويفهم ويفكر بلغتين أو ثلاث وهذا الطفل بالطبع سيعتز بلغته الأولى لأنّه أدرك أنها هويته الحقيقية ودونها سيفقد أهله أولاً وتاريخه ثانياً وأدرك أيضا أنّ الثقافة المهيمنة(الفارسية في المجتمع الإيراني) لا تقبل الهويات الضعيفة مهما حاولت الأخرى أن تتقرب إليها أو تنصهر فيها.

نافلة القول أمّا یؤكد الباحث على الالتزام والاهتمام بهذه المراحل الثلاث وعدم إهمال أيٍّ منها لأنها مراحل حساسة بالنسبة لمستقبل الأطفال العرب في الأهواز الذين لطالما أصبحوا ضحية اللامساواة في عملية التعليم. بهذا يستطيع الأبوان أن يتقدما خطوات إلى الأمام فإنهما رسخا اللغة الأم في حياة الطفل إضافةً إلى تعليمه لغات أخرى، وجعلاه متعدد اللغات وشخصية ذات ثقة عالية ودماغ مرن يستطيع أن يجابه الوظائف والفروض المتعددة بسهولة.

***

سعيد بوسامر

 كاتب وباحث أهوازي تخصص في علوم اللغة و نشر كتاب أنا لغتي وعدة مقالات في هذا الشأن.

........................

المصادر:

- رحاب، سعدة البلد. مفهوم اللغة في حياة الطفل الكاتب. Www.maganin.com, 2005

- عازار کالین. بین اللغة الأم واللغة العلمية واللغة الموضة. ماذا يدور في رأس الطفل. مجبة لاها. ٢٠١٣.

-الودغیري، عبدالعلي. لغة الأمة ولغة الأم. بيروت دار الكتب العلمية، ٢٠١٣.

Hodal, T. (2005). Using language . Cambridge university press.

Siegler, Robert. (2006). How children develop, exploring child development. Newyork: worth publishers.

-Thomas, H. Bak, Jack. Nissan, Michael M. Allerhand, lan, j. Deary (2014). Does bilingualism influence cognitive aging .

في المثقف اليوم